الأزمة في أفغانستان أعادت التأكيد من بين قضايا أخرى على التعقيد الذي يَسِم العلاقات الدولية في طورها الحالي. اتخاذ الكارثة الناجمة عن الانسحاب الأميركي، من هناك، طابعاً عالمياً، هو أحد مظاهر هذا التعقيد، والذي لم يكن مطروحاً بهذا الشكل قبل عشرين عاماً، حينما احتلّت الولايات المتحدة هذه الدولة، على إثر هجمات 11 أيلول 2001. التداخل الكبير الحاصل بين مصالح الدول المختلفة في أفغانستان، غداة سيطرة طالبان عليها، يطرح سؤالاً عن المتغيّرات التي باتت تحكم الوضع هناك، جرّاء فشل السياسة الأميركية في إرساء نموذج حكم، يكون بديلاً للحركة الإسلامية، التي شُنَّت عليها الحرب طوال عشرين عاماً. وهو أمر يقود، بالإضافة إلى تعثّر نموذج القيادة الأميركي للمرّة الثانية، بعد تجربة العراق، إلى المزيد من التشابك في مستويات الصراع، بحيث تأخذ، أكثر فأكثر، طابعاً دولياً متعدّد الأقطاب، ولكن بالمعنى المضادّ للمركزية الأميركية، وبدرجة أقلّ الأوروبية.
الخشية من تراجع الحماية الأميركية
الأسئلة التي تُطرَح الآن حول جدوى الانسحاب بهذه الطريقة، لم تعد تقتصر على الأوساط الجمهورية المناوئة للديمقراطيين، والقريبة في معظمها من الرئيس السابق دونالد ترامب، بل تعدّتها إلى الحلفاء الغربيّين أنفسهم الذين استبشروا خيراً، غداة القمة التي جمعت بايدن بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في جنيف، على اعتبار أنّ اللهجة القويّة المستخدمة حينها كانت تبشّر بعودة الولايات المتحدة لسياسة القيادة النَشِطة، على الصعيد العالمي، بعد التخلّص من إرث ترامب، الانعزالي، في السياسة الخارجية. بالنسبة إلى هؤلاء، كان يُفترَض بالانسحاب من أفغانستان أن يكون استكمالاً لهذه القطيعة المُعلنة مع انعزالية ترامب في السياسة الخارجية، لا أن يتحوّل إلى استكمالٍ لها، بوسائل أخرى. والحال أنّ التصريحات النقدية لبعض دوائر القرار الأوروبية، وحتى الأطلسية، تعليقاً على شكل الانسحاب وتداعياته على الموقف الجيوسياسي للغرب، بدأت تذكّر بتلك التي كانت تستخدم، هناك، للنيل من سياسات الرئيس السابق ترامب، الخاصّة بإعادة النظر بالسياسة الغربية عامّةً، والأطلسية خاصّة. ويبدو أنّ ثمّة وجهة في الدول الصانعة للقرار الأوروبي، مثل ألمانيا وفرنسا، بدأت بالتشكيك، ليس فقط بسياسة الجمهوريّين مع ترامب، بل بالسياسة الأميركية عامةً، حتى لدى الحلفاء الديمقراطيين، الخاصّة بوحدة الموقف الجيوسياسي الغربي، في مواجهة القوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين وروسيا. إذ باستثناء وحدة الموقف من السياسة الروسية في أوكرانيا وبيلاروسيا ودول البلطيق، ثمّة تصدّعاتٌ فعلية على كلّ صعيد آخر، من الموقف من الصين والحرب التجارية معها، إلى الخلاف، حتى مع الديمقراطيين، على وتيرة الانتهاء من الملف النووي مع إيران، وصولاً إلى ملفّ كوريا الشمالية، المجمّد حالياً. حين رحل ترامب عن الحكم كان ثمّة تصوُّر لدى حلفاء الولايات المتحدة، الأوروبيين، وعلى رأسهم ألمانيا وفرنسا، بأنّ رحيله سيسرّع في رأب الصدع بين ضفّتي الأطلسي. وكان الرأي السائد، حينها، أنّ الأجندة الجمهورية المتعارضة مع العولمة واتفاقيات التجارة الحّرة وسياسات الدفاع الأطلسية التي يقودها، هي السبب وراء التصدّع الحاصل في العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها. ولكن مع اتضاح معالم السياسة الديمقراطية أكثر، تبيَّن لهؤلاء أن المشكلة ليست تماماً هنا، لأنّ بايدن لم يأتِ لنقض إرث ترامب كاملاً، بل للاستفادة ما أمكن من التراكم الذي أفضت إليه سياسة المواجهة القصوى الخاصّة به، بغية تعديل موازين القوى مع الخصوم، وخصوصاً لجهة الحرب التجارية مع الصين. حتى في الملفّات التي أعاد الديمقراطيون ترميمها، مثل العودة إلى اتفاقية المناخ والالتزام بسياسات الدفاع الأطلسية ومعاودة العمل باتفاقيات التجارة الحرّة المتعدّدة الأطراف، لم يلمس الأوروبيون الجدّية التي كانوا يتوقّعونها من إدارة بايدن. هذا دفعهم إلى تلمّس طريقة أخرى لحماية مصالحهم ، العسكرية والأمنية والتجارية، غير ذاك الخاصّ بالتحالف مع الولايات المتحدة، وهو ما تمّ التعبير عنه في مناسبات مختلفة، آخرها الأزمة الحالية في أفغانستان، وعلى لسان مسؤولين كبار في الاتحاد الأوروبي.

التمايز الروسي الصيني
هذا التصدُّع في الموقف الجيوسياسي للغرب، انعكس سياسياً، وحتى ميدانياً، لمصلحة الخصوم في روسيا والصين. وهو ما أفضى إلى التمايز الحاصل حالياً في مواقف هاتين الدولتين من عملية استيلاء طالبان على الحكم. فبخلاف التريّث الأوروبي والأميركي، أبدى الروس والصينيون دعماً مشروطاً لعملية انتقالٍ سياسي، تكون طالبان جزءاً منها، على أن تعكس في حال حصولها على نحوٍ سلس، مصالح مختلف الأطراف السياسية الأفغانية، حتى خصوم طالبان في مقاومة بنجشير، وبالتالي تمثّل أوسع شريحةٍ ممكنة من الطّيف السياسي والاجتماعي هناك. الاستعداد لدعم عملية سياسية تكون طالبان جزءاً منها، لا تمثّل بالضرورة تأييداً روسيا وصينياً لما تمثّله الحركة، لأنّ الخلاف معها، أيديولوجياً، أكبر منه في الغرب، وخصوصاً لدى الروس الذين خاضوا حرباً مع الإسلاميين هناك، طوال حقبة الثمانينيات من القرن الماضي. فضلاً عن التهديد الجيوسياسي الذي يمثّله وصول حركة إسلامية متشدّدة إلى السلطة، على كلٍّ من الدولتين اللتين تتشاركان مع دول غرب ووسط آسيا، ومنها أفغانستان، الفضاء الجيوسياسي ذاته، وهو، أيضاً ما لا يؤرِّق الغرب بالقدر نفسه. وبالإضافة إلى كلّ ذلك، فإن الانسحاب نفسه قد حصل بالاتفاق مع الولايات المتحدة بإجماع الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، ومن ورائها حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ومجمل المنظومة الغربية. روسيا والصين لم تكونا جزءاً من هذه العملية، حتى يتمّ تحميلهما حالياً، مسؤولية إضفاء الشرعية على حكم طالبان عبر دعم عملية سياسية انتقالية لا تقتصر على هذه الحركة وحدها، عبر اشتراط التمثيل الواسع لدعمها. والحال أنّ إضفاء الشرعية على استيلاء طالبان على السلطة، سواءً بالشكل الفوضوي الذي حصل مع إدارة بايدن، أو عبر تقييد حركة طالبان أكثر كما كان يعد ترامب، هو ثمرة ليس فقط «الهزيمة الأميركية» هناك، بل أيضاً التسليم من الولايات المتحدة وحلف الأطلسي بأنّ شكل التدخّل الذي حصل بُعَيد غزوة نيويورك، قد ساعد طالبان على الانتشار أكثر ممّا أضعفها. ولذلك فإنّ استيلاءها على السلطة كان متوقّعاً، سواءً حصل الانسحاب اليوم، أم تمّ تأجيله لسنوات، وهو ما أقرّت به الولايات المتحدة نفسها من خلال المسارعة إلى التفاوض معها في الدوحة، بغية الحصول على ضمانات منها لإدارة الانتقال، تكون كافية لعدم حصول فوضى في أعقابه، كما تبيّن لاحقاً. الفوضى التي حصلت كانت أكثر ممّا توقّعت أكثر التحليلات تشاؤماً بشأن الانسحاب، وهو ما جعل معظم النقد، حتى من جانب الصحافة الأميركية، ينصبّ على أصل التدخّل هناك، لا على إدارة الانتهاء منه. المقاربتان الروسية والصينية، بهذا المعنى، تصبّان في هذا الاتجاه، حيث تبدوان منشغلتين بإبراز مساوئ حصول تدخّل عسكري في بلاد، لم يستقرَّ فيها يوماً أيّ احتلال أو تدخّل، حتى ذاك الروسي. وهو ما يضفي شرعية أكبر على دعمهما «للحلّ السياسي» هناك ، ويقلّل من أهمية الأصوات التي تضع دعوتهما لانتقالٍ سلس وأكثر تمثيلاً من الناحية السياسية، في إطار دعم طالبان، أو مناكفة الغرب، جيوسياسياً.

مشهد متغيّر... ولكن
على أن ذلك كلّه، لا يقلّل من خطورة ما تمثّله طالبان على المجتمع الأفغاني، لأنّها لم تتغيّر كثيراً، بخلاف ما يُقال في الإعلام، بغية تبرير استيلائها على السلطة. جمعها بين الخطاب التكفيري، حتى بعد إعادة إنتاجه، والتقليد القبائلي الصارم الخاصّ بقبائل الباشتون، يجعل من أيّ عملية انتقال أو تمثيل سياسي مُحتَمل، راجحة ليس لمصلحتها فقط، بل أيضاً لمصلحة ما تمثّله من نكوص، على صعيد الحقوق والحريّات، الخاصّة بالفئات الضعيفة والمهمَّشة، مثل النساء والأقليّات إلخ. الضمانات التي بدأت بتقديمها لعدم حصول ذلك، ليست كافية، في ظلّ اختلال موازين القوى لصالحها، وفي غياب قوى اجتماعية قادرة على كبح جموحها إلى السلطة، غير تلك الموجودة في وادي بنجشير، والتي تعوّل بشكل مبالَغ فيه على الدعم الغربي، إلى درجة التلوّيح بفقدان الغرب آخر حلفائه في أفغانستان، ما لم يبادر إلى دعم مقاومتها لطالبان. المشهد هناك، يتغيّر بسرعة، لغير مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها، ولكن ليس لمصلحة الشعب الأفغاني بالضرورة.
*كاتب سوري