اختار حزب الله أن يلتزم الصمت وجماعة 8 آذار لا تريد أن تعكّر صفو العلاقة مع البطريركيّة المارونيّة. جمعيّات وأفراد ولجان مقاطعة العدوّ الصهيوني هم وحدهم في الميدان ولا من يسندهم - لا بل هم يواجهون بالاتهام بفرض «الإرهاب الفكري» (والمصلطح هو عنوان الاختراق الصهيوني التطبيعي الجديد). العدوّ الإسرائيلي «يدخل» متى وكيفما شاء إلى الأراضي اللبنانيّة فيما يطلب ميشال سليمان ـ الذي لم يتلقّ أموالاً سعوديّة تثميناً لمواقفه كما زعم مغرضون ومغرضات ـ من وزير الطائفيّة الخارجيّة التحقّق من كلام منسوب إلى رجل إيراني أضرّ بالسيادة اللبنانيّة الغالية، ونبيه برّي هدّد بمقاطعة الاجتماعات الثلاثيّة (التي تضمّ ممثّلين عن العدوّ) في الناقورة كردّ قوي على عدوان وخروقات العدوّ (يعني نردّ على العدوّ بالتهديد بعدم التكلّم معه لفترة وجيزة جدّاً).
البطريرك الماروني عقد النيّة على تفقّد الرعية في فلسطين المحتلّة. وخلال الأيام الماضية بدأت مصادر البطريركيّة بتزويد وسائل الإعلام بأرقام متصاعدة لعدد الموارنة في فلسطين المحتلّة. والنسبة ترتفع على مدار الساعة وقد تصل إلى مليون ماروني، من دون حسبان المليار ماروني في بلاد الاغتراب. البطريرك يتفقّد الرعيّة، فما الغرابة؟ هو لا يخلد إلى النوم قبل التحقّق من وضع الرعيّة في فلسطين، قبل الأكل وبعده. أليس البطريرك هو بطريرك أنطاكية وسائر المشرق؟ صحيح أنه لم يتفقّد أنطاكية بعد، لكن ماذا عن سائر المشرق؟ لماذا تُحرّم عليه؟ من حق البطريرك تفقّد الرعيّة أينما كان، ولو في الصين، أو هكذا يقول مناصرو زيارة البطريرك إلى فلسطين المحتلّة. لكن للموضوع خلفيّة.
لا يمكن مناقشة موضوع زيارة البطريرك الراعي إلى فلسطين المحتلّة من دون العودة إلى تاريخ دور البطريركيّة في الصراع العربي ــ الإسرائيلي. هناك من يضيف أن البطريركيّة تعتبر أن «إسرائيلي عدوّ (ولكن)» - على طريقة خطاب حركة 14 آذار. لا، ليس للبطريركيّة المارونيّة تاريخ من العداء نحو العدوّ الإسرائيلي. ما يكمن قوله هنا إن هناك اليوم أكثر من أي يوم، حاجة ماسّة إلى الإفراج عن وثائق البطريركيّة حول العلاقات التاريخيّة مع الحركة الصهيونيّة، وفيما بعد مع العدوّ الإسرائيلي. نعلم اليوم أن البطريركيّة المارونيّة أقامت علاقات سريّة مُبكّرة مع الحركة الصهيونيّة. رأت البطريركيّة المارونيّة تلازماً بين المشروع الصهيوني وبين مشروع إنشاء كيان طائفي مسيحي في لبنان. هذه حقائق لا تغيّبها حسابات ونفاق 8 آذار و14 آذار، ولا تغيّبها كتب التاريخ المزوّرة التي تزعم ان الشعب اللبناني كان ولا يزال متوحّداً حول العداء للصهيونيّة. إميل إدة كان يعرض خدمات على الحركة الصهيونيّة وكان قادة الصهيونيّة يخافون عليه منها.
لم يكن الترحيب الذي لاقاه المشروع الصهيوني عند بعض الساسة وأحبار الكنيسة في لبنان إيديولوجيّاً بالضرورة على بشاعته. عند هؤلاء العملة الأجنبيّة والحسابات الطائفيّة تتخطّى كل العقائد والأديان والأوطان، وتفوقها أهميّة. كان البطريرك عريضة (الذي ليس هناك من لبث حول اعتناقه المشروع الصهيوني باكراً وإن كان أكثر مداهنة من المطران إغناطيوس مبارك الذي جاهر أكثر من غيره في صهيونيّته) يتعامل تجاريّاً مع المشروع الصهيوني حتى أنه عرض بيع بعض أملاك الكنيسة في بيروت من أجل توطين مهاجرين يهود فيها. القصّة عند إميل إدة كانت مختلفة. الدافع عند إده وعند غيره من المتعصّبين بين الساسة آنذاك هو التعامل المُشترك مع «الخطر الإسلامي» وضرورة التخلّص منه. أصرّ إده على وهب - من «كيسه»؟ - منطقة صيدا وصور للحركة الصهيونيّة من أجل توطين نحو 100000 مهاجر يهودي فيها (ارتاب الصهاينة في المشروع لأنهم يريدون الأرض لكن من دون السكّان - مسلمين كانوا أم مسيحيّين)، واعتبروا المنحة «ملغومة». والحق، أن خطة الصهاينة السريّة منذ العشرينيات في «زرع الشقاق» بين المسلمين والمسيحيّين في فلسطين لم تلق آذانا صاغية وترحيباً إلا عند بعض الموارنة في لبنان (أفراداً وفي الكنيسة حتى لا نعمّم عن طائفة كان فيها وبينها معارضون مبدئيّون ضد الصهيونيّة فيما كان بعض الأفراد المسلمين من المتعاملين مع الحركة الصهيونيّة).
تعامل عدد من اللبنانيّين مع الحركة الصهيونيّة ومع الهجرة اليهوديّة كما أتقن كثير من اللبنانيّين في التاريخ المعاصر التملّق للدينار الخليجي وأصحابه. عرض وسطاء من قبل البطريرك عريضة مشاريع تجاريّة على أقطاب الصهاينة في لبنان ورغبوا في موارد السياحة اللبنانيّة. وتهريب المهاجرين عبر الحدود الجنوبيّة كان بدافع المال ومن دون اعتبار المضاعفات على الخريطة السياسيّة للمنطقة برمّتها. وعمليّة بيع الأراضي من قبل لبنانيّين (من طوائف مختلفة) كانت بدافع مالي محض.
لكن الخلفيّة التاريخيّة باتت معروفة، أو هي يجب أن تكون معروفة وقد كتب فيها كثيرون وكثيرات. متى تصبح هذه الحقائق جزءاً من المنهاج المُقرّر كي يعي الطالب والطالبة اللبنانيّة أسباب وظروف التغلغل الصهيوني في لبنان، ماضياً وحاضراً؟ والعلاقات الممتازة التي أقامها البطريرك عريضة (والمطران مبارك) مع الحركة الصهيونيّة لم تكن علاقات عاديّة أو فرديّة لا بل كانت بصفة تمثيليّة (أو هكذا رآها رأس الكنيسة في لبنان). وقد لجم الانتداب الفرنسي الحماس الصهيوني عند بعض الساسة والقساوسة في لبنان لأنه رأى فيه تهديداً مباشراً لمشروع تكوين (مسخ) وطن لبناني يضمّ مختلف الطوائف. لكن البطريرك ذهب بعيداً وتوّج (بالمعنى السفلي للكلمة) علاقاته وتحالفاته مع الصهاينة عبر توقيع اتفاقيّة بينه - وبالنيابة (كما قال) عن الكنيسة وعن الطائفة المارونيّة برمّتها - وبين برنار جوزيف بالنيابة عن الوكالة اليهوديّة في 30 أيّار 1946. وقد وافق البطريرك في البند الأوّل من الاتفاقيّة على الحق اليهودي في فلسطين وعلى حق إنشاء دولة يهوديّة على أرض فلسطين. أما البند الثاني فقد تضمّن وعداً ان «البرنامج المتسع والمترامي» للحركة الصهيونيّة لا يشمل هجرة يهوديّة إلى لبنان (هذا الوعد انحصر حتماً بتلك الأراضي التي أرادتها الكنيسة ان تكون جزءاً من الكيان الطائفي المسخ ولم يسرِ على أراض منطقة صيدا وصور التي أرادها حلفاء الصهيونيّة في لبنان ان تتحوّل إلى ملاذ للهجرة اليهوديّة). والتزم الطرفان في البند الثالث التمنّع عن اتخاذ قرارات أو القيام بأعمال تضرّ بالطرف الآخر. وتضمّن البند الرابع وعداً بالترحيب «الودود» بممثّلي البطريركيّة المارونيّة في فلسطين بعد إنشاء دولة يهوديّة (هذا البند هو الذي أدّى إلى التطبيع الحصري بين الكنيسة وبين دولة العدوّ تحت عنوان «تفقّد الرعيّة»، والذي على أساسه يزور الراعي فلسطين بعد أيّام)
لم تأتِ الزيارة المُزمعة من فراغ ولم يأتِ الاعتراض عليها من فراغ ولم يكن الصمت حولها من فراغ. إن تاريخ البطريركيّة المارونيّة في الصراع العربي ــ الإسرائيلي هو تاريخ لا ينزّه البطريركيّة عن الشك والارتياب والقلق. ليس تاريخ البطريركيّة تاريخ ملؤه الحزم في مواجهة العدوّ الإسرائيلي أو تاريخ مناصرة القضيّة الفلسطينيّة. قد لا يريد أنصار البطريرك العودة إلى البطريرك عريضة أو العودة إلى المطران مبارك، لكن هذا جزء من التاريخ الرسمي للبطريركيّة. فلنعد إلى تاريخ قريب، كيف تعاطى البطريرك صفير مع القضيّة الفلسطينيّة عبر عقود تولّيه مهمات البطريركيّة؟ هل اتخذ موقفاً حاسماً وحازماً ضد العدوّ الإسرائيلي حتى في سنوات احتلال العدوّ لجنوب لبنان (أو اكثر)؟ هل عبّر البطريرك في خطبه (أو حتى في يوميّاته التي نُشرت في جزئيْن) عن مناصرة لحق الشعب الفلسطيني؟ هل كانت معارضة صفير النظام السوري موازية (وقد رفض زيارة سوريا البلد بحجّة معارضته للنظام) موقفه من الكيان الإسرائيلي الغاصب؟
الراعي رفض كلّ الانتقادات (وهي محصورة في مواقع التواصل الاجتماعي) وأصرّ على تفقّد الرعيّة في فلسطين المحتلّة. وهو ذكّر أن الدولة اللبنانيّة قرّرت بعد اتفاقيّة الهدنة عام 1949، ومن دون مناقشة نيابيّة أو مداولات مُعلنة في مجلس الوزراء، ان مقاطعة العدوّ الإسرائيلي الشاملة والقاطعة تستثني لسبب من الأسباب أفراد الكنيسة المارونيّة. لكن ما سبب هذا الاستثناء، وما المُراد منه؟ وكيف تمّ هذا الأمر وتحت أي شروط؟ ومن قام بإجراء المفاوضات مع العدوّ الإسرائيلي من أجل تسهيل الانتقال من لبنان وإليه؟ وكيف يتمّ الاتصال بين الكنيسة المارونيّة ودولة العدوّ للترحيب بأفراد الكنيسة أثناء عبورهم إلى فلسطين المُحتلّة؟ لا نظنّ ان الراعي يريدنا ان نصدّق ان المطارنة والكهنة والرهبان في الكنيسة المارونيّة يتوجّهون بسيّارتهم إلى فلسطين المُحتلّة من دون تنسيق مسبق مع العدوّ، وأنهم يمضون على غير هدى بمجرّد العبور عبر الحدود.
تعامل عدد من اللبنانيّين مع الحركة الصهيونيّة ومع الهجرة اليهوديّة


هل يظنّ البطريرك أنه يسوق حجّة دامغة عندما يستشهد بموافقة محمود عبّاس على الزيارة؟

تعود إلى صفحة داخليّة من جريدة «النهار» في 14 نيسان 1975 - أي بعد يوم واحد فقط من مجزرة عين الرمّانة - وتقرأ ما يلي: «وصل يوم الجمعة إلى حيفا قادماً من لبنان الأسقف الماروني شربل قسّيس يرافقه سكرتيره السيّد مانويل خوري، وتهدف زيارة الأسقف لحيفا إلى البحث في إمكان قيام أبناء الطائفة المارونيّة في إسرائيل بزيارات للبنان». هذا الخبر يُقلق أنصار نظريّة المؤامرة - من أمثالي - لأكثر من سبب. ما سبب هذه الزيارة في تلك الظروف المكفهرّة آنذاك؟ وكيف يمكن البحث في فتح باب الزيارات إلى لبنان من فلسطين المُحتلّة - وعلى أساس طائفي محض - من دون مفاوضات مع سلطات العدوّ الأمنيّة والعسكريّة والسياسيّة؟ ومن فوّض قسّيس للقيام بتلك المهمّة؟ هل أذنت الحكومة اللبنانيّة له بذلك أم ان النظام الرئاسي الأحادي الطائفة آنذاك لم يتطلّب قراراً حكوميّاً؟ وشخصيّة قسّيس بالذات تلفت النظر لأنه كان من الوجوه المساندة للتنسيق والتحالف مع العدوّ الإسرائيلي منذ الحقبة الأولى من الحرب الأهليّة. وقسّيس أنشأ ميليشيا خاصّة به ولا نعلم إذا كان أمر تسليحها وتدريب عناصرها تمّ في أثناء تلك الزيارة.
لكن على البطريرك الراعي ان يدرك ان أي موقف يتعلّق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولو تعلّق في شؤون الحمضيّات، هو قرار يقع في صلب السياسة الخارجيّة للبنان. ولم تعد البطريركيّة المارونيّة تحظى بغطاء طائفي من النظام الرئاسي السابق كي تجري مفاوضات وتعقد اتفاقيّات أو لتبادر في السياسة الخارجيّة كما تريد. وكما ان عدداً من الساسة والأفراد الموارنة اعترض بشدّة قبل إنشاء الكيان الغاصب على تصريحات ومواقف المطران مبارك المُساندة وبقوّة للحركة الصهيونيّة، فإن قرار البطريرك الراعي لا يستقيم حتى ولو أجمع كل أفراد طائفة واحدة عليه - وهذا لم يحدث، ولن يحدث قطعاً.
لكن قبل ان نمضي في الحديث عن زيارة الراعي المرفوضة سياسيّاً وأخلاقيّاً، من الضروري مطالبة البطريركيّة المارونيّة بالإجابة على عدد من الأسئلة:
هل ستفرج، أو متى ستفرج، البطريركيّة المارونيّة عن كل الوثائق المُتعلّقة بعلاقاتها واتفاقيّاتها مع الكيان الغاصب، ومع الحركة الصهيونيّة قبل إنشاء الدولة؟
لماذا تصرّ البطريركيّة على ضرورة تفقّد الرعيّة في فلسطين المُحتلّة وهي لم يُعرف عنها دفاعها في الماضي وفي الحاضر عن حق الشعب الفلسطيني، بكل طوائفه، في تحرير أرضه؟ ولماذا لم تبدر مواقف قويّة ضد دولة العدوّ، حتى من منطلق طائفي لأن الصهيونيّة دمّرت قرى مارونيّة (وغير مارونيّة) في احتلالها العنفي، كذلك إنها طردت موارنة فيما طردت من شعب فلسطين؟ لماذا يكون التفقّد غير مرتبط بموقف قوي (يتخطّى موقف 14 آذار الطريف من نوع «إسرائيل عدوّ بس اشتقنا له»)؟
لماذا يصرّ البطريرك على مرافقة البابا في زيارته مع ان الفاتيكان أوضح ان الراعي ليس عضواً في الوفد الرسمي، أي ان الفاتيكان تنصّلت من مبادرة الراعي؟
ولماذا سوّغ عداء البطريرك صفير نحو النظام السوري مقاطعة صارمة وقاطعة للرعيّة المارونيّة في سوريا، وهي تفوق عدداً حجم الرعيّة المارونيّة في فلسطين - هذا على افتراض ان هناك عداءً من قبل البطريركيّة نحو الكيان الغاصب؟
لماذا أقامت البطريركيّة المارونيّة قداديس إلهيّة لضحايا أميركيّين وغربيّين عبر السنوات ولم نسمع مرّة ان البطريركيّة أقامت قداساً إلهياً واحداً لضحايا فلسطينيّين؟
هل كانت البطريركيّة صادحة ومجاهرة برفضها الاحتلال الإسرائيلي لأرض لبنان، ام ان صوتها كان خافتاً أو هامساً أو غير موجود؟
ما هو مغزى ما أورده الأباتي بولس نعمان في مذكّراته ان مواقف البطريرك خريش المُعادية للعدوّ الإسرائيلي لم تترك ارتياحاً في صفوف أوساط الفريق الانعزالي (والذي ضمّ كهنوتاً) أثناء سنوات الحرب؟
هل يظنّ البطريرك الراعي انه يسوق حجّة دامغة عندما يستشهد بموافقة محمود عبّاس على الزيارة؟ هل تزيد شرعيّة سلطة الاحتلال الرديفة عن شرعيّة أنطوان لحد أو عن شرعيّة «فيدكون كوزلنغ» في الحرب العالميّة الثانيّة؟
لنفترض جدلاً ان الراعي يذهب إلى فلسطين عن حسن نيّة وذلك من أجل دعم الشعب والحق الفلسطيني. متى كانت آخر (أو أوّل) زيارة من بطريرك ماروني إلى مخيّم فلسطيني في لبنان وهم لا يبعدون عن بكركي أكثر من المسافة إلى الناقورة؟ هل يحتاج هؤلاء إلى تفقّد؟ وماذا كان موقف البطريركيّة من مجزرة مخيّم ضبيّة في سنوات الحرب، وجل سكانه كانوا من المسيحيّين؟
ونسأل السدة البطريركيّة: لقد أقامت الكنيسة رسميّاً وبحضور ممثّلين عن الرؤساء الثلاثة احتفالاً تكريميّاً للمطران الصهيوني الصفيق، إغناطيوس مبارك، ولقد أطنب المطران بولس مطر (خلفه في مركز العاصمة) في مديحه. هل كان ذلك بمثابة إعادة الاعتبار لمطران نبذه أهل بلده بسبب تبنّيه الرسمي للعقيدة الصهيونيّة؟ وما هو الموقف الرسمي الحالي للكنسية إزاء دور إغناطيوس مبارك المشين؟
يقول البطريرك الراعي وأنصاره ان الزيارة تهدف إلى منع تهويد القدس. كيف سيحدث ذلك؟ كيف سيمنع الراعي من خلال زيارته تهويد القدس؟ ثم لماذا لم تصدر عن الراعي من قبل مواقف صريحة ومجاهرة ضد تهويد القدس؟ ألم يكن أجدى لو أن الراعي يحارب - بالموقف على الأقل - العدوّ الإسرائيلي من لبنان ومن عواصم عربيّة وغربيّة؟ لقد زار البطريرك الماروني صفير العاصمة واشنطن أكثر من مرّة (وثبت في كتاب «السادس والسبعون» لأنطوان سعد ان زيارة واشنطن كانت عزيزة جداً على قلب البطريرك وسعى إليها جاهداً) لكن هو لم يتفوّه مرّة بكلمة من هناك ضد العدوّ الإسرائيلي. على العكس، هو تحدّث ضد مقاومة العدوّ الإسرائيلي في آخر زيارة.
وتحدّثت أوساط البطريرك عن لقاءات محتملة له مع عائلات عملاء وإرهابيّي جيش لحد الذين واللواتي أمعنوا خراباً ودماراً في لبنان في سنوات الاحتلال وبعده. لماذا يحظى هؤلاء ولأسباب طائفيّة محضة بتغطية من البطريركيّة؟ ليس الاحتلال الإسرائيلي لأرض لبنان هو أوّل احتلال والتعامل مع الاحتلال عوقب عبر التاريخ بطرق غير سلميّة. المقاومة الفرنسيّة لم تكن تستثني عوائل العملاء من قصاصها لأنها كانت تريد ان تعلن ان العميل يحمّل نفسه ويحمّل عائلته العواقب. أما البطريركيّة فهي عملت وجهدت من أجل تخفيف العقوبة على العملاء ومن أجل التعامل مع عائلات العملاء على انها ضحاياً، وكأن أهل الجنوب هم الذين طردوهم من ارضهم. هل ينسى الراعي ان هؤلاء فرّوا مذعورين من لبنان بمجرّد إعلان انسحاب العدوّ الذليل من لبنان تحت وقع ضربات المقاومة؟ عمّاذا سيتحدّث الراعي معهم؟ في أي من الشؤون سيتباحثون؟ هل سيطالب لبنان باستقبالهم بالزهور والرياحين؟
إن تاريخ البطريركيّة في زمن الصراع العربي ــ الإسرائيلي يُحسب ضدّه لا معه. إن الشكوك حول مرامي ونتائج الزيارة مُحقّة لأن البطريركيّة لم تتخذ في القرن الماضي أو الحالي مواقف قويّة ضد الاحتلال الإسرائيلي. يرفض البطريرك الماروني مناقشة فكرة زيارته ويقول ردّاً على منتقديه انهم أحرار في عدم قبولها. ليس هذا هو الموضوع والأمر ليس متعلّقاً بعادات اجتماعيّة أو طقوس بروتوكوليّة. هناك جالية درزيّة في فلسطين المحتلّة ولم نسمع أن شيخ العقل احتاج أن يزور فلسطين المحتلّة لتفقّد الرعيّة هناك. وماذا عن الرعايا من طوائف أخرى؟ ليس هناك من اهتمام بالرعيّة إلا من قبل الكنيسة المارونيّة ذات التاريخ الأقلّ تصلّباً نحو العدوّ الإسرائيلي؟
سيزور البطريرك الراعي فلسطين المحتلّة وهو - في نظر مؤيّديه ومريديه - سيباشر بتحرير فلسطين فور وصوله كما أنه سيقوّض دعائم الصهيونيّة في أيّام قليلة. لكن ماذا عن «رأي الرعيّة فيكم»؟
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)