كرّست استقالة الأخضر الإبراهيمي واقعاً ولم تخلقه. لقد جاء الرجل في مرحلة الاستعصاء فلم يستطع أن يفعل شيئاً يذكر. كان «الحل السياسي» في مرحلة «جنيف 1» أو ما بعدها بأشهر، يعني، تحديداً، تخلي النظام السوري عن سلطته أو الجزء الأساسي منها، لمصحلة خصومة الداخليين والخارجيين. رفض ممثلو النظام وحلفاؤهم في الخارج، تسليم السلطة كلياً أو جزئياً، بشكل مداور أومناور، في المرحلة الاولى، وبشكل صريح وسافر في المرة الثانية. مارست روسيا (بدعم من الصين) دوراً حاسماً في منع استخدام الشرعية الدولية ضد السلطة السورية وخاضت معاركها السياسية من دون هوادة او حدود، وقدمت السلاح والدعم اللوجستي بشكل قل نظيره.
نفّذت إيران شراكة شاملة مكّنت النظام السوري من تخطي «قطوعات» امنية وعسكرية وميدانية ومالية عدة في الاوقات الأشد دقة وصعوبة.
في موازاة ذلك انتصر دعاة العسكرة واستدعاء التدخل العسكري الاجنبي على كل الاصوات والاتجاهات الداخلية السورية، التي كانت تسعى من اجل إحداث تغيير في السلطة السورية يقود إلى الحد من الاستئثار، ويتيح فرصة المشاركة السياسية والشعبية ضمن مسار تعددي وديمقراطي سيكون، بالضرورة، طويلاً وشاقاً ومتعرجاً... ليس هذا فقط، بل انه في سياق دعوة العسكرة والتدخل الخارجي، كان يتقدم، وليس بشكل عفوي، خيار التشدد والتطرف الذي يستظل، عموماً، نهج وتوجيهات تنظيم «القاعدة» الارهابي. كان يظن داعمو هذا الاتجاه (من السلطات الخليجية بشكل خاص) انهم يستطيعون الاحتفاظ بخيوط اللعبة الاساسية طالما انهم هم الممولون والمشجعون والمتعهدون. كرروا هنا، في سوريا، تجربتهم البائسة في اكثر من بلد: ابتداء من افغانستان في مرحلة الدخول السوفياتي اليها، وما بعد ذلك في ظل سلطة حركة «طالبان» و«القاعدة»، وصولاً إلى تفجيرات الحادي عشر من ايلول عام 2001 في الولايات المتحدة وغيرها في اكثر من بلد عربي واجنبي.
غاب من المشهد كلياً، في مجرى ذلك، أصحاب المطالب المشروعة في تطوير النظام السياسي السوري باتجاه المشاركة والتنوع والمأسسة. لم يتبقَ من ممثليهم الا اصوات قليلة تتردد اصداؤها في بيانات ومواقف قادة «هيئة التنسيق» وبعض الاصوات المستقلة الاخرى. هذه الاصوات تتراجع باستمرار بسبب ضجيج «صوت المعركة»، وبسبب اليأس والاعتقالات.
مع مرور الوقت كان الوضع السوري يزداد تعقيداً وليس مأساوية فحسب. الولايات المتحدة كانت وما تزال تستثمر في ارهاق النظام السوري وتعطيل دوره، وفي إضعاف الدولة السورية وتفكيكها، وفي استنزاف كل من ايران وروسيا.
لم يكن همها، اذاً، وقف الحرب، بل المزيد من اذكائها وتأجيجها. تجاهلت لهذا السبب كل الدعوات (السعودية خصوصاً) من اجل تنفيذ تدخل عسكري يحسم المعركة، ميدانياً، ضد النظام وحلفائه. ما زالت واشنطن تعتمد هذه السياسة حتى هذه اللحظة .تذرعت، في السنتين الاخيرتين خصوصاً، بتنامي نفوذ المتشددين والتكفيريين، من ذوي الارتباط أو الصلة بتنظيم «القاعدة»، من أجل مواصلة السياسة نفسها. لا يبدو ان واشنطن مقبلة على تغييرات جذرية في توجهاتها، طالما ان اولويتها المعلنة هي عدم تمكين الارهابيين المتشددين من تحقيق مكاسب آنية أومستقبلية. لو كانت ترغب فعلاً في محاصرة الإرهاب في سوريا، لأقدمت على ممارسة ضغوط جدية على حلفائها السعوديين والقطريين ممن لعبوا ورقة استخدام التطرف حتى الثمالة! يدفع هذا الامر، الى عدم استبعاد حدوث تنسيق قريب ما بين السلطة السورية وواشنطن ضد الهدف الآني المشترك: «محاربة الارهاب». تتعزز مؤشرات الى بداية تنسيق فعلي بعد تكرار موقف سياسي اميركي، رغم كل الضغوط، شدّد دائماً على خطر وقوع اسلحة متطورة في يد الجماعات المتطرفة. في المقابل، ليس لدى واشنطن اي مانع سياسي او وازع اخلاقي يحول دون ان تعود، مرة جديدة، الى محاولة استخدام الارهاب في معاركها الموزعة في ارجاء العالم، وليس دائماً ضد خصومها على وجه التحديد!
انها المتاهة التي لن تجد لها تفسيراً الا بشبكة المصالح الاميركية المنتشرة حول العالم والتي لا تحميها فقط الجيوش والقواعد العسكرية العائدة للولايات المتحدة في العالم اجمع.
لروسيا ايضاً حساباتها الاستراتيجية التي تغذيها طموحات استعادة دور القوة العظمى عبر الحضور في خريطة النزاعات والصراعات، وخصوصاً لاكتساب مواقع مؤثرة في مجال النفط والغاز وخطوط النقل واسواق السلاح.
ولإيران طبعاً حساباتها وسياساتها ومصالحها. كل ذلك وسواه يضفي على النزاع في سوريا بعداً اقليمياً دولياً يزداد تعمقاً وتعقيداً وتوسعاً.
في محصلة هذه الحرب الشاملة والمعقدة تجاوز النظام السوري خطر الانهيار الذي برز في اكثر من محطة. هو لن يسقط لمصلحة خصومه الداخليين والخارجيين. لا يعني ذلك أبداً انه قادر على الحسم الكامل وعلى اعادة عقارب الزمن الى الوراء. لم يكن سقوطه يعني، في المقابل، انتصار دعاة أو دعوات المشاركة والديمقراطية في سوريا. لم يكن ذلك ابداً، هو هدف خصومه الاساسيين، في الداخل والخارج، ممن زعموا الانتصار للحرية والتعددية والديمقراطية (بعضهم لم يسمح باختبارها أصلا في بلده!)، فيما هم يستهدفون دور النظام السياسي.
بين خطة الاستنزاف الاميركية (بمشاركة إسرائيلية) ورغبة الانتقام السعودية ومخطط التمدد التكفيري، من جهة، ونجاح خطة الصمود السورية المدعومة من موسكو وطهران، من جهة ثانية، لم يكن هنالك ابداً مكان للتسوية السياسية. فهذه تشترط حداً أدنى من مشاركة الأطراف ولو كانت هذه المشاركة راجحة لمصلحة فريق على فريق.
دفع الشعب السوري خصوصاً ثمناً باهظاً لصراعات الكبار وتعنت الصغار. لكن زمن الصفقات الكبرى ليس بعيدا كما يبدو حتى اللحظة. الواقع ان مؤشرات هذه الصفقات قد بدأت تلوح تباشيرها في افق عدد من الملفات ولو طال الزمن. لا يعني أن انفراجاً كبيراً وواثقاً قد بدأ يدق الابواب. في بعض الملفات العكس هو الصحيح حتى تنضج عوامل الصفقة، او لعرقلة انجاز بعض الصفقات على غرار ما هو قائم بشأن الملف النووي الايراني. المتضررون، على الجانبين، لديهم المصلحة والامكانات في رفع اليد لطلب نقطة في النظام والتعطيل!
سياسات اخرى كانت من شأنها تخفيف وقع وحجم المآسي اذا تعذر تفاديها. ينطبق ذلك على الوضع السوري وعلى الوضع العربي بشكل عام. ليس ذلك امراً تحدده الرغبات، بل، أساساً، مقاربات سياسية وامنية استراتيجية جديدة يجري بموجبها تحديد العدو من الصديق بعد تحديد اولويات المصالح الوطنية والقومية في هذه المنطقة ذات الثروات الطبيعية الاسطورية ومكامن الضعف الخطيرة والمتفاقمة.
* كاتب وسياسي لبناني