«نحن نتوافق بشكل جيد جداً جداً مع طالبان»دونالد ترامب

الصورة التي يمكن استخلاصها من المشاهد الصادمة لإدارة الأميركيين مطار كابول بعد تنفيذ اتفاقهم مع حركة طالبان بالانسحاب العسكريّ ومن ثمّ أنباء الكارثة الإنسانيّة والجيوسياسيّة التي أطلقها ذلك الاتفاق المشبوه (الدّوحة 2020) صُممت بدقّة لإعطاء الانطباع بأن الإمبراطوريّة العظمى في حالة انهيار نهائي، وأن استخباراتها وجيشها مفتقدان للكفاءة بشكل مخجل لا يليق حتى بدولة من العالم الثالث. لكن لا شيء في أفغانستان تحديداً يحدث بالصدفة، وتاريخ التدخّل الأميركي في ذلك البلد منذ ما قبل تدفق القوات السوفياتيّة لمساندة الدولة الاشتراكية هناك في عام 1979، وعلاقة مخابراتهم العريقة والمعقّدة بقبائل البشتون (طالبان واجهتها العسكريّة السياسيّة) يدفعان المراقب للتساؤل حول حقيقة هذا الانسحاب ودوافعه الاستراتيجيّة. وفي ذلك تجاهل كثيرون دور طبّاخ السمّ الأفغاني والممثل الخاص لبايدن لشؤون المصالحة في أفغانستان زلماي خليل زاد، البشتوني المتأمرك الذي شكّل ولا يزال الخطوط العريضة لسياسة الولايات المتحدة الاستراتيجيّة في أفغانستان منذ منتصف الثمانينيات وكان سفيراً للولايات المتحدة لدى كل من أفغانستان والعراق في أوقات مفصليّة خلال الحروب الأميركية هناك ويُعزى إليه شخصياً خلق طالبان (1996)، وتحطيمها (2001)، واليوم قيامتها الجديدة.
يريد الأميركيّون للعالم أن يصدّق بأن الجيش الأقوى في الكوكب وأهم منظومة استخبارات في التاريخ قد أصيبا فجأة بانعدام كفاءة حاد تسبب بمظاهر الفوضى البالغة في مطار كابول – الخاضع للسيطرة الأميركيّة – ومشاهد الأفغان اليائسين التي بثّتها محطات التلفزة الليبراليّة حول العالم وهم يحاولون عبثاً الالتحاق بأيّ من الطائرات المغادرة فراراً من حكم حركة طالبان. لكن فهم ما يجري حقيقة في أفغانستان لن يتأتّى من صور المطار، بل من مجموعة مختلفة من الصور ومقاطع الفيديو الصغيرة، التي تمّ التقاطها بالهواتف الذكيّة من المقاطعات الحدودية بداية الصيف (22 حزيران سقط معبر شير خان بندر) أي قبل عدّة أسابيع من مسرحيّة مطار كابول. وتظهر تلك المقاطع وحدات نخبة من قوات طالبان بينما تستولي على النقاط الأمنيّة الأفغانية بلا أدنى مقاومة من جنود الحكومة الذين يسلمون أسلحتهم بهدوء المتصوّفة. وحتى عند القواعد الرئيسيّة وعواصم المقاطعات فقد اقتصرت المقاومة على مناوشات شكليّة لا تكاد تبدأ حتى تنتهي. ومن الواضح أن جيشاً قوامه 300 ألف لا يتبخّر هكذا في بلد شاسع وذي جغرافيّة جبليّة صعبة دون توجيهات من القيادة العسكريّة (أو المرجعيّات القبائليّة)، أو لربما لم ترغب أيّ من الوحدات في أن تنفرد بالمقاومة وبالتالي التعرّض للانتقام لاحقاً، في وقت يبدو فيه الأميركيون والطالبان شركاء سرير واحد. وفي الحقيقة لم يكن ثمّة داع عمليّاتي للمسارعة بالانسحاب بشكل فوضوي. فالأميركيّون اتفقوا علناً العام الماضي في الدّوحة (قطر) على تفاصيل الانسحاب مع ممثلي البشتون - بمباركة من الإخوان المسلمين -، وهم بشكل أو بآخر جعلوا من طالبان مقاتلين أكثر انضباطاً لديهم كتائب نخبة للعمليّات الخاصة ودراية متقدّمة بالعمل الإعلامي، وقد تُركوا للقفز على السّلطة مجدداً غير منهكين، وفي عهدتهم كميّات هائلة من الأسلحة الحديثة والمعدات لدرجة أن صحيفة ألمانيّة عنونت قبل أيّام (طالبان تمتلك الآن أسلحة أكثر من أي دولة من دول الناتو - باستثناء الولايات المتحدة).
إنّ تاريخ التدخّل الأميركي في أفغانستان منذ ما قبل تدفق القوات السوفياتيّة لمساندة الدولة الأفغانيّة الاشتراكية هناك في عام 1979، وعلاقة المخابرات المركزيّة الأميركيّة العريقة والمعقّدة مع قبائل البشتون (طالبان واجهتها العسكريّة السياسيّة)، والتحضيرات الأميركيّة للمرحلة الجديدة التي بدأت على الأرض منذ بعض الوقت كلّها تدفع المراقب للتمسك بقناعة أثبتت صدقها خبرة نصف قرن: لا شيء يحدث في أفغانستان تحديداً بالصدفة. ومن الضرورة لاستيعاب السياق الكليّ للحدث الأفغاني الحالي التجاوز سريعاً عن مسرحيّة مطار كابول، والتنقيب عميقاً في خلفيّة هذا الانسحاب ودوافعه الاستراتيجيّة. وفي ذلك الاتجاه تجاهل كثيرون دور طبّاخ السمّ الأفغاني والممثل الخاص لبايدن لشؤون المصالحة في أفغانستان، زلماي خليل زاد (سبعون عاماً)، البشتوني المتأمرك الذي شكّل ولا يزال الخطوط العريضة لسياسة الولايات المتحدة الاستراتيجيّة في أفغانستان منذ عهد جورج بوش الأب في منتصف الثمانينيات وكان سفيراً للولايات المتحدة لدى كل من أفغانستان والعراق في المراحل الرئيسيّة للحروب الأميركية هناك، ويُعزى إليه دور العقل المدبّر وراء خلق حركة طلاب الشريعة – طالبان – وتسلّمها السلطة في عام (1996)، ومن ثمّ تفكيكها في الحملة العسكريّة بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر (2001)، والآن قيامتها الجديدة (2021) تحضيراً في ما يبدو للعب دور إقليميّ جديد.
خليل زاد، الذي كان فيه مهندس تحوّل العقيدة العسكريّة الأميركيّة إلى مبدأ «الحرب الوقائيّة» خلال عهد الرئيس بوش الابن، لعب دائماً لدى نخبة واشنطن الحاكمة دور المكلّف بإدارة وإخراج الدراما الأفغانية المتدحرجة، وبصماته موجودة بكثافة على جسد هذا البلد الممزّق منذ انطلاق عمليّات تدريب وتسليح وتوجيه وكالة الاستخبارات المركزية لـ(المجاهدين) منذ سبعينيات القرن الماضي، مروراً بالغزو الأميركي لأفغانستان في عام 2001، وانتهاء باتفاق الدّوحة الأخير مع طالبان والانسحاب الأميركي الحالي.
كان خليل زاد اليد اليمنى لـ(بول وولفويتز) الموظّف في وزارة الدّفاع الذي كلّفه ديك تشيني بصياغة موقف عسكري عالمي جديد للولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ووفقاً لما نشرته «نيويورك تايمز» فإن الوثيقة التي وضعها وولفويتز (وصارت تعرف بـ»عقيدة وولفويتز») تقول بأن «الولايات المتحدة يجب أن تصبح القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأن تتخذ إجراءات عدوانية لمنع الدول المنافسة - حتى الحلفاء مثل ألمانيا واليابان - من تحدّي التّفوق الاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة». وأنّه «ينبغي علينا الحفاظ على آلية فاعلة لردع المنافسين المحتملين حتى من الطموح إلى دور إقليمي أو عالمي أكبر». وكان ذلك الإعلان السافر للإمبريالية الأحادية الجانب في الواقع من صياغة خليل زاد أساساً بعد العمل مع مديره وولفويتز ومستشارين خارجيين منهم أستاذهما في جامعة شيكاغو البروفيسور اليميني المحافظ (الجديد) ألفريد وولستيتر. وقد ادعى خليل زاده أن تشيني ربت على كتفيه حينها، وقال له: «لقد اكتشفت دوراً جديداً لنا في العالم». وفي حين تم حذف اقتراح خليل زاد المثير للجدل حول شنّ «الحروب الوقائيّة» من الوثيقة عندما نشرها البيت الأبيض لاحقاً، إلا أنه استُعيد مرة أخرى بعد عقد من الزمن باسم مبدأ بوش في عهد بوش الابن، واستُخدم لتبرير الحروب الأميركية على أفغانستان والعراق.
وقد تم تعيين خليل زاد «مساعداً خاصاً للرئيس (جورج بوش الابن) لشؤون الخليج وجنوب غرب آسيا وقضايا إقليمية أخرى» وذلك قبل أسابيع من هجمات 11 سبتمبر 2011. وقد حثّ الرئيس على اجتياح أفغانستان في تشرين الأول/أكتوبر ذلك العام باستخدام ذريعة أن بن لادن، المهندس المزعوم للهجمات، يتوارى تحت حماية نظام طالبان في أفغانستان. ولم يدرك الكثيرون وقتها أن خليل زاد نفسه كان مهندس تسليم السلطة لطلاب مدارس الشريعة المتطرفين من البشتون (طالبان) في عام 1996، وقبلها كان غارقاً إلى أذنيه في التنسيق مع المخابرات المركزيّة الأميركيّة كـ(مخبر محليّ) مختص بالشؤون الأفغانيّة في الخارجيّة الأميركيّة فيما أُطلق عليه اسم «عمليّة الإعصار – أوبريشن سايكلون» والتي استمرت من عام 1979 إلى عام 1989 وتضمّنت تأسيس ما سُمي بتنظيم القاعدة بالتّعاون الوثيق مع المخابرات الباكستانية والسعوديّة والأردنيّة والمصريّة، واستجلاب كوادر من أجواء الإخوان المسلمين – عبد الله عزّام وبن لادن والظواهري وغيرهم – من مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ وتدريبهم وتسليحهم وتوجيههم للقتال ضدّ الجيش الأحمر.
وبحلول ذلك الوقت كان قد أصبح مقرباً من زبيغنيو بريجنسكي مستشار الرئيس جيمي كارتر والعقل الاستراتيجي وراء اختراع لعبة الجهاد الإسلامي لمحاربة السوفيات وأصبح منسّق ما كان يُعرف باللوبي الأفغاني في الإدارة الأميركيّة مع بريجنسكي وكيسنجر وإيغلبرغر. وقد تآمر هؤلاء على تحويل أموال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إلى المجاهدين في أفغانستان وتسليمهم صواريخ ستينغر المتقدمة المضادة للطائرات. وفي عام 1988، أصبح خليل زاد «المستشار الخاص» لوزارة الخارجية لشؤون أفغانستان تحت قيادة الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية جورج بوش الأب، وكان في ذلك المنصب يقود بنفسه العلاقات مع المجاهدين، بمن فيهم طالبان، وبعدها في إدارة بوش الابن عُين مبعوثاً رئاسياً خاصاً إلى أفغانستان في عام (2002)، ومسؤولاً مباشراً - كسفير للولايات المتحدة وقتها - عن تنصيب حامد كرزاي، عميل المخابرات الأميركيّة، رئيساً لأفغانستان وهو شقيق أكبر تاجر أفيون في البلاد – كان بدوره يتلقّى دفعات شهريّة من الأميركيين -. ويقال إن خليل زاد نفسه (سبعون عاماً) الذي وُلد ودرس حتى الثانوية في أفغانستان قد تم تجنيده من قبل وكالة الاستخبارات المركزية عندما كان شارك في برنامج لتبادل الطلاب مع مدرسة ثانوية في كاليفورنيا خلال الستينيات. والرئيس الأفغاني (الفار) أشرف غني – الذي عيّنته الولايات المتحدة - كان زميلاً لخليل زاد في أوائل السبعينيات أثناء سنوات دراستهما في الجامعة الأميركية في بيروت (وكذلك زوجتاهما المستقبليتان اللبنانيتان).
وفي عام 1996، وبعد عدّة سنوات من الحرب الأهلية بين فصائل قبليّة متنافسة من المجاهدين المدعومين من وكالة الاستخبارات المركزية، دعم خليل زاد سيطرة حركة طالبان على السّلطة في كابول بالتنسيق مع المخابرات الباكستانيّة. ومع نهاية عام 2002، عُيّن خليل زاد سفيراً في بغداد لقيادة التخطيط لـ»عراق ما بعد صدام حسين». ولا شكّ في أن جذور داعش وبقيّة الحركات الإسلامية المتطرفة التي نشأت في المنطقة قد بذرت في ذلك الوقت وبالتعاون مع ذات الرفاق القدامى: المخابرات السعوديّة والأردنيّة والمصريّة.
لاحقاً أوصى مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية السابق بتعيين خليل زاد ممثلاً خاصاً للرئيس ترامب لشؤون المصالحة في أفغانستان لإدارة ترامب (2018). وقد تولى حينها الدّخول في محادثات سريّة بين الولايات المتحدة وطالبان من خلال ممثلي الحركة لدى الدوحة - راعية الإخوان المسلمين، والمموّل الأساسي لطالبان خلال السنوات الأخيرة - وذلك دون إبلاغ النظام الأفغاني الرّسمي. ويستشفّ من تصريح لبايدن بأن ترامب التقى بالفعل ممثلين لطالبان في منتجع كامب ديفيد عشيّة 11 سبتمبر 2019. كذلك أفلحت جهود خليل زاد في الضغط على باكستان للإفراج عن المؤسس المشارك لحركة طالبان الملا عبد الغني برادار العقل الاستراتيجي الرئيسي وراء انتصار طالبان في عام 1996 حتى يتمكن من قيادة المحادثات في الدوحة. وقد وقّع برادار بالفعل على «اتفاق الدّوحة» في فبراير/شباط 2020 الذي وافقت فيه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على الانسحاب الكامل، وتولي طالبان السلطة – دون نظام غني الذي سيتم التخلي عنه تالياً كحذاء قديم - مقابل التعهد «بالقيام بما هو ضروري لمنع أفغانستان من أن تصبح ساحة للجماعات الإرهابية أو الأفراد المطلوبين». وهذا التعهّد بالطبع بلا معنى، إذ أن كل تنظيمات المجاهدين في أفغانستان بما فيها طالبان والقاعدة ترتبط بمشغلين من المخابرات الأميركيّة، وأي صراع مقبل بينها سيكون جزءاً من الأجندة الأميركيّة للإقليم. تلك «الصفقة» التي أبرمها خليل زاد مع طالبان للرئيس ترامب آنذاك، هي ذاتها تماماً التي قبلت بها إدارة بايدن مع تغيير طفيف يجعل تاريخ الانسحاب النهائي للجيش الأميركيّ للولايات المتحدة يوم الحادي عشر من سبتمبر 2021 (تزامناً مع ذكرى مرور 20 عاماً على هجمات نيويورك العتيدة).
لم يكن إذن هذا السقوط المزعوم لأفغانستان في يد طالبان نتيجة «فشل استخباراتي» من قبل وكالة الاستخبارات المركزية أو سوء تقدير عسكري من قبل وزارة الدّفاع. الجميع، كما خليل زاد، كانوا يعرفون ما يفعلونه تماماً، فيما تولت قناة الجزيرة (القطريّة) تصوير ما حدث كأنّه انتصار للإسلام وبأن طالبان حركة تحرر وطني تستحق تعاطف جماهير المغيبين العرب.
لا شكّ في أن الولايات المتحدة في طور أزمة نظامها الليبرالي الحالي بحاجة إلى إعادة ترتيب أوراقها لمرحلة جديدة، وستكون أفغانستان - عقدة الجغرافيا على التقاطع بين ست قوى إقليميّة مهمّة (الصين وروسيا وإيران والهند وباكستان وتركيا) بداية نسق استراتيجي جديد يسمح للإمبراطوريّة بكسح نفوذ أيّ من منافسيها دون الحاجة إلى التورّط في نزاعات مباشرة مع (بلطجيّة) الإقليم تعرّض جنودها للخطر وتخضع لقوانين الرّدع النووي المتبادل.
ومن الضرورة الانتباه هنا إلى الزيارة السريعة التي قام بها الحاخام الصهيونيّ بيرنار هنري ليفي إلى العملاء القدامى المناهضين شكليّاً لطالبان - بحكم تباين المذهب الدينيّ والأصول القبليّة - ويقودهم أحمد مسعود (خرّيج كليّة ساند هيرست العسكريّة النخبوية في بريطانيا وكينغ كولديج في لندن، وابن أحمد شاه مسعود أحد أبطال الجهاد الأميركي في أفغانستان أيّام الحرب مع السوفيات). بالطبع، لن يُقدم هذا الحاخام على خطوة مثل تلك دون التنسيق التام بين أجهزة المخابرات الأميركيّة والفرنسيّة، وهي تكشف – مع مقاطع فيديو تسلّم مقاتلي طالبان لأسلحة جنود الحكومة - عن طبيعة النّوايا الأميركيّة لتلك البلاد الحزينة: دور صندوق من الفوضى المدارة بدقّة والقابلة للتفجير في الوقت المناسب وفي الاتجاه المناسب. ولن يكون سوى خليل زاد ذاته مجدداً من يضع مفتاح ذلك الصندوق في جيبه. ولذا ترقّبوا تحركاته في الآتي من الأيّام.
* كاتب من أسرة «الأخبار»