«عند حدوث أي اتفاقٍ بين طرفين، اترك الشعارات الخلبية التي يعلنانها، قف على جانب واحدٍ من الطرفين، انظر ملياً للموضوع من وجهة نظر «مادية» بحتة، ساعتها تصبح الحقيقة ملء عينيك».(ميشيل فوكو)

لا يختلف اثنان على أن حركة حماس، وقبل تسلمها السلطة في قطاع غزّة بكثير، تعتبر الرقم اثنين والمنافس الحقيقي لحركة فتح على الشعبية وقيادة الشعب الفلسطيني. نافست الحركة مثلاً منذ عام 1976 في انتخابات الاتحاد العام لطلبة فلسطين – وإن لم تكن تحمل اسمها الحالي، بل قائمة الشباب المسلم - في ثانوية حولي في الكويت والتي تتبع لمنظمة التحرير، وتقاسمت مع فتح المقاعد الخمسة المتاحة آنذاك؛ خالد مشعل الرجل الذي سيصبح رئيساً للمكتب السياسي للحركة كان رئيس تلك القائمة.

هي لم تتوقف يوماً عن لعب دور النّد – الأكثر بروزاً - للمنظمة. فإن تباهى الفتحاويون بوجود الختيار (ياسر عرفات: أبوعمار) تباهوا هم بشيخهم أحمد ياسين، وإن أظهر الفتحاويون ورقة أبو جهاد (خليل الوزير) وأبو إياد (صلاح خلف)، أخرج الحمساويون ورقة د. عبدالعزيز الرنتيسي و«المهندس» يحيى عيّاش. ولم يختلف الأمر كثيراً مع تسلم المنظمة السلطة، فحماس – كتنظيم إخواني أصلاً حلمه الوصول إلى السلطة - كان له ما أراد.
ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، بحسب المثل الغربي، لماذا تصالح حماس اليوم سلطة أبو مازن؟ ما هي المكاسب المنشودة؟ أبو مازن – وبسرعة - يحتاج الوحدة الفلسطينية لإثبات شيئين: الأول أنه القائد الفعلي لفلسطين كلّها (بنظره هي رام الله وغزة لا أكثر) متفوقاً على خصمه محمد دحلان داخل المنظمة، ومحلياً في الشارع الفلسطيني. الثاني أنه يريد أن يثبت لجميع الحلفاء: الأميركي/ الإسرائيلي/ الأوروبي/ العربي (الترتيب يأتي بحسب الأهمية) أنه لا يزال الورقة الأقوى للمراهنة عليها ضمن منظمة التحرير. إذا ماذا عن حماس؟ ماذا تريد الحركة؟ هل هو السلام والوحدة الوطنية؟ لننسى الكلام الخلبي، ونفكّر بمادية. المادية تقول هنا: بأن الحركة كانت تستطيع أن تمارس سلوك «الوحدة» قبل أشواط من الزمن، وبالتحديد يوم كانت في عز قوتها إبان حكم الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، لكنها آنذاك، كعادة كل الحركات السياسية – حديثة العهد بالسلطة - تبخترت، وتكبّرت. يشير، مثلاً، تقرير لمظمة «هيومن رايتس واتش» بأنّ حماس تقتل معارضيها في غزّة، حماس نفت الأمر، وإن لم تنفِ أن هناك «قتلة» مجهولون لمن يعتقد بأنهم «خونة» للشعب الفلسطيني. إذاً لماذا اليوم؟ لأنها بكل بساطة: في أضعف حالاتها!
حماس كانت تعرف
منذ البداية أن طاولة واحدة ستجمعها مع فتح
ضعف حالة حماس الحالية تجبرها على خوض «وحل» الوحدة والمصالحة مع السلطة. هي تعرف بأن محمود عباس مفاوض حذق، وبأنه سيحاول سحب كثير من جعبة الحاوي التي يملكها، لكنها في الوقت نفسه خبرت الرجل وتعرف ماذا يريد؛ فهي أيضاً لديها حواتها. لعبة «إجر بالحقلة وإجر بالطريق» (بحسب المثل العامي) التي مارستها مع إيران مثلاً، تثبت أن الحركة تتعلم، وإن ببطء، من فشل تجاربها، فهي اختارت مثلاً خلال الأزمة السورية أن تقف وبكل قواها مع محور السعودية ـ قطر ـ تركيا (وبالتالي الغرب) مقابل محور سوريا ـ إيران (وبالتالي روسيا)، خيارها هذا كلّفها الكثير، لكنها بالوقت نفسه تركت محمود الزهّار (وزير خارجيتها السابق) يقيم علاقات مميزة مع الجمهورية الإسلامية، كيف يحدث ذلك؟ الحمساويون تعلموا من أبو عمار! فالقائد التاريخي للشعب الفلسطيني كان يمارس هذا اللعبة بشكل دائم، وإن لم تكن تنجح معه كل الوقت، فمثلاً في عز تأييده للعراق في حربه على الكويت، كان يبقي على علاقات «شخصية» مع الكويتيين؛ أو مثلاً حينما أكّد لأحد الدبلوماسيين الغربيين أن كتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح) لا تأتمر بأمره أبداً. حماس تعرف أن المقبل من الأيام سيكون صعباً عليها، فالحلفاء العرب باتوا يترنحون ويسقطون: قطر وأميرها تفكّر وبشكل جدي بطرد قادتها (بحسب بعض التقارير الغربية يعيش خالد مشعل حالياً أقرب إلى السجين منه إلى الضيف في فيلته في قطر)، الشيخ الأقرب إلى فلكها ومنظّرها إلى يوم قريب، يوسف القرضاوي بات Persona non grata (شخصية غير مرغوب بها) خليجياً بعد الفيتو السعودي عليه. السعودية صنّفت الإخوان المسلمين كحركة ارهابية، بالتالي لا تشذُ حماس عن القاعدة. سوريا لن تسمح لحماس بالدخول إليها من جديد – على الأقل خلال العشرين عاماً المقبلة -. الأردن ليس مكاناً آمناً لها كي تمتد، رغم العلاقات الطيبة لها مع الحركة الإسلامية هناك. مصر، تبدو كابوساً اليوم بالنسبة للحركة، فموقف الرئيس المقبل لمصر عبدالفتاح السيسي واضحٌ بشكل كبير: لا مكان لكم هنا؛ انتهى! إذا لم يبق إلا خطان: إيران والسلطة الفلسطينية.
إيران؟ لماذا؟ قد يعتقد البعض بأن الجمهورية الإسلامية قد تلدغ من الجحر مرتين في علاقتها مع حماس، لكن هذا يرد عليه بكل بساطة: في السياسة هذا جزء من لعبة الاحتمالات. الكل يريد مصلحته والعلاقات يحددها تماس المصالح والتقائها. لذلك فإنّه ليس من المستبعد أبداً، أن نجد أبو الوليد (خالد مشعل) مثلاً، مقيماً في إيران خلال الأشهر المقبلة. كل هذا رهن بجدية الاتفاق وبحرص الحمساويين على إعطاء ما يريده الإيراني: مزيداً من الحرية لحركة الجهاد الإسلامي، تخفيف نبرة «العداء» الطائفي للشيعة، وبالتأكيد العودة لحضن «محور الممانعة».
إذا ماذا عن أبو مازن وسلطته؟ الأمر مباشر: هو الخيار المر الذي لا محيد عنه في النهاية. حماس كانت تعرف تماماً ومنذ البداية بأنها لاريب ستجمعها طاولة واحدة مع فتح، لربما كانت تحاول قدر الإمكان إبعاد هذه الكأس عن فمها، لكنها تفهم جدياً أن التفاوض مع أبومازن أفضل بكثير من مثيله مع الدحلان، أو أي شخصية فتحاوية أقوى (مروان البرغوثي مثلاً). أبو مازن له مفاتيحه، هو يريد «شكلاً» لدولة، مهابة «دولة»، هو ببساطة يريد كأي مخرج مسرحي محنك: مسرحية متكاملة يعطيها للأوروبيين/ الأميركيين، قائلاً: انظروا لقد أعدت لكم الجميع إلى سياق الدولة والمفاوضات وها هم طوع بنانكم! ولم يكن خطابه الأخير مثلاً إلا دليل على الأمر، أما ردة فعل حماس فكانت «حبة الكرز الحمراء» التي توضع فوق الكريما الناصعة البياض. حماس ستعطيه هذا، بل ستعطيه أكثر منه، ستجعله «الرئيس» المشابه لملكة إنكلترا، يتربع على العرش (حتى في غزة) لكنه لا يحكمها.
لكن ما هي مطالب الحركة لتحقيق ذلك؟ أولاً: انهاء حالة معبر رفح المتأزمة، هم يعرفون بأنهم لن يتمكنوا – إلا بمعجزة - من الجلوس مع السيسي وإقناعه بأي من حلولهم، لذلك لِمَ لا يتركون الأمر لمحترفي التفاوض؟ ثانياً: تخفيف الضغط على قطاع غزّة – إسرائيلياً - وهو الأمر الذي قد يحدث في حال اتفاقية سلام سيقوم بها أبومازن، تستطيع الحركة «التنصل» منها وإقناع جماهيرها بأنها لم تقم بها وليست شريكةً فيها. ثالثاً: إعادة اقناع رؤوس الأموال الفلسطينية التي «هربت» من جحيم غزة «الإخوانية»، خصوصاً بعد المضايقات الكثيرة التي حدثت بعد استلام الحركة للسلطة، وهو ما يبرع به كثيرون حول أبومازن، وبالتالي تحريك عجلة اقتصادية «ميتة» بشكلٍ كامل في القطاع. أخيراً: خلق نوع من التفاهم الشفوي – بين الطرفين - على أن حماس ستبقى مسيطرة على قطاع غزّة. هي تسيطر عليه بالفعل، لكنها لا تريد صراعاتٍ جانبية ومناوشات من محازبي فتح ومؤيديها في القطاع، فالهدوء الداخلي غزاوياً يمكّن الحركة من التركيز على الاقتصاد (المتردي) والسياسة الخارجية (المترنحة).
في الختام هي أصعب الأيام على الحركة التي خرجت من رحم الإخوان عام 1987، لكنها كملاكم متوسط الخبرة باتت تعرف تماماً بأنها لا تستطيع الخروج من الحلبة بهذه السرعة، ولكن البقاء فيها بهذا الشكل سيجعلها تخسر وبالضربة القاضية!
* كاتب فلسطيني