تمتلك الإدارة وسائل القوة والقدرة التي بنتها بفعل الهيمنة والسيطرة والتمدد والتدخل في شؤون الدول، ما مكّن صُناع السياسة الأميركية من استخدام أدوات إرغامية لتثبيت هيمنتها وردع أي محاولات تمرد ضدها. وقد تحوّلت العقوبات الاقتصادية إلى سيف بيد الإرهاب الأميركي مُصْلَت على رؤوس الدول، حيث باتت الأسلوب المعتمد في سياسة الهيمنة الأميركية. وتحولت هذه السياسة إلى بديل عن الحروب العسكرية، في كثير من الأحيان، لمحاولة تغيير القرارات الإستراتيجية للدول والجهات الفاعلة التي تهدّد مصالحها، ولفرض تغييرات جيوسياسية تصبّ في استراتيجية الهيمنة، لكنّ هذه العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية، تأتي جميعها خارج إطار الشرعية الدولية بشكل يخالف القانون الدولي.
أولاً: العقوبات عبر مجلس الأمن
منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الحرب الباردة بين القطبين، دأبت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة على فرض عقوبات على العديد من الدول، لكن لطالما كانت الأمم المتحدة هي الوجهة المعتمدة في تطبيق العقوبات الاقتصادية بموجب المادة 41 من ميثاقها، لذلك أقرت قرارات عدة على دول مختلفة اعتبرتها مخالفة للشرعية الدولية في تصرفاتها. /المادتان 39 و41.
أثناء عام 1966 فرض مجلس الأمن الدولي أولى عقوباته على روديسيا الجنوبية، بعد أن أصدرت بموجب القرارين 216 و217 في عام 1965 والقرار 277 في عام 197، ومن ثمّ العقوبات التي فرضتها على جنوب أفريقيا بموجب القرار 418 الصادر في عام 1977، وأعيد فرضه بالقرار 558 الصادر في عام 1984.
لكن الأمر تطوّر بعد الحرب الباردة إلى سياسة تطبيق العقوبات الشاملة، بخاصة بعد احتلال العراق للكويت. وقد طُبّقت العقوبات وعلى مدى عدة سنوات، على العديد من الدول منها العراق وهاييتي ويوغوسلافيا والصومال وليبيا وليبيريا وأنغولا ورواندا والسودان والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وقد تعرضت دول عربية عدة للعقوبات الغربية فضلاً عن سياسات الهيمنة. فقد تعرّض العراق، في تسعينيات القرن العشرين، لحصار مطبق إلى درجة أن الأمم المتحدة تبنت برنامج النفط مقابل الغذاء لأنه لم يكن بمقدور العراق شراء احتياجاته الغذائية. وعانت سوريا طويلاً من إجراءات أميركية وأوروبية بسبب عداوتها للكيان الصهيوني من جهة، ودعمها لفصائل المقاومة من جهة أخرى.

ثانياً: إرهاب اقتصادي
تشكّل هذه العقوبات، التي تؤخذ بشكل منفرد لتطويع الدول، إرهاباً دولياً، على الرغم من أنه قلّما يتم الحديث عالمياً عن إرهاب الدولة، الذي يُعد أخطر أنواع الإرهاب. تتغاضى الدول عن التطرق إلى هذا الإرهاب لأسباب سياسية مريبة، بالرغم من أن خطورته تفوق كثيراً إرهاب الأفراد ـ الجماعة، إلا أن المعايير المزدوجة لدى الغرب تجعل الدول الكبرى تمنع التعريج إلى تعريف إرهاب الدولة من قبل المنظمات الدولية. وقد رفضت الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب تعريف إرهاب الدولة وذكره من ضمن أنواع الإرهاب الذي تطرق إليه مجلس الأمن والمؤتمرات الدولية مع أن الدول النامية طالبت وتطالب بتعريفه بشكل مستمر، لكن الرفض الأميركي كان سبّاقاً دائماً، لأمور تتعلق بالسياسة الأميركية والاستمرار في استراتيجياتها الإرهابية من خلال سياستها الخارجية وحروبها وغزواتها.
يشكل إرهاب الدولة جزءاً لا يتجزأ من الحروب التي تشنها الإدارة الأميركية وحلفاؤها على الشعوب، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط. وتُعد أميركا إحدى أكثر الدول إرهاباً في العالم، لا بل إنها تتفرد في القرن الواحد والعشرين إلى جانب حلفائها وعلى رأسهم «إسرائيل» والسعودية بإرهاب الدولة. لكن المشكلة أن الحديث عندما يتعلق بالإرهاب يكون من خلال الإشارة إلى أعمال العنف والقتل والتسبب بالجروح البليغة لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية أو من أجل إخضاع حكومة ما لسياسات محددة، لكن قلّ من تحدث عن إرهاب الدولة الذي هو ذلك الفعل الذي يُرتكب لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ولكن ليس بوسائل عسكرية وعنفية إنما من خلال الحصار الاقتصادي والعقوبات التي تُخضع الكثير من دول العالم لسياسات محددة.
تمارس الولايات المتحدة «إرهاباً اقتصادياً» على لبنان، لما يمثله من خطر وجودي على الكيان الإسرائيلي، وكون سياساته غير خاضعة للإملاءات الأميركية في المنطقة العربية


هذه الحرب الاقتصادية قد يناقش البعض في مدى إمكانية وصفها بالإرهاب، لكننا إذا تحدثنا عن نتائجها فإننا سنصل إلى حتمية كونها جزءاً من إرهاب الدولة، لأن الهدف منها لا يقل عن هدف الأعمال العنفية التي تكون لإخضاع الدولة، وبالتالي فإن الحصار الاقتصادي لا يؤثر على الدولة ـ الحكومة وحدها، بل إنه يطاول الشعب القاطن في هذه الدولة، والذي يمكن أن يصل إلى حد الجوع والفقر المدقع، كما حصل من خلال حصار السعودية للشعب اليمني خلال العدوان الذي تشنّه منذ 5 سنوات، وكما تتعامل الولايات المتحدة الأميركية مع سوريا عبر قانون قيصر، وكما يحصل أيضاً مع إيران التي لا تزال ترزح تحت حصار اقتصادي منذ 40 سنة لتزداد حدته من قبل الإدارة الأميركية في السنوات الأخيرة، ولولا أن الدولة الإيرانية لديها قدرات وخطط دائمة للخروج من الحصار لكان الشعب الإيراني اليوم يرزح تحت المجاعة. كما تتمثل هذه الحرب من خلال العقوبات على فنزويلا التي بدأت تفتقد للوقود فيما هي تملك أهم احتياطات نفطية في العالم، وكذلك على دول أخرى في العالم، حتى إن حلفاء واشنطن لا يسلمون من هذه العقوبات، كما أنها دائماً ما تطالب الدول بالتعويض عليها كما فعل ترامب بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي، أو في علاقته مع دول الخليج وفي مقدمتها السعودية على الرغم من خضوعها لهيمنة واشنطن وقبولها بالتطبيع مع «إسرائيل».
وإذا تطرقنا إلى المخالفات القانونية التي تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية للمواثيق الدولية، سنرى أنها لا تقل مخالفةً للشرعية الدولية التي ترفض استخدام القوة في العلاقات الدولية كما ورد في الفقرة الرابعة من المادة الثانية في ميثاق الأمم المتحدة، وغيرها من القرارات والإعلانات العالمية العديدة، هذا فضلاً عن ميثاق الأمم المتحدة حصر هذه العقوبات بمجلس الأمن ولم يمنحها للدول، وبالتالي فإن الحديث عن الانتهاكات الأميركية للقانون الدولي، ينطلق من مسلمة قانونية أساسية، هي أن هذه العقوبات لا يحق لدولة ما أن تفرضها من خارج سياق الأمم المتحدة، سواء فُرضت ضد دول أو كيانات إلا إذا كانت لا تتناقض مع ما تنص عليه مبادئ الأمم المتحدة أو قراراتها الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو مجلس الأمن.

ثالثاً: الإرهاب الأميركي في لبنان
يعاني لبنان أزمة خانقة اليوم بسبب سياسة الحصار الأميركي، عندما وضعته على لائحة العقوبات المباشرة، حيث يعرّض الأمن الاقتصادي اللبناني للخطر، وهو الشكل الأبرز والفاضح من التدخل في شؤون الدولة. هذا الإرهاب الذي تمارسه ضد لبنان، هو نتاج ضغوطات مستمرة من قبل صقور الإدارة الأميركية، لما يمثله من خطر وجودي على أمن الكيان الإسرائيلي، وكقوة رئيسية في المنطقة العربية غير خاضعة لسياسة الإملاءات الأميركية. وتفعّل الإدارة الأميركية حالة الطوارئ الوطنية في ما يتعلق بلبنان وهو ما يُدخله في إطار الأمن القومي وهذا من المسائل الخطيرة من جهة، والتدخل السافر في شؤون دولة ذات سيادة من جهة أخرى، كذلك يسعى نواب أميركيون إلى ابتكار نوع جديد من العقوبات على المقاومة وبيئتها بشكل دائم.
تدخلت الولايات المتحدة الأميركية في لبنان، عبر سياسات مالية، اعتمدتها من أجل حصار لبنان ما فاقم من أزماته، حيث قامت بفرض خطط وآليات تستهدف العملة الوطنية والقطاعات الحيوية في الدولة.
من السياسات التي تعتمدها الإدارة الأميركية في الحصار، إقحام المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لفرض شروط تعجيزية (رفع الدعم عن المواد الأساسية، تفكيك القطاع العام، خصخصة المؤسسات الاقتصادية والصناعية، تعويم الليرة…) على الحكومة مقابل تسهيل قروض تحت عنوان مساعدات استعجالية للبنان.
كذلك، تقوم باستخدام المؤسسات المالية الدولية -كأدوات ضغط – لتقديم قروض بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات بشرط قيام المؤسسات التابعة للولايات المتحدة بتنفيذ تلك المشروعات. يعني ذلك، احتكاراً أميركياً لكل الإمكانات والموارد وعدم السماح لأي دولة أو قوة إقليمية أخرى في المنطقة بتقديم العون أو الاستثمار في لبنان.
وكما هو معروف، فإن الفيتو الأميركي واضح لمنع لبنان بالتوجه إلى دول أخرى تدعمه وتستثمر فيه سواء روسيا أو إيران والصين وحتى بعض الدول الأوروبية، وسبق لشركة سيمنز الألمانية بالتزامن مع زيارة المستشارة أنجيلا ميركل لبيروت في عام 2018، أن قدمت عرضاً لتأمين حاجة لبنان خلال 6 أشهر بكلفة 800 مليون يورو ولكن العرض رُفض، علماً أن عروضاً عديدة قُدمت من إيران والصين وروسيا في هذا الإطار، وآخرها ما قدمه الوفد الروسي الذي زار لبنان أخيراً، عارضاً بناء محطات كهرباء ومصفاتي نفط وإعادة إعمار مرفأ بيروت.
تفرض الولايات المتحدة على الدولة المستفيدة من القروض الدولية شروطاً صعبة لتسديد أصل القرض والفوائد في زمن الأزمات، بمعنى آخر تفرض عليها آليات وشروطاً لسداد الدين دون مراعاة للأزمات والصعوبات التي تعيشها.
إلى ذلك، هناك شرط أساسي للولايات المتحدة الأميركية في مسألة النفط اللبناني، وهو ترسيم الحدود البرية والبحرية الجنوبية مع فلسطين المحتلة وفقاً لمصلحة الكيان الصهيوني.
وكما هو معروف تحاول الإدارة الأميركية بشتى الوسائل محاصرة حزب الله. لأن مشكلة الولايات المتحدة الأميركية الحقيقية مع لبنان هي سلاح المقاومة وتهديد أمن «إسرائيل»، ولا شأن لها بفساد حلفائها، وإلا فإن لبنان يُعتبر منصة تاريخية لمصالح الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما ورد على لسان أكثر من مسؤول أميركي، لكن حتى الآن، فشلت الولايات المتحدة الأميركية، في إخضاع حزب الله، لذلك تحاول إخضاع لبنان كله، وبعدما فشلت مجمل خياراتها ولم يعد أمامها إلا تغيير موازين القوى في المجلس النيابي من خلال الانتخابات القادمة، بدأت بالضغط والتحضير لذلك.
ولكن من خلال قراءة ما ينشره الأميركيون لا تزال المؤشرات، خاصة تلك المرتبطة بدول المنطقة كلبنان، تؤكد على أنّها تشكّل تحدّياً متعاظماً لخيارات الولايات المتحدة العسكرية وغير العسكرية في منطقة حيوية واستراتيجية، لذلك عملت على هذا الحصار وإنشاء نخب وجماعات داخل المنظومة السياسية لفرض مشروعها في الداخل اللبناني وإقصاء الأطراف السياسية الفاعلة الرافضة للهيمنة الأميركية ومشاريعها التدميرية على رأسها حزب الله، إلا أنها فشلت في تحقيق النتائج المطلوبة.
لكنّ الأخطر من ذلك، أن الفشل الأميركي، يدفع رجال واشنطن إلى التحريض والشيطنة ضد من تعتبرهم متمردين على سياساتها وبكل الوسائل إعلامية كانت أو سياسية أو أمنية، ومن ثم تحاول نشر الفوضى واستغلال هشاشة البيئة الداخلية لتمرير عناوين طائفية ومذهبية هدفها استنزاف بيئة المقاومة وإرباكها، وصولاً إن استطاعت إلى الذهاب إلى خيار الحرب الأهلية لإسقاط الدولة ولاستنزاف قوى المقاومة ماديّاً وبشريّاً. هكذا يتمثل الإرهاب الأميركي في حصار دولة سياسياً واقتصادياً، وفرض عقوبات على تياراتها وأحزابها وشخصياتها، من أجل الانفكاك عن حزب الله أو محاربته، ولو أدى ذلك إلى حرب داخلية لا تُبقي ولا تذر، فلا مصلحة تعلو مصالح الأميركي ومصالح الكيان الإسرائيلي.
* باحث في العلاقات الدوليّة