التحدّيات التي يواجهها النظام الرأسمالي العالمي لا تقتصر على محاولة الدفع بعمليّة الإنتاج المتعثّرة قدماً، بل تتعداها لتشمل بشكل أساسي، أزمة المناخ، والتي شاهدنا أحد أكثر فصولها مأساوية، عبر كارثة الحرائق التي تكاد تلتهم الكوكب حالياً. والحال أنها أزمة مرتبطة أساساً بعميلة الإنتاج، كون معالجتها جذرياً تتطلّب الانتهاء من أحد مصادر التراكم الرئيسية بالنسبة إلى الناتج الإجمالي العالمي، والمتمثّل في عائدات الوقود الأحفوري، لمصلحة عوائد لم تتّضح آليات إنتاجها بعد، رغم كلّ الحديث عن فاعلية الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة، كبديلٍ عن إنتاج الطاقة الأحفورية.
احتدام السجال في الولايات المتحدة
هذه الفاعلية من عدمها هي محور نقاش محتدم حالياً، حتّى في الدول الرأسمالية التي تتبنّى الأجندة الخضراء أكثر من سواها، وتدفع بها قدماً. الولايات المتحدة بهذا المعنى، وكونها تحتضن أحد أكثر المنصّات فاعلية في تبنّي السياسات الصديقة للبيئة، هي مسرح أساسي لهذا الصراع. إذ يستعر السجال بين اليسار عموماً (وعلى رأسه الكساندريا اوكاسيو كورتيز)، والذي يتبنّى بمجمله خيار التخلّص من صناعة الوقود الأحفوري، والأجزاء من اليمين التي تمثّل هذه الصناعة ليس فقط أحد مصادر مشروعيتها التاريخية كما هي الحال في ولاية تكساس الأميركية، بل أيضاً مصدر الدخل لقطاعٍ أساسي من ناخبيها. وهو ما يفسّر استشراس، الرئيس السابق، دونالد ترامب ومعه قطاعات أساسية من الحزب الجمهوري في الدفاع عن هذه الصناعة في وجه الأجندة الديمقراطية. إذ يعتبر، ليس فقط أنّها خيارٌ غير عملي تجارياً بالمقارنة مع ما يمكن تحقيقه بسهولة ومن دون كلفة كبيرة في حال الحفاظ على الصناعة النفطية، وما يسميه «استقلالية الولايات المتحدة في مجال الطاقة»، بل أيضاً أنها كارثة على الطبقة العاملة الأميركية، في ظلّ اعتماد عشرات الألوف من العمّال في الولايات المنتجة للنفط على تلك الصناعة. وهؤلاء في معظمهم، كما يحاجج اليمين، عمّال غير مَهَرة كثيراً، بحكم محدودية تعليمهم، ولا يتقنون بالتالي غير صناعة النفط. وفي حال إيقاف هذه الصناعة لمصلحة الصناعات المعتمدة على الطاقة البديلة، لن يجدوا عملاً فيها أو في أيّ قطاع مرتبط بها بسهولة، لأنها تتطلّب مهاراتٍ غير متوافرة لديهم، كونها أيضاً صناعة مرتبطة بالديموغرافيا الأميركية التي تشهد تحوّلاتٍ هائلة، حتى في عملية الإنتاج، لمصلحة المناطق المختلَطة عرقياً وطبقياً. وهنا يبدو الانقسام، حتى جغرافيّاً أيضاً، بين السواحل والدواخل، من العوامل التي تذكّي تهميش هؤلاء، لأنّ أعمالهم ارتبطت تاريخيّاً بهذه الصناعات، وبصعود النفط، ليس فقط كمصدرٍ للدخل والثروة، بل كنمطٍ للحياة أساساً.

خيار المستقبل وأكثرية الطبقة العاملة
اليسار لم يتطرّق في مجمل نقاشاته إلى هذه الناحية، ليس لأنها إشكالية فقط، بل لأنها تعيد طرح موضوع الانقسام داخل الطبقة العاملة، في الولايات المتحدة والغرب عموماً، على نحوٍ يستفيد منه، فقط، اليمين المتطرّف، وعلى رأسه دونالد ترامب. إذ تستحيل مجاراته في اللهجة الشعبوية المُعتَمَدة في الدفاع عن العاملين في قطاع النفط وعن السياسة النفطية الأميركية عموماً، هذا إذا كان الدفاع عن «البقية من هؤلاء» مطروحاً أصلاً، بالنسبة إلى اليسار. فالذهاب بهذه الوجهة ليست فقط متعذّرة، بل هي أيضاً بمثابة خسارة، على المدى البعيد، للجزء الأكبر من الطبقة العاملة الأميركية، والذي سينتقل في غضون أعوام، من الصناعات التقليدية وعلى رأسها النفط، إلى نظيرتها المرتبطة بمصادر الطاقة المتجدّدة. وهي شبكة صناعية لا تعتمد فقط على الاستثمار في خطوط إنتاج هذه الطاقة، على أهمية ما تنتجه لوحدها هنا، بل تضعها في سياقٍ أبعد، حيث تربطها بمجمل الإنتاج الأميركي، الصناعي وغير الصناعي، ما يجعل منها الاستثمار الأكبر، بعد النفط والسلاح والتكنولوجيا العالية، في تاريخ الصناعة والإنتاج في الولايات المتحدة. إلمام اليسار بهذه الناحية من المسألة، يساعد في إخراجه من المأزق الخاصّ بالمزايدة عليه من جانب اليمين في الدفاع عن الطبقة العاملة، أو الأجزاء منها التي ستخرج بخروج الصناعة النفطية من مجمل الإنتاج الأميركي. الإدراك المتزايد بأنّ مستقبل الطبقة العاملة ليس في الولايات المتحدة فقط، بل في العالم أجمع، مرتبط بالخروج من النشاط الصناعي الكثيف والملوِّث للبيئة، يجعله ليس فقط خيار الأكثرية ضمن هذه الطبقة واليسار عموماً، بل يضع، كذلك، الخيار الآخر، «النقيض»، الخاصّ بالدفاع عن العمالة الباقية في قطاع النفط على سكّة الخسارة الحتميّة. لا لكونه خيار الأقلية فقط، بل لأنّ الصناعة نفسها ستلفظه، حين تنتقل الثروة، وتنتقل معها العمالة وخطوط الإنتاج جميعها، إلى الصناعات الجديدة الخاصّة بمصادر الطاقة البديلة.
في كلّ مرحلة من مراحل التقدّم الصناعي كانت حريّة العمال تقلُّ أكثر، مع تركّز الثروة وتعاظم الربح الناتج عن فائض القيمة


التراكم الرأسمالي الصديق للبيئة
نصل هنا إلى نقطة أساسية تتعلق بطبيعة هذا النوع من الإنتاج. حين تنتقل الثروة ومعها العمالة إليه، من القطاعات التقليدية، والملوِّثة في معظمها للبيئة، سيكون المتوقَّع منه، ليس أقلّ من تعظيم الربح، ومعه فائض القيمة، كونه سيقايض حريّة معظم العمالة الجديدة بمدى ما ستحقِّقه من ربح، لكن مع أقلّ قدر ممكن من الضرر للبيئة، لأن ما سيُنتَج منها هذه المرّة، سيذهب للحفاظ عليها، وليس لتدميرها كما حصل مع صناعة النفط وسواه. هذا يتطلّب موارد كبيرة، وقد تكون أكبر بكثير مما احتاجته صناعة النفط حتى تنمو وتزدهر، لأنّ الاستثمار هنا ليس في المواد الخام وأدوات الإنتاج فقط، بل في العمالة التي يجب أن تكون ماهرة على نحو استثنائي، لإنجاز عمل، هو من الدقّة، بحيث لا يجوز لمنتَجه الإضرار بالبيئة، ولو بنسبةٍ تزيد قليلاً عن الصفر. وهذا يعني، قبل تجهيز خطوط الإنتاج والإتيان بالعمالة، تسخير موارد كبيرة لتدريب هذه الكوادر وتأهيلها، ابتداءً من نظام التعليم بمراحله المختلفة، مروراً بمرحلة التدريب والخبرة العملية، ووصولاً إلى تشغيل خطوط الإنتاج بالدقّة التي يتطلّبها هذا النوع من العمل المعقَّد، الصديق للبيئة. حين تُوضع رساميل كبرى لهذه الغاية، وهي على الأرجح، الأكبر في تاريخ الصناعة في الولايات المتحدة ومجمل الدول الرأسمالية، سيكون ذلك مشروطاً، من جانب الرأسماليّين، بتحقيق أرباح تضاهي، إن لم تكن تفوق، الأرباح التي حقّقتها شركات النفط والسلاح والتكنولوجيا في الماضي. هذا سيضع القوّة العاملة الماهرة الجديدة في موقع، لا نقول ضعيفاً، بالنسبة إلى الرأسماليين والشركات المستثمرة في هذه الصناعة، ولكن، حتماً لا يقارَن بالسياق السابق، الذي كان تدمير البيئة فيه نتيجة النشاط الصناعي الملوِّث، يسير، جنباً إلى جنبٍ، مع نقيضه، أي مع المكتسبات المتزايدة التي تحقّقت للحركة العمالية، خلال صراعها التاريخي والمرير مع أرباب العمل. المعادلة هنا تقول بأنه كلّما قلّ الترسمل وتركُّز رأس المال وتراكُمه، زادت هوامش التحرّك لدى العمال، ومعها المكتسبات، وهي حال معظم الصناعات منذ الثورة الصناعية حتى بداية هذا القرن، حين اهتزّت هذه المعادلة، مع ازدياد تركّز الثروة على نحوٍ قياسي في قطاعات التكنولوجيا العالية. وهي قطاعات عادلت أرباحها، بفضل هذا التركّز، خلال العقدين الماضيين فقط، كلّ ما حققته الصناعات الرأسمالية، طيلة القرون الثلاثة الماضية.

خاتمة
التقدّم الصناعي المفرط هنا، يضعنا أمام معضلة مماثلة لتلك التي واجهتها الدول الرأسمالية الوليدة، حين انتقلت من عصر الصناعات الحِرَفية، وقبلها ريع الأرض، إلى المانيفاكتورة، ثمّ مع اختراع المحرّك البخاري، إلى الصناعات الكبيرة التي تعتمد على تجميع العمال في خطوط إنتاج متخصّصة كبرى، وفقاً لما يعرف بتقسيم العمل، الذي أفضى إلى ولادة الصناعة الحديثة، أوائل القرن العشرين. في كلّ مرحلة من هذه المراحل كانت حريّة العمال تقلُّ أكثر، أي مع تركّز الثروة، وتعاظم الربح الناتج عن فائض القيمة، ولكن حينها، أيضاً، كانت الحركة الشيوعية قويّة، واستطاعت بالتوازي مع هذا التركّز والنموّ في حركة الرأسمال بناء شبكة عالمية من النقابات التي نافحت لعقودٍ لاحقة عن حقوق العمال، وعملت على كبح هذا النموّ المتعاظم في حركة الرأسمال، وتقييد نهمه المستمرّ إلى الربح. هذا يجعل المعركة حالياً أصعب بكثير،ٍ كونها ستُخاض على أرضٍ تآكلت فيها النقابات كثيراً ومعها حقوق العمّال، إلى درجة أنّ التقدّم الصناعي المذهل باتجاه التخلّص من الوقود الأحفوري، وتأثيره المدمّر على البيئة، يبدو، في ظلّ غياب حركة عمّالية قوية على مستوى العالم، ولا أقول يسار سياسي، في مصلحة التراكم الرأسمالي الكبير القادم، أكثر منه لمصلحة اليسار نفسه، مهما بدت حركته تقدّمية ومستقبلية.
* كاتب سوري