في عام 2001 وعندما قرّر غزو أفغانستان لجأ جورج بوش الابن إلى «ذخيرة» استراتيجية موجودة لدى أميركا وجاهزة للاستعمال الفوري: طبقة من الأفغان أصلاً – المتأمركين روحاً وقلباً والعاملين في مؤسّساتها البحثية والأكاديمية وأجهزتها البرلمانية والحكومية. وهؤلاء الأفغان المتأمركون كانوا أكبر عونٍ في مشروع الاحتلال الأميركي لأفغانستان منذ مرحلة التفكير والتخطيط إلى مرحلة التنفيذ والهجوم، وصولاً إلى مرحلة النظام العميل ما بعد الاحتلال. وأبرز وجه من تلك المجموعة (التي تشمل أيضاً أشرف غني الذي أصبح لاحقاً رئيساً لأفغانستان) كان زالماي خليل زاد الذي ساهم بفعالية منقطعة النظير في مشروع غزو بلده الأم، إلى درجةٍ جعلت الحكومات الأميركية المتعاقبة تعتمده كممثّلٍ لها في كلّ ما يتعلق بأفغانستان بل وتسلّمه الملف بالكامل! كما أن كفاءته وخبرته وإخلاصه جعلت جورج بوش الابن ووزير دفاعه رامسفيلد يستعينون به في مشروع غزو العراق أيضاً، فعيّنوه سفيراً هناك (وحاكماً فعلياً للبلد) في فترة حرجة جداً (ما بين 2005 إلى 2007) رعى خلالها وأشرف على اندلاع حرب طائفية شنيعةٍ لم يعرف لها العراق مثيلاً في تاريخه الحديث.فمن هو زالماي خليل زاد؟ وُلد في مزار شريف سنة 1951 لأبوين من الباشتون (الأغلبية في أفغانستان) ونشأ في كابول أيام الحكم الملكي. وفي سنّ الـ 17 حصل على فرصة ضمن برنامج «تبادل ثقافي» أميركي، فذهب إلى كاليفورنيا وأمضى فيها عاماً. بعدها توجه إلى لبنان حيث التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وبقي فيها إلى 1976 حين حصل على الماجستير في العلوم السياسية. عاد خليل زاد من جديد إلى أميركا والتحق بجامعة شيكاغو وحصل منها سنة 1979 على درجة الدكتوراه تحت إشراف الأكاديمي الأميركي والصهيوني العريق ألبرت والستتر. علاقته الوثيقة مع أستاذه والستتر كانت مهمة جداً له، ففتحت له أبواباً للوصول إلى حلقاتٍ فيها شخصيات نافذة في اللوبي الصهيوني واليمين الأميركي أوصلته إلى مؤسسة الأبحاث التابعة لوزارة الدفاع الأميركية «راند» فقدم لها 28 بحثاً. وفي عهد الرئيس رونالد ريغان انضم إلى حاشية «المحافظين الجدد» الذين بدأوا يمارسون نفوذاً متزايداً في السياسة الخارجية، فالتحق بالعمل في وزارة الخارجية تحت إمرة مديره المباشر آنذاك بول وولفوفتز (أحد أبرز صقور مشروع غزو العراق). وكان خليل زاد من الأشدّ تطرفاً تجاه الاتحاد السوفييتي والدعاة إلى تصعيد المواجهة مع الشيوعية في العالم، بما في ذلك برنامج دعم «المجاهدين الأفغان». وبحكم خلفيّته تلك وإتقانه لغة البشتو الأفغانية، تم استدعاؤه إلى البيت الأبيض ليقوم بالترجمة بين الرئيس ريغان ووفد «المجاهدين» الزائر سنة 1985. وهكذا تصاعدت مكانة زالماي خليل زاد في الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً بعد أن أثبت حضوراً مميّزاً في أوساط أقصى اليمين واللوبي الإسرائيلي، وخصوصاً في أيام حكم الرئيسَين الجمهوريَّين ريغان وبوش الأول. في عهد بيل كلينتون تراجع دوره قليلاً، ولكنه بقي ناشطاً في صفوف عتاة اليمين الأميركي (من أمثال جون بولتون، وإليوت ابرامز) ووقع معهم على الرسالة التي بعثوها للرئيس كلينتون يطالبونه فيها بإسقاط صدام حسين في العراق باستخدام جميع الوسائل بما فيها العسكرية. ومع بدء الاستعدادات الأميركية لغزو أفغانستان سنة 2001 فإنّ لحظة الذروة في حياة خليل زاد حانت! لم يُضِع خليل زاد لحظة واحدة بل بدأ العمل قبل حدوث الغزو وتولّى بمهارة وهمّة ترتيب «مؤتمر بون» للأفغان المقيمين في الخارج، وذلك بهدف إضفاء الشرعية على الغزو «اللاشرعي» الأميركي المرتقَب. وفي أعقاب الغزو تمّت مكافأة زالماي بتعيينه سفيراً في كابول، وحاكماً بأمره! ويمكن القول إن خليل زاد كانت له اليد الطولى في جميع الترتيبات السياسية والإدارية في أفغانستان بعد وقوعها تحت الاحتلال الأميركي، بما في ذلك تعيين «الرئيس» الجديد حامد قرضاي وحكومته. كما أنه تولى خلق وإحياء ما يُعرف بالـ «لويا جيركا»، وهو شيء من تقاليد القبائل الأفغانية القديمة، لكي يقوم بدور مجلس الشعب ويضفي «الشرعية» على حكومة العملاء التي نصبها الاحتلال، وبذلك يتجنّب إشكالية الانتخابات الشعبية الحقيقية التي من المؤكّد أنها كانت ستفرز رفضاً لحامد قرضاي وبقية الهابطين في البراشوت الأميركي على أفغانستان.
ولا تكتمل صورة زالماي خليل زاد بدون الحديث عن نصفه الآخر، زوجته. «وافقَ شِنٌّ طَبَقة» هو المثل العربي الذي يمكن أن يصف العلاقة بين خليل زاد وزوجته شيريل بينارد على أفضل وجه. فهي يهودية نمساوية المولد وناشطة جداً في الحركة الأيديولوجية المعادية للإسلام، ويمكن اعتبارها من عتاة الصهاينة في الولايات المتحدة. ومن أهم أبحاثها التي أنجزتها لحساب مؤسسة «راند» ووزارة الدفاع دراسة بعنوان «الإسلام الديمقراطي المدني»، قالت فيه إن على الولايات المتحدة أن تسعى لخلق «عالم إسلامي متوافق مع باقي النظام الدولي، يكون ديمقراطياً وقابلاً للنمو الاقتصادي ومستقراً سياسياً ومتطوراً اجتماعياً ومواكباً لأنظمة وسلوك النظام الدولي»، وإن عليها «التصدّي للأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة التي تغذّي الأصولية الإسلامية وتشجيع التوجه نحو التنمية والديمقراطية». والحكومة الأميركية تبنّت تقرير بينارد بالكامل وحوّلته إلى خطة عمل على الأرض نلاحظها اليوم من خلال التدخّلات الأميركية في المجتمعات العربية والمناهج الدراسية، وتمويلها لمنظمات المجتمع المدني، وترويجها لمفاهيم المثلية الجنسية وإعادة تعريف الأسرة، والدفع باتجاه التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. ولسببٍ غير معروف فإن شيريل بينارد توجّهت في بدايات السبعينات من القرن الماضي إلى لبنان والتحقت بالجامعة الأميركية في بيروت، حيث التقت خليل زاد وتزوجا قبل أن ينتقلا معاً إلى أميركا بعد تخرجهما. ومن الواضح أن شيريل بينارد كانت هي الطرف الأقوى والمسيطر في العلاقة التي ربطتها بخليل زاد الذي لا شكّ استفاد منها في بناء المزيد من العلاقات مع الجهات الصهيونية في أميركا، ولعلّها كانت هي المدخل الذي أوصله إلى زبغنيو بريجينسكي (البولندي المولد والمتعصب جداً ضد الشيوعية) مستشار الأمن القومي في أواخر السبعينات، والذي كان المسؤول عن بدء البرنامج الأميركي لدعم «المجاهدين» في أفغانستان. أنجب الزوجان ولدين اثنين (بعض الكارهين لخليل زاد يشكّكون في أن يكون هو بالفعل الأب البيولوجي للولدين) واللافت أن كليهما لا يحملان اسم أبيهما! فقد اختارا اسم الأم ويعرّفان عن نفسيهما بأنهما أليكس بينارد وماكس بينارد، بلا زالماي ولا خليل ولا زاد.
تغيّرت الإدارات في أميركا وتقلّبت من النقيض إلى النقيض، ولكنها أبقت رجلها الأفغاني في منصبه. فهو الكارهُ لأصله والمحتقرُ لشعبه، وهو الخبيرُ الخبيثُ المجرّبُ الموثوق. إنه الأفغاني الجيد الذي كان جورج بوش يذكره باسمه الأول «زال».


*كاتب وباحث من الأردن