تعيش مصر بتحضيرها للانتخابات الرئاسية مرحلة جديدة من حراكها، ومداً سياسياً جديداً لحالة الثورة المتدافعة أمواجها. تأتي هذه الخطوة في لحظة سياسية بالغة التعقيد تحيط بمصر والواقع العربي برمته، ما يجعل الشارع العربي يتطلع برجاء خاص لقيامة مصر أخرى. مصر تستطيع قراءة التحديات بعين البصير الواثق لا التابع، وعندها فقط يمكن أخذ التهديد إلى فرصة.

تسهم فيها أم العروبة بإعادة رسم الخطوط السياسية المتراجعة لأمننا القومي الذي أضعناه خلف شعار مصر أولاً ولبنان أولاً... بينما العالم كله اليوم في أقطارنا، ورأب الصدع السياسي والمجتمعي الذي استفحل بعد «ربيع ضائع». مصر النخب والشعب تدرك أن مكمن قوتها وشرعيتها لا يستمد من داخل الحدود فحسب، بل بحضورها القوي وتأثيرها الفاعل في قضايا الأمة. تختلف دول المنطقة وقواها الحيّة كما القوى الدولية في قراءة المشهد المصري، فبين واقف على التل يترقب وآخر يلعب على خط طرفي الصراع، وداعم ومؤيد مسبقاً بمآرب وأغراض، ومتحفظ لأسباب... ومواجه متصد بعنف لغايات قصدها. ولأننا في قلب العاصفة وعلى مفترق طرق، إذ إن المشاركة الشعبية العريضة فيما لو تحققت في الانتخابات الحالية ستضفي إلى مشروعية تامة وناجزة للمسار السياسي والدستور الجديد كائناً من كان الفائز. لذلك سنحاول محاورة المتحفظين، ومجادلة الرافضين المتصدين من قوى وحركات فاعلة في ساحتنا العربية:
أــ للمتحفظين: على خلفية حادثة «رابعة العدوية» وما لحق بالمتظاهرين في الساحات فإنا نهيب هذا الموقف ونقدرة إلا أننا في الوقت نفسه نشير إلى مسائل عدة:
إن الأزمة عميقة في مصر والانقسام السياسي حاد فلا يمكن اختزاله بخطأ بل بخطيئة رابعة العدوية، نشاطركم الرأي بإدانة الحادثة ونطالب بفتح تحقيق شفاف وعلاني حولها... إلا أننا في الوقت نفسه نشير إلى أن الصراع في مصر والانقسام، والحق يقال إن غالبية الشعب المصري خرجت لتؤكد رفضها حكم محمد مرسي ونظامه بعد فشل التجربة.
بمنطق المقاومة والعداء المطلق لإسرائيل، لا يُعتقد أن أحداً من المرشحين المفترضين «المشير السيسي» أو «الأستاذ صباحي» سيكون أجرأ من المصلحة والعقل، مصر الدولة أكبر من أي تيار أو تنظيم ودورها قائم ومستمر وصوتها مؤثر، فلا يصح الانقطاع عنها أو إضعاف الاتصال بها. بمنطق العمل والحق ومقاومة العدو الإسرائيلي هل تستحق التجربة الإخوانية هذا المستوى من التحفظ؟ فلا أعتقد أن أياً من المرشحين (السيسي وصباحي) سيكون أجرأ من الرئيس المعزول محمد مرسي في مراسلته الشهيرة لشمعون بيريز، وتطييب خاطر الأميركي والغربي... وفتح المعارك الوهمية في الساحة العربية لملاقاة جماعته وفئته.
وبنظرة المقاومة التي نقدس إلى القوى والدول التي يتصدى فيها التيار الإخواني للحكم في المنطقة ولو بصورة أوسع إلى المشروع الاخواني نلاحظ:
تركيا كنموذج حكم للإخوان تقيم علاقات دبلوماسية وأمنية وطيدة ووثيقة مع العدو الإسرائيلي وهي جزء من الحلف الأطلسي المعروفة وجهته وغايته. قطر الإخوانية هي الأخرى، فيها مكتب تمثل تجاري وعلاقات علنية مع العدو الإسرائيلي، «وتستقبل على أرضها الطيبة قاعدة الأسطول الخامس الأميركي الموجه ضد شعوب المنطقة وقوى المقاومة».
وأكثر من ذلك، فأكبر حركات المقاومة الإخوانية حماس، خرجت هي الأخرى من خيمة «النظام الديكتاتوري» في سوريا، إلى حاضنة الديمقراطية قطر وعدوة إسرائيل الأولى «لتقاوم» من هناك. حبذا لو اختارت مكاناً آخر.
ولن نغفل التجربة التونسية التي ما خلت تخطب الود الأميركي وتتغاضى عن بعض العلاقات «الدبلوماسية الشعبية» مع الكيان الصهيوني. بمنطق المصلحة والعقل والمقاومة التي تعلو كل شيء في هذا الزمان ومع تقديرنا للمبدئيات، فلا نرى أن من صالح قوى المقاومة للعدو الإسرائيلي أن تقحم نفسها في خصوصيات الدول والصراعات فيها، لأنها بذلك ستقطع كل علاقة مع الأعم الأغلب من دولنا العربية والاسلامية، بينما المنطق يفرض أن تتعاون المقاومة مع كل من يدعمها «بلا شروط». وبالمنطق نفسه حرمة الدماء البريئة التي أريقت في رابعة أو تراق اليوم على يد الإرهاب في مصر فإنه آكد وأولى بذل الجهد ومد اليد لرأب الصدع في سوريا، ووقف نزف الدم البريء هناك، التي لم يظهر إلى اليوم أن أيّاً من حكومات الإخوان جاهدة لإيقاف النزف وإيجاد مخرج وتسوية واقعية للأزمة. فتركيا ترى في سوريا بوابة الانقضاض على الواقع العربي والإسلامي كله، وعلى الخطى نفسها سار الرئيس المعزول محمد مرسي. وأذكر أن سوريا التي نريد هي سوريا الدولة والشعب والجيش والموقع المتصدي للمشروع الصهيوأميركي في المنطقة.
في المقابل يتوقع من كلا المرشحين العلمانيين «بحسب الاصطلاح» أن يكون لهما بادرة فاعلة للحؤول دون تجرؤ الحكومة التركية على بلادنا بدفع الارهاب اليها والتسليح، ومنع التدخل الأجنبي ورفض تقسيم سوريا والحفاظ على وحدتها أرضاً وشعباً والعمل على حل سياسي. ما يفيد أن العلمانيين يتقدمون بعض الإسلاميين في تقديرهم لمصلحة الأمة ورأب الصدع فيها.
ب ــ وللرافضين المتصدين بعنف، تتطلب المرحلة موقفاً مسؤولاً خصوصاً في مصر، حيث «مركز الثقل» لتحديد وجهة السير واتباع منهج رشيد. فالواقع يحدث بخيارين اثنين لا ثالث لهما:
الدفع لمواجهة المسار الجديد وتغييره بأي ثمن. خطورة هذا الخيار فضلاً عن استحالة تحققه أنه نفق مظلم لا نهاية له يهلك الحرث والنسل، يطيح بالشرعية الدينية التي هي فوق كل اعتبار لأي حركة دينية تهتم بكرامة الانسان وتحاذر الإيغال في الدماء و نزفها في المكان الخاطئ. (وهذا بدوره يفرض مراجعة للقرار اللاشرعي واللاأخلاقي الذي صدر بحق الاخوان خلال المرحلة الانتقالية).
الانتقال من حالة الانفعال والتخبط إلى هدوء نسبي، يستعيد به صفاء الرؤية وبالتالي يسعى إلى المحافظة على حضوره الشعبي الكبير وتحفيزه، قبل تضييعه في مذاهب السلطة الجديدة أو التطرف والارهاب.
إمعان النظر بأدبيات وشعارات ثقافية وسياسية غدت بحاجة لإعادة قراءة أو تعريف:
فلسطين، ومواجهة العدو الأميركي ـ الإسرائيلي، فقد فوجئ الشارع الاسلامي أنها لم تتقدم الخطاب وتستحضر كعنوان جامع ومستنهض للأمة، بل ضاعت على حين غرة من الأولويات، ولعلهم لو فعلوها لرأوا رأي العين ولمسوا مسّ اليد طوائف العرب والمسلمين وقواهم تصطف خلفهم وإلى جانبهم يداً واحدة نحو الهدف والمقصد. شعار الإسلام هو الحل كما نظر له وطرح أثبت عقمه عملياً، ونظرية التمكين وفقه الدولة وأطروحة النظرة – للآخر- كلها أمور تتطلب نقداً ذاتياً وعلنياً.
أن يجري الإخوان حركة نقد ذاتي غداً مطلوب منهم، وأن يتصدوا لشؤون الأمة من بوابة المقاومة وفلسطين لا يزال ينتظر منهم، وأن يستحيل الدين هوى، هو ما يخشى عليهم. وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال.
* باحث سياسي