تلخّصت أشياء كثيرة في السياسة اللبنانيّة في الأسبوع الماضي. تكاد تقول أن وجوهاً قد أُسفِرت. والسياسة في لبنان تعتمد دوماً على الحيَل والألاعيب. فالشّعارات قد تعني عكس ما يرمي هاتِفها، والمطالب قد تكون تغطية على مطالب أخرى غير مُعلنة. في الستينيّات خاض «الحلف الثلاثي» الانتخابات تحت شعار «السيادة» فيما كان أقطاب الحلف يتموّلون من الغرب ومن إسرائيل للاستعداد للقضاء على المقاومة الفلسطينيّة بالاشتراك مع الجيش اللبناني (الوثائق الأميركيّة التي استعانَ بها المؤرّخ نيت جورج في أطروحته في جامعة رايس تظهر كم أن رئيس أركان الجيش اللبناني يومها، يوسف شميط، كان أنطوان لحد قبل تشكيل جيش لبنان الجنوبي—بدا متعطّشاً للدماء الفلسطينيّة). البطريرك الماروني، مثلاً، كالَ المدائح على سلاح حزب الله قبل سنوات فقط كما كالَ المدائح على تدخّل الحزب في سوريا. تغيّرت قناعاته، وله الحق بتغييرها. الكل يتغيّر—لكن في اتجاهٍ واحدٍ فقط: نحو التحالف السعودي-الإماراتي-الإسرائيلي. وهناك كتّاب وصحافيّون كانوا ينتقدون أيّ جملة نقدٍ تصدر عن أيّ كان ضد حزب الله، وكانوا في نسق الممانعة المبتذلة وحتى الثناء على شبّيحة النظام السوري وهم اليوم من أتباع «بو ناصر» (تركي الشيخ) في الرياض. (ظاهرة «بو ناصر» تستحقّ الدارسة: هذا تابع للأمير محمد بن بسلمان ولأنه عضوٍ بارز في الحاشية، ولأنه يرأس هيئة الترفيه والانشراح فإن إعلاميّي وفناني وفنانات دبي-بيروت يتملّقون له بأبشع ما يكون التملّق بصورةٍ يوميّة، فيما هو يتعامل معهم بازدراء. أي أن التبعيّة لصف الاعلاميّين والفنانيّين لا تكون للأمير، لكن لتابعٍ في حاشية الأمير). الكلّ يتغيّر امام ناظريك. حزب فؤاد مخزومي لم يكن يفوّت اجتماعاً لأحزاب ٨ آذار، وكان في خندق الممانعة لسنوات، كما كان ميشال سليمان وكان شارل رزق وكان غيرهم كثيرون. الكلّ يتغيّر، والكل يتغيّر بالمال لا بالحسنى. هناك طرفٌ واحد يبتاع الناس. هذا الطرف هو الطرف السعودي-الإماراتي-الغربي. ابتياع الناس يكلّف اميركا أقلّ من غيرها لأنّ لديها سيف التهديد بالعقوبات وحجز ثروات الفاسد وميراث الذريّة. هذه فعاليّة التلويح الأميركي بالعقوبات أمام نبيه برّي أو الصفدي أو ميقاتي (عندما كان في لقاء عين التينة). يقول قائل لكن هناك إعلام إيرانيّ التمويل، وهذا صحيح. لكن: هل أن مرتّبات إعلام إيران تكفي لجذب فردٍ من خندقٍ إلى خندق؟ كشف جاد غصن عن حجم المرتّبات الخليجيّة عندما تلقّى عرضاً من محطة محمد بن سلمان، «الشرق»، مقابل عشرة آلاف دولار. هذه المرتّبات تسخدم اليوم لنقل أفراد من خانة مقاومة إسرائيل لخانة إسرائيل نفسها، وهذا حدث مع كثيرين نراهم في الاعلام وعلى المواقع. هذه ليست مرتّبات تعويض مقابل عمل، هذه مرتّبات شراء الولاء والطاعة المطلقة، وهناك فارق. عندما يكون مرتّب العمل في هذه الوسائل الاعلاميّة التابعة لمستبدّين مرتفعاً لهذه الدرجة (أكثر من ضعف مرتب أستاذ جامعة مبتدئ هنا) فإنّهم لا يريدون منك عملاً مهنيّاً او صحافةً استقصائيّة. لا. هذا عكس ما يريدون. هم يدفعون هذه المرتّبات من أجل حثّك على رمي كل ما تعلّمته في الجامعة والممارسة عن مهنة الصحافة كي تصبح متمرّساً في حقل البروباغندا السياسيّة المحض. ليس هناك من صحافةٍ خليجيّة (كان هناك صحافة في الكويت قبل الاجتياح العراقي) بل هناك بروباغندا خليجيّة باتت (في الحالات السعوديّة والإماراتيّة والبحرينيّة) صهيونيّة العقيدة (والصحافة القطريّة تطبيعيّة بالخالص وجريدة النظام، «القدس العربي»، نشرت مقالة لوائل عصام يعطي فيها (لمن؟) إحداثيّات عن مواقع نقل أسلحة لحزب الله في سوريا).
ما حدث على الحدود بين لبنان وفلسطين كشف الكثير من المواقف وأزال الكثير من الحُجب. هو كشف أولاً أن حياد البطريرك لم يكن حياداً عندما أطلقه. هو بادر قبل إعلان الحياد إلى زيارة فلسطين المحتلّة في خرقٍ فاضحٍ لسياسة وقانون لبنان. لم تكن البطريركيّة المارونيّة يوماً تكترث لحالة مسيحيّي فلسطين لا بل هي تآمرت ضدّهم، منذ الأربعينيّات. تشكّلَ في لبنان منذ الأربعينيّات ما يمكن تسميته بالعقيدة «الفينقيّة الصهيونيّة» (المصطلح ورد في مقالة للمؤرّخ الإسرائيلي، إلياهو الياث في مجلّة «كاثدرا» في عدد نيسان ١٩٨٥). إنّ الاتفاقيّة السريّة بين البطريركيّة المارونيّة وبين «الوكالة اليهوديّة» (الأداة السياسيّة التنفيذيّة للحركة الصهيونيّة) في عام ١٩٤٦ أعطى لليهود الحقّ «في الاستقلال» في فلسطين وفي الهجرة إليها، مقابل الاعتراف الصهيوني بـ «الوجه المسيحي» للبنان (راجع مقالة لورا زترنغ أيزنبرغ، «الديبلوماسيّة المستميتة: الاتفاقيّة المارونيّة-الصهيونيّة لعام ١٩٤٦»، في مجلة «دراسات في الصهيونيّة» مجلّد ١٣، رقم ٢، ١٩٩٢). وتضمّنت الاتفاقيّة بنداً خاصاً للإصرار على سريّة الاتفاقية وعدم جواز نشرها (حتى الساعة، ليس هناك من نشرٍ كاملٍ لنص الاتفاقيّة في المراجع العبريّة). لكن الاتفاقيّة، للأمانة، تطرّقت إلى عرب فلسطين وجرى وصفهم بـ«العناصر المعادية»—معادية للطرفيْن). كما تضمّنت الاتفاقية دفوعات للصحافة اللبنانيّة لخدمة الصهيونية كما أن البطريرك عريضة أرسل في ١٩٤٧ رسالة إلى جريدة «الهدى» النيويوركيّة موصياً بالاتصال بوكلاء الحركة الصهيونيّة في أميركا (كان رئيس تحرير «الهدى»—فخر الصناعة اللبنانية—صهيونيّاً مدفوعاً على ما تذكر المراجع العبريّة). بلغت خدمات البطريركيّة للحركة الصهيونيّة ذورتها في نيسان ١٩٤٧ عندما تطوّع إميل إدة ومطران بيروت، أغناطيوس مبارك (أليس هناك شارع أو جادة باسمه؟) للإدلاء بشهادة سريّة لدعم الحركة الصهيونيّة أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين («يونسكوب»). لم يكتفِ المطران مبارك بشهادته المناصرة للصهيونيّة بل ألحقها برسالة قارن فيها بين «تنوّر» اليهود والمسيحيّين وبين «تخلّف ورجعيّة» المسلمين العرب. وختم مبارك رسالته بالتشديد على أنّ «لبنان يطلب الحريّة لليهود في فلسطين كما يطلب حريّته واستقلاله هو». وتسرّبت رسالة مبارك إلى جريدة «الديار» في حينه مما أدّى إلى اندلاع تظاهرات واحتجاجات وشارك موارنة وغير موارنة في حملة التنديد بالمطران مبارك (راجع مقالة وليام حدّاد، «المواقف العربيّة المسيحيّة نحو الصراع العربي-الإسرائيلي» في مجلة «العالم الإسلامي»، عدد ٢، ١٩٧٧). وفي عام ١٩٤٩و أرسل المطران مبارك مبعوثين إلى إسرائيل للاستعلام عن موقف الحكومة من انقلاب ضد الحكم كان يعدّه بيار الجميّل وإميل إده (راجع مقالة إيال زيسر، «الموارنة ولبنان ودولة إسرائيل: الاتصالات المبكرة»، «ميدل إيسترن ستديز»، أكتوبر ١٩٩٥). بقي أن نذكر أن الدولة اللبنانيّة، ممثّلةً بالرؤساء الثلاث، أقامت في عام ٢٠٠٨ حفلة تكريم لاغناطيوس مبارك في بيروت بحضور ممثّلين عن الرؤساء الثلاث، وأشاد المطران بولس مطر بمبارك ووصفه بأنه «حبرٌ من أحبار الكنيسة» و «علم من أعلام لبنان» («المستقبل»، ٨ حزيران، ٢٠٠٨). إنّ خلاصة ما سبق يسلب من البطريرك الراعي حقّ التعليق على السياسة الخارجيّة للبنان، خصوصاً في مسائل تتعلّق بالصراع مع إسرائيل، إلا إذا كان البطريرك في وارد فتح أرشيف البطريركيّة كي يتسنّى لنا مراجعة تاريخ العلاقة السريّة بين البطريركيّة وبين الحركة الصهيونيّة قبل وبعد قيام اسرائيل في العام ١٩٤٨. ولا يحبّ أن ينحصر حق الردّ على البطريرك بمرجع ديني مثل أحمد قبلان. يجب أن يمتنع قادة السلطات الدينيّة عن التعليق عن السياسة الخارجيّة اللبنانيّة والتي يجب أن تكون خارج صلاحيّاتهم بالمطلق (كما أن مواقف رجال الدين، مثل محمد مهدي شمس الدين وعبد الأمير قبلان، كانت متوائمة مع مسار اتفاقيّة ١٧ أيار في السنتيْن الأولى من حكم أمين الجميّل). لا، البطريرك الماروني لم يكتفِ بإدانة حق الدفاع عن لبنان بل هو طالب الجيش اللبناني بمنع إطلاق الصواريخ من لبنان. أي أن البطريرك الماروني وضع نفسه في هرم سلطة القرار الدفاعي للبنان، وقرّر من تلقاء نفسه حماية إسرائيل. لكن من المفيد أن حياد البطريرك تكشّف عن حقيقته. لكن أين كان دعاة الدولة المدنيّة المنشودة عندما أصدر رأس الكنيسة أوامرَ من عنده لقيادة الجيش اللبناني؟ هل كانوا نياماً؟
الردّ على قرارات بيطار لا يكون بالاستجارة بالمجلس النيابي الفاسد الذي فقد شرعيّته بعد الانهيار الكبير، وبعد عجزه عن التعامل مع أسباب هذا الانهيار


وفي نفس السياق، تبيّن أن صفّ منظمات المجتمع المدني والثاو الثاو ليست إلّا مشروعاً متجدّداً ل١٤ آذار. هؤلاء المطالبون بالحريّة وقلب النظام لا يثقون بـ«السلطة» أبداً ويريدون استبدالها، وبصلاحيات استثنائيّة، لكنّهم يثقون بهذا النظام في أمرٍ واحدٍ فقط: الدفاع عن لبنان. أي أن المحتجّين والمحتجّات لا يثقون بالنظام في شؤون التربية والصحة والقضاء والأشغال العامة والطاقة والزراعة والصناعة والمالية لكن يجدون في النظام كامل الكفاءة للدفاع عن لبنان وتسليم جوزيف عون مهمة قيادة حركة مقاومة من الجيش ضد إسرائيل من حسن نصرالله. والذي جرى على حدود فلسطين لا لبسَ فيه. أطلق تنظيمٌ فلسطيني ثلاث قذائف فارغةً نحو فلسطين. وإطلاق الصواريخ العشوائي مضرّ بحركة مقاومةٍ منظمّة لكن المخيّمات الفلسطينيّة تعرّضت عبر السنوات لاختراقات خطيرةٍ خصوصاً من ممثّل النظام الإماراتي الصهيوني، محمد دحلان. وإطلاق القذائف والصواريخ عشوائيّاً نحو فلسطين كان من سمة حركات المقاومة الفلسطينية قبل ١٩٨٢، وهي من دلائل فشلها وتقصيرها وعجزها. لم يكن هناك خطة موحّدة للدفاع (أو للهجوم) بل كان هناك إطلاقٌ مزاجي وعشوائي وموسمي ولو تسبب ذلك باجتياحات لم تكن المقاومة الفلسطينيّة أو الحركة الوطنيّة في وارد مواجهتها وفق خطة دفاع محكمة (من يضع هذه الخطة في الحركة الوطنيّة؟ وليد جنبلاط وتوفيق سلطان؟)
لكن حركة المقاومة قبل عام ٢٠٠٠ وبعدها أصبحت مدرسة في الحسابات الدقيقة والتبصّر، خلافاً لكل تجارب المقاومة في السابق. وحبس الانفعاليّة وقراءة العدوّ هي من عوامل نجاح المقاومة الحالية. لكن العدوّ المتربّص—والمُقيّد بحكم نجاح المقاومة في تشكيل أوّل حالة ردعٍ مع العدوّ منذ عام ١٩٤٨–أراد أن يختبر، مستفيداً من بيئةٍ سياسيّة فاسدة ومشتراة من قبل التحالف السعودي-الإسرائيلي-الغربي-الإماراتي. قرّر العدوّ أن يقصف لبنان بطائراتٍ مقاتلة وأمطر أرض لبنان بأكثر من ٩٠ قذيفة. المُلفت كان يومها كم أن النخبة المثقّفة غضّت النظر على عدوان إسرائيل، فيما كان جوزيف عون يمارس استراتيجيته المعروفة: أي «يتابع الموضوع مع قوات اليونيفيل». وبات لمديريّة التوجيه في الجيش لازمة حول أن قيادة الجيش ترى أن كلّ عدوان لإسرائيل—في البرّ والبحر والجوّ—لا يستحقّ غير «المتابعة» مع قوات الـ«يونيفيل». وكان يمكن أن يكون الأمر مجرّد هزر لولا أن قائد الجيش لا ينفكّ عن التكرار أن جيش لبنان على أتمّ «الجهوزيّة» (كلمته المفضّلة والمستوردة من الراعي الأميركي) لمواجهة أي عدوان. أي أن الجهوزيّة ليست إلا متابعة للموضوع مع قيادة الـ«يونيفيل»، بالإضافة إلى ملاحقة شوالات البطاطا وأكياس مسحوق الغسيل، «برسيل»، والذي أثبت جوزيف عون أنّه أهلٌ لمواجهتها. وإذا كان الجيش لم يكترث لعدوان جوّي من قبل إسرائيل فما بالك بقوى المجتمع المدني والثاو الثاو؟ هؤلاء، يتحرّكون ويشعلون المواقع بمجرّد أن تطلع محطة محمد بن سلمان، «العربيّة»، بتشويه مقصودٍ لأي تصريح إيراني ويعتبرون ذلك انتقاصاً من سيادة لبنان. كل هؤلاء صمتوا وأسامة سعد قرّر أن العدوان من العدوّ أمرٌ متوّقع (أي فلنغيّر الموضوع) وانصرف للحديث عن الثورة الكبرى التي بات من عمادها مع قيادات ثوريّة أخرى، مثل بولا يعقوبيان ولوسيان أبو رجيلي وسامي الجميّل. ومنظمات المجتمع المدني لم تجد أنّ قصفاً جويّاً إسرائيلياً يستحق الردّ أو الإدانة أو التصريح.
المجتمع المدني والثاو الثاو ليس إلا تجليّاً جديداً ل١٤ آذار. كانت بعض شخصيات هذا المجتمع وبعض أفراد وقيادات الثاو الثاو على هامش ١٤ آذار، لا بل على يمينه. هؤلاء (مثل موقع ميغا سركيس نعّوم، الذي هو بلباسٍ تقدميٍّ على يمين ١٤ آذار لأنّه وإن تطابقت مواقفه مع ١٤ آذار—من حيث نسيان كل القمع في الدول العربية والتركيز فقط على سوريا وإيران—فإنه يعيب على ١٤ آذار أنها تراخت مع سلاح المقاومة التي يريد هو وسامي الجميل تجريدها من سلاحها. (الموقع اعتمد على خبرية سركيس نعّوم أن القاضي بيطار وجد قطاً مذبوحاً، أو دجاجة محشيّة، لا أذكر، أمام منزله في رسالة تخويف).
الحزب قرّر الردّ بـ٢٠ قذيفةٍ فقط (من لاحظ أن نظام القبة الحديدية لم يُسقط إلّا النصف، بحسب مزاعم العدوّ. لكن ليس هناك من معجبٍ بنظام القبة الحديدية أكثر من وسائل إعلام الخليج التي تردّد مزاعم العدوّ عن نجاحاتها بالرغم من انكشاف أكاذيب ومزاعم العدوّ في أكثر من دراسةٍ أميركيّة). عشرون قذيفة استدعت ردوداً من صف ١٤ آذار والاعلام الجديد من دون أن يكون هؤلاء قد علّقوا أو استنكروا قصفاً جويّاً إسرائيلياً لجنوب لبنان. لكن المسألة عنصريّة وطائفيّة: عندما يعلن موقع ميغا سركيس نعوم استنكاره ليس فقط للعشرين قذيفة بل أيضاً لـ«ضحكة نصرالله الصفراء» تعلم أن هؤلاء لا يعتبرون أن الجنوب ينتمي إلى الوطن. ما يزعج إسرائيل يزعج هؤلاء. لا يعتبرون أن أهل الجنوب منهم. هؤلاء عبّر عن مواقفهم بصراحة كليّة أمثال بيار الجميّل وجبران تويني وديميانوس قطّار الذي وصف هؤلاء بأنهم «لا يشبهوننا». هؤلاء الجنوبيّون عبءٌ على الوطن الذي يريدون ترحيل طائفةٍ بأكملها عنه، على أن يبقى منها فقط هؤلاء الذين يتبعون شيوخ وأمراء التحالف السعودي-الإماراتي. والشيعة الذين يعملون في إعلام دبيّ يتطرّفون في ذمّ الشيعة أكثر من غير الشيعة في فريق ١٤ آذار المتجدّد. هؤلاء يريدون أن تأخذ إسرائيل راحتها في قصف الجنوب على أن تحيّد باقي مناطق لبنان (هذه كانت نصائح بطرس حرب والياس المرّ وغيرهم من ١٤ آذار في حرب تموز حسب تسريبات «ويكليكس»). فجأة، زالت كل الخلافات بين القوى السياسية—التقليديّة والثاو الثاويّة—وتجمّعت عند نقطتيْن: ١) السكوت عن القصف الجوي الإسرائيلي لجنوب لبنان. ٢) الإدانة الشديدة للرد المنخفض المستوى للحزب وتحميل الحزب المسؤوليّة عن صواريخه وعن صواريخ إسرائيل معاً. هذا تماماً كان مسلك بيار الجميّل عندما قاد لبنان نحو الحرب الأهليّة في ١٩٧٥. هؤلاء على خطى بيار الجميّل وكميل شمعون مع أن موازين القوى ليست في صالح جبهة مناصرة إسرائيل. تكشّف هذا الأسبوع أن كل من يستهل موقفه من إسرائيل بعبارة «إسرائيل عدوّ» لم يكن يعني إلّا أن عدوّه هو الذي يقاوم إسرائيل. لم تكن عبارة إسرائيل عدوّ إلّا استهلالاً للتعبير عن مواقف في صالح إسرائيل. هذه هي لغة ١٤ آذار التي تلقّفها الثاو الثاو (ألا يضحك هؤلاء من أنفسهم عندما يشيرون إلى أنفسهم بـ«الثوار» وعدد منهم مقيم في إعلام حاشية المستبدّين في دبي أو الرياض أو الدوحة؟)
أما في قضيّة المرفأ، فهنا يبرز الانفصام الهائل بين موقف المقاومة البارع في ردع العدوّ وصدّه وبين موقف حزب الله السياسي الداخلي. لقد وقع الحزب في فخّ أعدائه مرّتيْن في العقديْن الماضييْن: ١) المرة الأولى عندما قرّرَ فيلتمان وتيري رود لارسن (لم تغطِّ الصحافة العربيّة خبر فضيحة علاقته مع مغتصب الأطفال، جيفري ابستين) استدراج الحزب إلى المشاركة في الحكومة كي يتلوّث بوصمة السلطة والنّظام الفاسد بعد أن كان في منأى حكيم عنهما. ٢) المرة الثانية عندما نجحت قوى الثاو الثاو وحلفاء أميركا والخليج في استفزاز الحزب وجعله المناصر الأبرز والأقوى للنظام الفاسد بعد الانهيار المالي. أصبحت علاقة الحزب مع نبيه برّي أهم من حفاظ الحزب على سمعته ومصداقيّته. موضوع المرفأ كان آخر مثال.
كيف يمكن الدفاع عن مبدأ رفع الحصانات عن نواب ووزراء مشتبه في تورّطهم من ناحية التقصير والإهمال؟ هل هناك سبب يتعلّق بالمقاومة في دفاع الحزب القوي عن هؤلاء الوزراء؟ يصبح الموضوع أقرب إلى المناصرة الطائفيّة (أو السياسيّة في حالة وزير «المردة»). ونقد القاضي بيطار ضروري وأصبح ضرورياً أكثر بعد أن تعالت أصوات في قيادات المجتمع المدني تطالب الناس بالامتناع عن نقده. أصبح القاضي بيطار تماماً مثل «المقامات» التي يُمنع الشعب من انتقادها. أي أن المجتمع المدني أضاف إلى قائمة مقاماتنا الرفيعة مقاماً جديداً يُمنع نقده. لكن: القاضي بيطار قرّر من دون تفسير استثناء قائد الجيش ومدير مخابراته من المحاسبة: ولأن الاثنيْن محسوبان على الحكومة الأميركيّة أكثر مما هما محسوبان على أي طرف سياسي (انتهت علاقة جوزيف عون بالتيار الوطني الحرّ قبل سنوات بالرغم من أنه كان مرشحهم لقيادة الجيش) فإن التعامل الاستثنائي من قبل بيطار معهما يطرح أسئلة، مثل قراره باستدعاء حسان دياب وحده من بين رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا. لكن: إن الردّ على قرارات بيطار لا يكون بالاستجارة بالمجلس النيابي الفاسد. هذا مجلس فقد شرعيْته بعد الانهيار الكبير وبعد عجز المجلس عن التعامل مع أسباب هذا الانهيار. من يمكن أن يثق بقدرة هذا المجلس على محاسبة من أي نوع، خصوصاً ضد أفراد محسوبين على كتل وازنة فيه؟ هذه من المستحيلات. صحيح، إن المبالغة في الثقة في القاضي بيطار تتناقض مع كل شعارات فساد النظام وفساد القضاء. القاضي بيطار أتى من ضمن النظام وبتزكية من أزلام النظام. إن الحزب يقف اليوم بتراصّ وصرامة شديدة إلى جانب رئيس المجلس، لا بل هو يولّيه في كل القضايا الداخليّة، وحتى في ملف المفاوضات مع العدوّ—عندما قرأ برّي بياناً مُعدّاً في وزارة الخارجيّة الأميركيّة وأشار إلى «حكومة إسرائيل»، وهذه صيغة تتناقض مع أدبيّات الحزب ومع أدبيّات حركة «أمل». لم يعترض الحزب يومها. يستطيع الحزب أن يعترض على استهدافه من قبل أفرقاء المجتمع المدني. وصيغة «كلهم يعني كلهم» من عام ٢٠١٥ كانت تستهدف الحزب، وتريد أن تُقحم نصرالله في صف زعماء الفساد. لكن الصيغة تغيّرت وأصبح الزعماء الستّة هم الهدف. لكن مهلاً، تغيّرت الصيغة قبل أيام إذ إن «تحالف وطني» اعتبر أن المصيبة تكمن في أربع زعماء فقط: ميشال عون ونبيه برّي وحسان دياب (زعيم؟) وحسن نصرالله. وقد تتطّور الصيغة ليصبح شعار «كلهم يعني كلهم» «كلهم يعني نصرالله فقط». اليوم ليس ببعيد، إذا كان سلوك الردّ على ردّ عدوان إسرائيل هو المؤشّر.
إن المفارقة الكبرى في الحياة السياسية اللبنانية اليوم أن النظام اللبناني الفاسد هو حصان طروادة للتحالف السعودي-الأميركي-الاسرائلي-الإماراتي والحزب الذي يقود المواجهة العالمية ضد الصهيونيّة يصرّ على الاستماتة في الدفاع عن هذا النظام وعن فاسديه، وهو الأقلّ استثماراً فيه وفي فساده.
* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر asadabukhalil@