نشرت مجلة «إيكونوميست» مقالاً سلّطت فيه الضوء على الجفاف الذي يضرب دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع عدم استجابة الحكومات لهذه المشكلة كما ينبغي. أوضحت المجلة في مقالها أن التغيّر المناخي يتسبّب بالجفاف، وموجات حارة، وارتفاع درجات الحرارة إلى معدّلات قياسية، الأمر الذي يهدّد الأمن المائي والغذائي لكثير من دول المنطقة. في المقابل توقّع المركز العربي لسياسات تغيّر المناخ أن ينخفض معدل هطول الأمطار في بعض المناطق، ما سيؤدّي إلى تجفيف في طبقات المياه الجوفية، ما يُنذر بأزمة شحّ بالمياه، لذا قد يكون مستقبل المنطقة العربية تحديداً أكثر جفافاً وحرّاً وبؤساً.كثرت المقالات ونُشر الكثير من التقارير الدولية والعلميّة المتعلّقة بالخطر القادم في ملف «شح المياه»، حيث كانت التوقّعات ترتكز إلى الأشكال التي قد يأخذها الصراع على المياه؛ إما صداماً بين الدول، أو حراكاً عنفياً داخل الدول التي تعاني من شحّ في المياه، أو حتى تحركاً عسكرياً لتوسيع دائرة النفوذ للدول المعنية بالتوسع استراتيجياً للحفاظ أو الاحتفاظ بمواقع لها على البحار. فهل دخلت المنطقة صراعاً جديداً عنوانه الحفاظ على الطاقة المائية بعدما تشهده اليوم من صراعات على الطاقة النفطية؟
ليس بجديد الصراع القائم على الثروة المائية أو المواقع الاستراتيجية، كما أنه ليس بمستغرب أن لا يكون هناك ترشيد لهذه الثروة في منطقة عائمة على المياه وتعاني من جفاف يهدّدها بالشحّ؛ إذ لا الحكومات المتتالية لدول المنطقة اهتمّت بالحفاظ عليها، باستثناء بعض الدول العربية كالمملكة العربية السعودية التي عملت على تحلية مياه البحار، ولا سكان هذه المنطقة يتقيّدون بالإرشادات التي تهدف إلى المحافظة على هذه الثروة. لهذا دخلت منطقة الشرق الأوسط نتيجة التغير المناخي، في صراعات قد تشعل حروباً واضطرابات لا تنتهي في الأعوام القادمة.
إنّ ما يحصل بين مصر والسودان وأثيوبيا حول سدّ النهضة يشكل نموذجاً لصدام الدول بسبب تهديد الأمن القومي المائي لمصر والسودان جرّاء بدء أثيوبيا المرحلة الثانية لتعبئة السد. فإنّ التصعيد الكلامي الذي بدأ يصدر عن مصر بشأن أزمة سد النهضة، ثم تلتها السودان بعد فشل جولة مفاوضات «الفرصة الأخيرة» مع أثيوبيا في كينشاسا، بات يُنذر بوقوع حرب لمنع أثيوبيا من ملء السد. فعامل الوقت لم يعُد في صالح مصر والسودان، فما هي الخيارات المتبقية لتجنّب خيار الحرب؟
شكل آخر تتّخذه أزمة شحّ المياه في كلٍّ من الجزائر والعراق واليمن، من خلال حركة التظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي تشهدها البلاد. فالجزائر على سبيل المثال تعيش منذ أشهر أزمة شح المياه، في ظلّ جفاف يضرب البلاد منذ ثلاث سنوات، وتساؤلات كثيرة طُرحت إن كان الأمر نتيجة التغيرات المناخية أو بسبب فشل الشريك الفرنسي في إدارة الأزمة. أما الاحتجاجات في إيران فقد حملت طابعاً عرقياً على خلفية أزمة شح المياه التي بدأت في 15 تموز في محافظة خورستان في جنوب غرب البلاد، وامتدت إلى محافظتَي أصفهان وبوشهر، فقد رفع المتظاهرون فيها شعار «لا للهجرة القسرية». إذ يعتبر سكان خورستان التي تضم أبناء الأقلية العربية أن النظام يعمل على تحويل المياه إلى المدن الفارسية، ويسعى إلى إبعاد العرب عن تلك الأرض من أجل التنقيب عن المزيد من النفط، لهذا يرى المتظاهرون أن النظام يسعى لتهجيرهم قسراً.
تلعب المياه الإقليمية، عند بعض الدول، دوراً استراتيجياً في تحديد الجغرافيا السياسية لها، كالمنافذ المائية على البحر المتوسط. فقد نشهد حراك الجيوش بحثاً عن مواقع لها من خلال سعيها لإيجاد منافذ على البحر المتوسط، عبر طرق عسكرية. فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مشروعه «الوطن الأزرق» لاستعادة ما سُلب في اتفاقية لوزان عام 1923 من تركيا، التي اعتبرها قد حرمت تركيا من ثروتها المائية، فيما اختارت روسيا المواجهة العسكرية عبر سحق المعارضة السورية لتحجز موقعاً لها على البحر المتوسط. وقد اسُتغلّت المياه في بعض الدول كسلاح أو أداة للحرب، على سبيل المثال قطع مقاتلو داعش مياه نهر الفرات عند سدّ الرمادي، متسبّبين بانخفاض كبير في منسوب النهر.
أخيراً، الجفاف المائي الذي ذكرته مجلة «إيكونوميست» لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، بات ينذر بحرب من نوع آخر، لا تشبه حرب الدول على الموارد المائية؛ إنها حرب داخل الجغرافيا الواحدة للبلد، بين شعب وسلطته التي يعتبرها السبب الرئيسي في شح المياه، إنها حرب تشبه الفوضى العبثية التي تسقط أنظمة دون الدخول في حرب عسكرية.
*باحث لبناني