مرّ عام على وقوع الفاجعة. في فترة كان لبنان يشهد بدء تسارع وتيرة انهيار اقتصاديّ غير مسبوق في تاريخه، خنق متنفّسه الوحيد نفسه بانفجار غير مسبوق في تاريخ الانفجارات غير النووية، ولفظ أنفاسه مع جزء من العاصمة بيروت. لم يكتفِ ذاك اليوم المشؤوم بالتسبّب بالعذاب والمأساة، فتحوّل أيضاً إلى تاريخ مفصليّ، بل رمز، لاستثمار سياسيّ كان قد بدأ قبل عشرة أشهر مع انطلاق شرارة 17 تشرين 2019، ليواكب انهياراً اقتصادياً بدت أولى ملامحه قبل سنوات عدّة، وتمّ ترقيعه بـ«هندسات» قبل ضغط الزرّ لإزاحة الستار عن واجهته وانكشاف قباحة عمل «المهندس».
سيرجيو إنغرافالي ــ ألمانيا

… وعمّت الفوضى الإعلام
إذن، تحوّلت الفاجعة إلى فرصة للاستثمار السياسي، ليس فقط من قِبل أحزاب وجهات خارجية، بل أيضاً وخصوصاً من وسائل إعلامية ومجموعات كانت قد ركبت قطار 17 تشرين، وبدأ يتلاشى سطوع نجمها، قبل أن تأتيها «الفرصة الذهبية». فمنذ اللحظات الأولى للانفجار بدأت الاتهامات والاتهامات المضادّة، وانتشرت الأخبار الكاذبة، وعمّت الفوضى الإعلام على غرار شوارع بيروت المنكوبة. ومنذ ذلك الحين لا تتوانى تلك الوسائل الإعلامية والمجموعات «السياسية» عن بث الرعب في نفوس الناس والتحريض والتجييش المذهبيين والطائفيين، وصولاً إلى إعطاء سفراء دول مسؤولة عن خراب لبنان منصّات – لا بل عروشاً – داخل الاستديوات، للكلام عبرها «على الطالع والنازل» وتوزيع الاتّهامات العشوائية على من يحلو لهم من رأس الدولة نزولاً حتى أصغر موظّف، من دون أيّ رادع أو مستنكر أو مستفَزّ. سنة قضتها وسائل الإعلام والمجموعات تلك تدافع عن مصالح الدولة العميقة وغرب الاستعمار، وها هي اليوم تستغلّ آلام العائلات المتضررة من انفجار المرفأ وتستثمرها سياسياً، إذ وجدت فيهم مادة «دسمة»، ليس لمحاولة الحصول على نسبة أعلى من المشاهدة فحسب، بل ولدسّ السم في العسل والتسويق لسياسات وكيانات معيّنة تستفيد منها، والتهجم على أخرى معارِضة لمصالحها. وتتمّ هذه العملية بطريقة خطرة جداً، حيث تقوم وسائل الميديا الحديثة بإثارة مشاعر الناس وعواطفهم من أجل استمالتهم عبر نقطة ضعفهم، على طريقة إدوارد برنايز الذي يُعتبر الأب المؤسس لاستغلال المشاعر الإنسانية بغرض التسويق. والخطير أيضاً أنه يتم تغليف سياسات تضرب القيمة المجتمعية لدى الفرد وتهمّش العمّال وتعرّي المستضعفين من أي حماية اجتماعية، وتسويقها على أنها «الخلاص الوحيد» أو «الحل الوحيد المتاح أمامنا حالياً»، كما يحصل مع اقتراح خيار التفاوض مع صندوق النقد الدولي مثلاً. والعكس يصحّ، كما مع ملف التدقيق الجنائي المالي. فالهدف الأسمى هو إبقاء الحال على ما هي عليه، لما فيها من مصلحة لوسائل إعلامية ومجموعات استفادت من النظام القائم لعقود، وكذلك لرعاتها من أحزاب وكيانات ومصارف ومتموّلين ودول ومنظمات وغيرها، فيجري النفاق على الناس وإيهامهم بأن ما يُعرض هو مصلحتهم حصراً، وبالتالي تأمين غطاء للسياسات المبتغاة. يقول هؤلاء إن كلّ يوم هو 4 آب، فيُفهم (كما من المفترض) أنّ كلّ يوم هو لتذكّر الفاجعة، غير أنّ ما يعنونه حقّاً هو أنّ كلّ يوم فرصة جديدة للاستثمار السياسي.

أهداف الاستثمار السياسي
للاستثمار السياسي بجريمة انفجار المرفأ أهداف عدّة. بالنسبة إلى الأحزاب مثلاً، هي تستغلّ القضية لاستثمارها في إشكالية رفع الحصانات، أو للتحضير للانتخابات النيابية المقبلة. فكما القنوات اللبنانية، كذلك «القوات اللبنانية»، التي قامت باستعراضات متنوعة على أنقاض الجريمة، من احتفالات مبتذلة إلى أعمال بلطجة فاشية، وهي المعتادة على ذلك والتاريخ شاهد. أما بالنسبة إلى ما يسمى بالدولة العميقة، فالهدف حماية من استفادوا لسنوات من النظام القائم، من حاكم المصرف المركزي إلى أصحاب مصارف ورجال أعمال ومتعهدين وسياسيين وغيرهم من صقور ما يسمى «الحريرية السياسية» أتوا بسياسات اقتصادية مدمّرة وتسبّبوا بالانهيار الاقتصادي المالي النقدي. ولكن، يبقى هدف لا يتنبه له كثر، وهو الهجرة. ينسى البعض أن النظام القائم هذا لا يستفيد من هجرة الشباب والأيدي العاملة من لبنان فحسب، بل إن مرتكزه وأساسه يقومان على التهجير المتعمّد من أجل استدامته وإنعاش الاقتصاد الريعي الذي اعتمد عليه ولا يزال، حتى بعد وصوله إلى طريق مسدود. لذا فإنّ من واجب اللبنانيين التنبّه لمخططات التهجير هذه، الداخلية بقدر ما هي خارجية، وعدم الانصياع لها تحقيقاً لمطالب النظام ودول الغرب على حدّ سواء، بل المواجهة قدر الإمكان وبالوسائل المتاحة وعدم «إراحة» نظام التحالف الثلاثي أي طوائف وكومبرادورات ورأسمال غربي. فالاستغلال السياسي لقضية انفجار المرفأ الذي تزايد باطراد في الآونة الأخيرة، قد يبالغ في وجود العوامل المحفزة على الهجرة نظراً إلى «فوائد» الهجرة هذه بالنسبة إلى النظام والدول المستضيفة.
يتم التسويق لمجموعات «علمانية» الطابع، مموّلة خارجياً، على أساس أنّها قادرة على التغيير المنشود... وأنّه يكفي أن نأتي بـ «اختصاصيين» كي تُحلّ المشكلة


استمرار النظام النيوليبرالي
أخيراً (وليس آخراً) يأتي الاستثمار السياسي المخصّص لتسويق مجموعات مموّلة خارجياً، عبر استخدام طابعها «العلماني» لإيهام الجمهور بأنها تريد إحداث التغيير المنشود؛ فالمشكلة فقط مشكلة أشخاص غير أكفاء تولّوا السلطة، وبمجرّد استبدالهم بآخرين «اختصاصيين» تُحلّ المشكلة، وكأنّ رياض سلامة وفؤاد السنيورة لم يُفرضا على اللبنانيين على أساس أنهما اختصاصيان. فبعدما سقط النموذج الاقتصادي بنظر الرأي العام، وصارت الدعاوى القضائية تلاحق حاكم مصرف لبنان في عدد من الدول، لم يعد هناك مجال لتسويق أكاذيب من طراز «السرية المصرفية» و«التجارة الحرة» وغيرهما إلّا عبر استحداث مجموعات ومنصّات جديدة، وهو أمر تشتهر بنسجه في بلدان العالم الثالث، الولايات المتحدة وخارجيتها واستخباراتها وما يسمى بحلفائها في شمالي الأطلسي، وتستفيد معها ضمناً صنيعتها «إسرائيل».
يجب إذاً استمرار النظام النيوليبرالي الفريد من نوعه في العالم من حيث نزعته الاحتكارية، ولا سبيل إلى ذلك سوى التسويق لتلك المجموعات والمنصات المستحدثة على أنّها علمانية وتدعم التغيير السياسي وترفض وجود «أحزاب السلطة الطائفية التي تسبّبت بالانهيار الاقتصادي» (هي بالمناسبة تتحفنا بالديمقراطية والمساواة وتقبّل الآخر). بذلك، تكون قد تجنّبت الغوص في الأسباب الحقيقية وراء الانهيار الاقتصادي المالي النقدي، ولم تفصح علناً عن النموذج الاقتصادي الحقيقي الذي تدعمه، وهو ليس سوى تجديد للنظام النيوليبرالي الاحتكاري القائم الذي يؤمّن استدامة الدين العام وعجز الميزان التجاري من أجل ضمان ارتهان لبنان الدائم للخارج، ومنعه من النهوض أو الازدهار كرمى لعيون الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسيات المحتكرة و«إسرائيل».
يتمّ التسويق مثلاً لخصخصة أصول الدولة المتبقية لأن «الدولة فاسدة وإدارتها سيئة» بينما القطاع الخاص «يعمل بشفافية وجودة»، وكأن الخصخصة لم تكن كل ما فعلته السلطة في العقود الماضية عبر تسليم مؤسسات الدولة ورقاب الناس للشركات الخاصة والوكالات الحصرية.
يتمّ التسويق للقطاع الخاص على أنّه المنقذ و«النظيف»، وكأنّ المصارف و«سوليدير» وشركات الاتصالات والمستشفيات والجامعات الخاصة ومحتكري القمح والمحروقات والإسمنت والدواء والمنتجعات المتعدية على الشاطئ وغيرها الكثير، كلها تابعة للدولة أو تحت إدارتها، أو أنّها أتت حديثاً بالباراشوت وتهدف لإنقاذ البلاد من محنتها.
يتمّ التسويق لفكرة أنّ الغرب لن يدعم وكلاءه في السلطة مجدداً ما لم تُنفّذ «الإصلاحات»، وكأنّه لم يدعمهم بل ويبقيهم في مناصبهم طوال سنوات، أو كأنّ حكّامه هم أفضل حالاً من نظرائهم في لبنان، أو كأنّ «الإصلاحات» هذه هي لمصلحة لبنان.
يتمّ التسويق للسفارة الأميركية والهبات الأميركية للجيش اللبناني، وكأنّ الولايات المتحدة ليست من تمنع حتى حلفاءها من تقديم هبات لهذا الجيش، أو أنّها ليست من تقدّم الفتات من أسلحة لا تصلح إلّا عند افتعال حرب أهلية، فيما تقدّم مليارات الدولارات وأحدث الأسلحة والطائرات الحربية لحليفها الأوّل عدوّ لبنان الأوّل الذي دمّر وقتل وفظّع في لبنان.
يتمّ تسويق أن «المقاومة في لبنان طائفية ويجب أن تكون مدنية»، وكأنّ حركات المقاومة الوطنية والعلمانية واليسارية لم تحارَب في القرن الماضي من قبل الأطراف نفسها (الخلاصة أنّ أفضل سلاح موجّه صوب الأراضي المحتلة، هو ذلك غير الموجود حالياً)... وهكذا دواليك.

تقرير المصير
صحيح أنّ هناك مشكلة بالطائفية السياسية ويجب التخلّص منها، ومن الجيّد أن يكون هناك حركات علمانيّة نابذة لها، إلّا أنّ المعركة الأهمّ اليوم هي بين خيارين: خيار العولمة الرأسمالية المتوحّشة والارتهان للمشاريع الخارجية وتشريع الاحتكارات، وخيار الاكتفاء الذاتي والحماية الاجتماعية والازدهار والتصدير. وهنا لبّ المشكلة. إذ إنّ الخيار الأخير لن يتحقق ما لم يوجد في لبنان أحزاب وطنية وحركات راديكالية ومزاج شعبي ثوري وطليعة ثورية وأهداف محدّدة، بدل التهريج والرقص في الشوارع (لا مشكلة في ذلك إنما لا تُصنع الثورات هكذا) وانتظار الإشارة من قناة تلفزيونية هنا أو منصّة ممولة خارجياً هناك. فقبل التحرر من رأس المال المشبوه، لا يمكن التحرر من سلطته. من هنا، لا أمل فعليّاً بالتغيير الجذري في لبنان قريباً، فذلك يستدعي تحوّل المزاج العام إلى معرفة تامّة بمصالح المجتمع الحقيقية. ولكن ثمّة بصيص أمل يتمثل ببدء انحسار دور الإمبراطورية التي بات انهيارها الحتميّ وشيكاً، وأقرب بكثير ممّا يظنّ وكلاؤها؛ وسيأتي النهار الذي نشهد فيه تحوّل ولاء هؤلاء الوكلاء إلى القوّة العالمية التي ستملأ الفراغ الذي خلّفته الإمبراطورية بعد غياب الشمس عنها. وإلى ذلك الحين، سنحاول تفادي استثمارنا سياسياً، ونغنّي «تصبحون على وطن».

* باحث لبناني