في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة يعاني اللبنانيون من شحٍ في مختلف المواد الأساسية والضرورية لحياتهم اليومية ومن بين هذه المشاكل والأزمات مشكلة الدواء التي باتت تشكل مصدر قلق وتهديد لسلامة اللبنانيين لا سيما المرضى منهم، وهنالك مشاكل وأزمات استطاع اللبناني بفطنته وحسن تدبيره إيجاد الحلول لها من طريق الالتفاف عليها، ففي مواجهة أزمة البنزين يستطيع المواطن التخفيف من استهلاك المادة والبقاء في البيت ما استطاع، وفي مواجهة غلاء اللحوم يتجه نحواستهلاك الدجاج أو الخضار أو الحبوب، ولكن ماذا يفعل المريض بدون دواء؟ ماذا يفعل المريض بدون تغطية صحية؟ وهي إن وجدت فهي لا قيمة لها، وهي إن غطت بعض تكاليف المستشفيات فهي لا تغطي المختبرات وصور الأشعة وغيرها من الفحوصات الضرورية. فما هي مشكلة الدواء؟لن نغوص في شرح الأسباب والمسببات لهذه الأزمة والتي باتت معروفة من الجميع وقد ملّ اللبنانيون من سماعها، من مسؤولية مصرف لبنان ووزارة الصحة ومستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية، وتقاذف الكرة بين مختلف هؤلاء، هذا وعد وذاك لم يلتزم ومستورد يحتكر المواد ولا يقوم بطرحها في السوق وتزويد الصيدليات والمستشفيات بها. نحن سنتطرق إلى الموضوع من زاوية أخرى تقوم على احترام مصلحة المريض وعقول الناس، سنطرح الموضوع من زاوية علمية موضوعية تعيدنا إلى الأسباب الحقيقية للأزمة وتشرح الأسباب الحقيقية الكامنة وراء غلاء الدواء في لبنان بعيداً عن سعر الصرف الحالي الذي يشكل سبباً إضافياً ولكنه ظرفي لغلاء الأسعار.
الدواء في لبنان غالٍ، منذ أن كان سعر الصرف ثابتاً أي على دولار 1500 ليرة لبنانية كان الدواء يباع في لبنان أضعاف أضعاف سعره في أوروبا وأستراليا وأميركا، وكان المريض يأتي بالدواء من كل هذه البلدان ومن تركيا وغيرها بأثمان أقل بكثير، وكانت تكلفة المستشفيات والعناية الطبية وحتى أتعاب الأطباء أغلى من أوروبا ومن فرنسا تحديداً.
وقد شكلت هذه المعضلة اهتماماً كبيراً لدى كل الحكومات منذ فجر الاستقلال وحتى يومنا هذا، ففي العام 1970 وفي عهد الرئيس فرنجية شكل الرئيس صائب سلام حكومة «الشباب» من وزراء من خارج النادي السياسي، أي حكومة تكنوقراط بالمفهوم الحالي وأسماها حكومة «الثورة من فوق» وكان همّها الإصلاح وعلى رأس هذه الإصلاحات المالية العامة والنظام الضرائبي ومشكلة الدواء. وكان على رأس وزارة الصحة آنذاك الدكتور إميل بيطار الذي وضع نصب عينيه محاربة كارتل الدواء وتحرير السوق من الاحتكار، وذلك بعد فشل سلفه الياس الخوري في العام 1960 من إصلاح قطاع الدواء والذي سقط أمام كارتل الدواء بالضربة القاضية وذلك بعيد كلمته الشهيرة «إما انا وإما تجار الأدوية»، فكانت الغلبة لتجار الأدوية الذين كانوا يتمتعون بدعم سياسي واسع لم يزل موجوداً حتى يومنا هذا، وبالرغم من وضع البيطار لمشروع متكامل لتحرير الدواء وتخفيض سعره استطاع مستوردو الأدوية من تأليب الناس ضد الوزير الشاب بعد أن امتنعوا عن تسليم الدواء، فأصبح الناس ضده بعد أن كانوا معه.
فما أشبه اليوم بالأمس قطاع تسيطر عليه مافيا الأدوية وتتمنّع عن توزيعها متذرّعة بشتى الأسباب.
يأتي ترتيب لبنان نسبةً لعدد أصناف الأدوية المعروضة في الصيدليات في المراتب الأولى حيث يعرض أكثر من 3600 صنف دواء، بينما في فرنسا وعلى سبيل المثال لا الحصر لا يتجاوز العدد ال 2500 صنف وفي استراليا يتضاءل العدد أكثر فأكثر، فهذه الفورة في الأصناف هدفها واضح وهو إغراق السوق بأسماء تجاريةٍ الهدف منها ليس المنافسة إنما توسيع مساحة السيطرة على سوق الدواء، ومنذ الإستقلال يطالب المختصون بضرورة حذف عدد كبيرٍ من هذه الأصناف وإدخال أدوية ال generic مكانها كما هو حاصل في أعرق البلدان كفرنسا مثلاً التي تبيعك paracetamol مكان ال Panadol وال metformine مكان ال glucophage دواء السكري الرائج الإستعمال، وغيرها من الأصناف أما عندنا فيعرض على المريض إسم الماركة أي ال brand وبالسعر الأعلى، من هنا فإن حل مشكلة الدواء سهلة ولكن يبقى السؤال: هل يسمح كارتل الدواء وحماته من إدخال أدوية ال generic كلها والاستغناء عن الماركات والمافيات؟
أما تنويع مصادر الاستيراد فتلك حكاية أخرى فالصين التي يبلغ عدد سكانها 1.5 مليار نسمة تعتبر المصنع الأول في العالم للأدوية والمنتجات الطبية، وقد كان واضحاً وإبان جائحة كورونا كيف استطاعت الصين تزويد العالم كله ومن ضمنه الولايات المتحدة بالأدوية والمستلزمات الطبية.
تُرى ما الذي يمنع لبنان بتنويع مصادر الاستيراد؟ واستعمال أدوية ال generic من بلدان المنشأ المصنعة كفرنسا وأميركا وغيرها، أما تخويف الناس بالأدوية الإيرانية فهي أغنية من تأليف وتوزيع كارتل الدواء، الذي كان يستعمل نفس المعزوفة القائلة أنهم هم وحدهم يأتون بالنوعية ويضعون المواطن والمريض أمام خيار خاطىء بين الجودة والسعر. إننا نستطيع الحصول على الجودة وبأسعار بسيطة ومتدنية يستطيع المريض تحمل كلفتها، وإن حجب الأدوية عن المريض هو عمل مافياوي واحتكاري بامتياز ويجب أن يعاقب عليه القانون، إن الدواء ليس مجرد سلعة استهلاكية بل هو حاجة إنسانية في الدرجة الأولى. إن شركات الأدوية والتي بدأت أعمالها انطلاقاً من مكتبٍ صغير في شارع المرفأ أصبحت تملك إمبراطوريات من المقرات والمصانع مطلة على خليج ضبيّة، والأنكى أنها علقت عبارات على مداخلها تقول «هذا من فضل ربي».
* كاتب سياسي