كتب الباحث أحمد الدبش بعد سنوات طويلة في العمل البحثي في التاريخ القديم، مقالة مهمة بعنوان «عودة عن خطأ السنوات المبكرة: لم يحتضن اليمن ملوك بني إسرائيل» («الأخبار»، 25 حزيران/ يونيو 2021)، يعترف فيها بشكل صريح وواضح أن كتبه الأولى جاءت بمغالطات تبين سقوطها أمام الأدلة العلمية، فيقول: «فلم يكن اليمن المسرح الجغرافي لإبراهيم، ولم يشهد خروج موسى وجماعته، ولم يتم تدمير مدنه على يد يوشع بن نون، ولم تحتضن الجغرافية اليمنية أياً من ملوك بني إسرائيل، ولا يوجد دليل أثري يشير صراحةً، أو ضمنياً، إلى وجودِ المملكة الداوديَّة ـ السليمانيَّة، ولم تذكر النقوش اليمنية أحداث «الكتاب المقدس»، ولا توجد نقوش متزامنة مع الأحداث «المُتخيلة» التي وردت في «الكتاب المقدس»».ثمّة حقيقة مهمة، تكمُن في أنّ قرناً من البحوث الأثريّة المكثَّفَة؛ لم يتمكن من تقديم البُرهان على أن أحداث «الكتاب المقدس»، وقعت سواء في فلسطين أو في خارجها، وأي ادعاء بغير ذلك «غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق».
ومن خلال علاقتي بالدبش منذ أكثر من عقد، كان رأيي واضحاً بهذا الخصوص وخلافي معه برفضي القاطع للفكرة، وتجادلنا كثيراً، وكان ردي أن لا دلائل مادية على كل هذا الضجيج، ورغم عدم وجود أي تواصل بيني وبين فاضل الربيعي، إلا أنني ناقشته في ندوة له كانت عبر الفيديو كونفرنس في مؤسسة طباق وكنت واضحاً معه أن لا دلائل في كل ما تقوله، وسألته خمسة أسئلة تضمنت ماهية الدلائل المادية حول الجغرافية التوراتية ووجودها في اليمن، وهل تشابه الأسماء والمدن والأماكن كاف لإسقاط نظرية كاملة عليها؟!، ولم يجب على ذلك، والأهم من ذلك عملية تأويل النقوش وقراءتها كل حسب رؤيته ونظرته ما خلق حالة لغط وجدل أرهقت القارئ العربي، بل شكّكت في كل تاريخنا بسبب مثل هذه النظريات غير الواقعية، وأدخلت الكتّاب والنقاد في حالة زوبعة كان الأولى أن يستثمروها في ملء المكتبة العربية بنواقص التاريخ وسد الثغرات بدلاً من هذه الجدليات العقيمة التي كانت هدفاً لكثير منهم، ليس فقط الربيعي ويوسف زيدان وغيرهما، الذين دخلوا على خط كتابة التاريخ، وأصبح كل شيء مباحاً في الطرح، وأصبح كل شيء يناقش وبعد ذلك نبحث عن الدليل وليس العكس أن نكتب التاريخ وفق الدليل المتاح، وكنت أؤكد دائماً أن ليس الهدف من وراء نفي الوجود اليهودي في فلسطين أن يعني وجودهم في اليمن أو أي جغرافيا تاريخية أخرى، بالعكس حتى الرواية التوراتية التي يتم تداولها عن وجودهم في بعض جغرافية فلسطين، تتنافى مع وجودهم الآن في يافا وحيفا وعكا وغيرها من مدن الساحل التي لم تكن مسرحاً لوجودهم التوراتي.
نظرية وجود الممالك الاسرائيلية في اليمن مغلوطة، وعلينا إعادة تصحيح الإنحراف التاريخي كي لا يتشكل جيل كامل يعتمد نظريات غير مثبتة


الدبش الذي أعرفه منذ عشر سنوات تقريباً في أول لقاء لنا حين دعاني المؤرخ عبد القادر ياسين لحضور محاضرة للدبش في ورشة التحرير في شارع عدلي، رأيت فيه من اللحظة الأولى العنفوان والغيرة العلمية لحجم التزوير الذي يتعرّض له تاريخنا وقد يكون هذا الدافع الرئيس الذي جعل منه في ما بعد باحثاً مهماً في التاريخ القديم الذي يعاني من شحّ الإمكانات وندرة المؤرخين، وقلة المصادر، التي دفعت إلى حصول لغط كبير لدى الكثير وجعلت الدخلاء على علم التاريخ يعبثون به، خارج الدلائل الأثرية، والمخطوطات الحجرية، فيما أصبح الشارع العربي لا يحتمل مثل هذه النظريات التي أرهقته، وأدخلته في دوامة شكّكت في كل تاريخنا، تحت ذريعة مواجهة الرواية الإسرائيلية، ورغم تحذيري من الوقوع في مثل هذه الأخطاء والانزلاق نحو جدليات غير مثبتة، إلا أن اعتراف الدبش، لا يقلل من أهمية أعماله التي تتعلق بالتاريخ القديم، منها «معذرة آدم ليست أول البشر»، «يهودية الدولة الحنين إلى الأساطير» وصدر له أخيراً «القدس التاريخ الحقيقي»، و«فلسطين في العقل الأميركي 1492-1948م»، فيما يشكل اعترافه إعادة تصحيح لمسار كتابة التاريخ في شكله الصحيح، وشكّل ضربة لأصحاب النظريات الوهمية، وهذا ما أثار زوبعة، تطلّبت مني على الأقل إبداء الرأي كي لا نترك الساحة حبيسة التجاذبات التاريخية وتحويلها إلى مواقف شخصية، تضرّ بمصلحة كتابة التاريخ، وهذا الاعتراف هو أساس الموضوعية التي ينشأ عليها أي باحث، ويصوّب المنهجية الخاطئة التي قد تكون اتّبعت في وقت ما، أدت إلى نتائج غير صحيحة، بل إنني أعتبر أن فكرتي كانت صحيحة بأن هذه النظرية (اليمن وبني اسرائيل) ووجود الممالك الإسرائيلية هناك، ثبت عدم صحتها، وأن السنوات الطويلة التي استغرقت في مناقشة هذه الجدلية بل واستنساخ باحثين من أجل هذا الموضوع أثبتت فشلها، فأصبح الأهم الآن هو البحث عن من حملوا هذه الأفكار المغلوطة، وإعادة تصحيح الانحراف التاريخي لديهم، كي لا يتشكّل جيل كامل يناقش نظريات غير مثبتة، وقد يختلف علم التاريخ عن باقي العلوم، حيث إنه علم غير قابل للتجريب والتجارب، فهو ليس كمياء أو فيزياء، ولا يحتمل نجاح التجربة أو فشلها، بل هو علم قائم على الدليل منذ اللحظة الأولى، ومساحة تفسير ظواهره متاحة إلى حد ما، وإلى مدى معين، إذا زاد عن حده يصبح تأويلاً وتهويلاً، وإذا بني على التأويل ندخل في اتجاه خارج سياق التاريخ.
لذلك دائماً ما أقول وجبت إعادة كتابة التاريخ لا إعادة قراءته، فإعادة قراءته قد تعني إعادة تأويله، والتاريخ يُفترض أن يُكتب لمرة واحدة، لأن الدليل لا يحتمل الشك فيه، وإعادة كتابته لأنه لم يُكتب بشكله الصحيح المتكامل، وهذا يعني أن هناك حقائق في كتابة التاريخ، ولكن ليست كاملة، وهذا ما يجعل هناك ثغرات تفتح مجالاً للدخلاء على العلم لسدّها على حساب الحقيقة، خاصة من قبل الروائيين الذين يعتقدون للحظة ما أنهم أصبحوا مؤرّخين، وهنا تكمن المعضلة.
* مؤرخ فلسطيني