من المفترض أن يقوم البطريرك بشارة الراعي إلى... أين؟ هل يستطيع البطريرك أن يعلن عند وجوده تحت الاحتلال الاسرائيليّ أنّه واقفٌ في فلسطين المحتلّة؟ هل باستطاعة غبطة البطريرك أن يعلن تحت الاحتلال أنّ هذه الأرض مغتصبة وأنّ مذابح مبرمجة قد تمّ التخطيط لها وارتكابها لتفريغ الأرض من سكّانها الأصليّين، واحتلال منازلهم وحقولهم، ومحو آثار تاريخهم، لكي يروّج لاحقاً لدعاية «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»؟ (1). هل يستطيع عندما يصل إلى هناك أن يدعو إلى زوال الاحتلال عن كامل فلسطين؟

من المفترض أن يتصرّف كلّ بطريرك على صورة يسوع «الراعي الصالح». كيف كان يسوع ليتصرّف ويقول لو ولد في زمننا؟ نستطيع أن نستقرئ ذلك من كلام وتصرّفات يسوع الإنجيل.
يسوع كان ليقف، هو سيّد السلام، أمام الرسميّين السفّاحين الإسرائيليّين الذين يتشدّقون بالسلام وبعمليّة السلام، ومنهم من حاز نوبل للسلام، كان ليقف ويصرخ «يا نسل الأفاعي، كيف تستطيعون أن تنطقوا بالصالحات وأنتم اشرار؟» (متى 12: 34)، كيف تقولون إنّكم تسعون للسلام وأنتم تقيمون الناس في السلاسل، المادّية منها والمعنويّة. «أيها الجيل الأعوج» المنافق (متى 17: 17)، تقولون إنّكم تسعون للسلام وتقيمون نظام فصل عنصريّ داخل أراضٍ اغتصبتموها وأقمتم عليها دولة طغيان. «جيل شرّير فاسق» (متّى 12: 39) تقولون إنّكم تسعون للسلام وتقطعون الطرقات، وتحتلّون، وتعتقلون، وتستغلّون، وتسجنون تعسّفيّاً، وتُذِلّون الفلسطينيّين، وتحوّلون القرى والمدن الفلسطينيّة إلى سجون. جيل منافق تقولون إنّكم تدافعون عن حياة الاسرائيليّين ضدّ الإرهاب وتمارسون الإرهاب اليوميّ، لن تقفوا قبل أن تصلوا إلى هدفكم المزدوج «التصفية النهائيّة... للفلسطينيّين كشعبٍ وللإسرائيليّين ككائنات بشريّة»، كما قال أحد أساتذتكم (2). منافقون تقولون إنّكم متديّنون، نعم أنتم متديّنون لكنّ إلهكم هو دولة الظلم والبطش، تستغلّون شعوب المنطقة وشعبكم نفسه، وتستعبدون الجميع لآلتكم العسكريّة والاقتصاديّة، عبدتم إله الحرب، وألّهتم القوميّة.
فهل يمكنك أن
تمشي أمام الأقوياء الدينيّين والسياسيّين
كما مشى يسوع؟

«ويل لكم أيّها المراؤون» (متى 23: 13)، تلهجون بالسلام وتقصدون استسلام البشر الذين جئت لأحرّرهم، تلهجون بالسلام وتعملون على سحق كرامة الناس، تلهجون بالسلام وتعلنون في الداخل أنّكم تريدون أن تنزعوا عن الفلسطينيّين حقوقهم (3). يسوع الإنجيل لم يكن ليقرّر ما يقوله بحسب التيّار الاستسلاميّ السائد، لم يكن ليقول إنّه لن يكون ملكيّاً أكثر من الملك، لم يكن ليعذر نفسه بالقول: لم عليّ أن أكون أفضل من الحكّام العرب والفلسطينيّين وأحرَصُ منهم على فلسطين؟ لم يكن ليعذر نفسه بأنّه سيتعامل مع الوحش لأن كثيرين يتعاملون مع الوحش. لم يكن ليغمض عينيه عن وحشيّة الوحش فقط لأنّ البعض لديه أفضل العلاقات معه، ولأنّ البعض يركع أمام الوحش سرّاً والآخر علناً، في رخاوة رُكَبٍ مخزية.
يسوع يعرف أنّ الشهادة للحقّ مكلفة حتّى الصليب، وأنّه أتى «ليبذل نفسه لأجل أحبّائه» (يوحنّا 15: 13) ولهذا لم يكن ليكون «واقعيّاً» كغيره، بل لتجرّأ، كما فعل دائماً، وكان «لا واقعيّاً»، ولعبّر بكلّ قوّة عن أنّه يقف إلى جانب حرّية البشر. لم يكن ليأبه إن قال عنه أهله، من نفس العائلة أو الدين أو المجتمع، إنّه مجنون لا واقعيّ، فقد حدث ذلك معه قبلا «فـأَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مُخْتَلٌّ!» (مرقس 3: 21). لم يكن ذلك ليثني يسوع عن متابعة رسالة تحريره ومواجهة المتسلّطين. فيسوع كان ليعلن جنون حبّه للفلسطينيّين وللمحتلّين على السواء، ولهذا كان ليتصدّى لسلطات الاحتلال ولجرائمها وكان ليسمّي الأمور بأسمائها:جرائم واحتلال وفصل عنصريّ، وكولونياليّة؛ وكان ليعلن بالفم الملآن وفي الساحات، وفي دور العبادة، وعلى شاشات التلفزة، وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ بأنّ المحتَلين يخسرون إنسانيّتهم بينما يظلمون، والمهادنون للمحتلّين جُبناء تضمحلّ إنسانيّتهم، وأنّ جميعهم موتى يتوهّمون الربح بينما هم يخسرون إنسانيّتهم، و«ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم له وخسر نفسه» (متى 16: 26). وكان ليعلن لأتباعه في لبنان وسوريّا والعراق والأردن ومصر وفلسطين بأنّهم لن يدخلوا ملكوت الله إن لم يصيروا كالأطفال (متى 19: 14)، لأنّ الأطفال لا يأبهون للمال ولا للقوّة، بل للحياة والحرّية والفرح، ولذلك يثورون على القمع، قمع الأهل، ولو كانت ثورتهم ثورة مشاكسة ومعاكسة، وثورة مقاطعة؛ كان يسوع ليصرخ: كونوا كالأطفال ثوروا وقاطعوا لأنّ للمقاطعين الثائرين ملكوت السماوات.
لم يكن يسوع ليصافح الظالم. لو سنح ليسوع أن يصل إلى مراكز القرار في الكيان الإسرائيلي لكان «صنع سوطاً من حبال وأخرج جميعهم» (يوحنا 2: 13). لو قيّد له أن يأتي إلى القدس، لكان صرخ بالحجّاج المسيحيّين ووبّخهم قائلاً يا «قليلي الإيمان» (متى 8: 26) ألا تعلمون أنّ الإنسان هو «هيكل الله الحيّ» (2 كور 6: 16)، لِمَ تأتون إلى هنا لزيارة هياكل بنيتموها من حجر، ألعلّها أهمّ من الإنسان الذي تركتموه تحت الاحتلال؟ تنسون الهيكل الذي بناه الله مقموعاً، وتذكرون هياكل بنيتموها أنتم؟ تأتون وتزورون أراض اعتبرتموها مقدّسة لأنّ قدميَّ أنا داستها، ولا تأبهون عندما تُداس صورتي: تلك الإنسانة الفلسطينيّة التي تموت لأنّها تُحتجز على حاجز إسرائيلي وتُمنع من الوصول إلى مستشفى لعلاج أو لولادة، وذاك الإنسان الذي تسرق أرضه، وذاك الشاب الذي يُهان يوميّاً، وذاك الذي يُقتل، وذاك الذي يجوَّع؟ تزورون أراضٍ اعتبرتموها مقدّسة بسببي، وعندما أنا أجوع، وأُعتقل، وأُعَذَّب لا تهتمّون؟ لقد «قتلوني بلا سبب» في فلسطين، وأنتم ساهون عنّي، وتخدّرون ضمائركم بزيارة الحجارة؟
أيّها المراؤون، ممّن تسمّى باسمي. تستكينون، وترتاحون لمصيركم لمجرّد أنّكم تسمّيتم باسمي؟ ألم أقل لكم عليكم أن تحبّوا وبالتالي أن تقاوموا الشرّ كي تكونوا بالحقّ تلاميذي؟ الألقاب لا تعني شيئاً. تقولون إنّكم مسيحيّون، المسيحيّون هم أخوتي الذين ساروا في إثري، لا تقولوا «لنا يسوع أخاً» بالكلام فقط وإنّما بالعمل والحقّ، لأنّ «ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات» (متى 7: 21). فاصنعوا ما أصنعه ولا تقولوا فقط ما أقوله. الويل لكم أيّها الواهمون تتخدّرون بالطقوس، وأنا أردتكم أحياء وأحراراً ومحبّين، أنتم تساومون وأنا قلت لكم تكونون مثلي: كاملين. تتكلّمون عن السلام والوداعة وتقولون إنّي قلتُ «من ضربك على كفّك الأيمن فدر له الآخر» (متى 5: 39)، وتتناسون أنّي قلت هذا رمزيّاً وليس حرفيّاً، لأنّي أنا نفسي رفضتُ أن يضربني أحدٌ، فصرخت بالجنديّ الذي ضربني «إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟» (يوحنّا 18: 23). تتكلّمون عن الوداعة وتتناسون أنّي جمعت الوداعة بالشدّة، فواجهت الظلم الدينيّ والظلم السياسيّ، ولم أتوانَ عن خوض معركة حتّى ولو أدّى ذلك إلى شهادة الدم. الحقّ الحقّ أقول لكم، من أراد أن يتبعني عليه أن يتجرّع الكأس التي منها أشرب، و«يحمل صليبه ويتبعني»، وبهذا تكونون لي شهوداً هنا، وحتّى أقاصي الأرض. لا تخونوني.
غبطة البطريرك، أنت وكيل على كنيستك ومكلّفٌ أن تكون راعياً صورة يسوع، فهل يمكنك أن تمشي أمام الأقوياء الدينيّين والسياسيّين كما مشى يسوع، وتقول قوله، فإن لم تكن قادراً، وهذا مفهوم، فالأفضل ألا تذهب إلى بلد قائم على الجريمة اليوميّة والعنصريّة والفصل العنصريّ المُمَنْهَج، لأنّ زيارةً لا وقوف فيها في مواجهة الظالم، ليست في خطّ الإنجيل.
يسوع هو ملك الثوّار من أجل المصالحة الكونيّة في الحق، من أجل السلام في العدل، هو ملك المحبّةِ المواجِهَة لكلّ قمع يقعُ على الإنسان، هو ملك المحبّةِ المواجِهَة مواجهةً صارمةً للصالبين لا تعرف الكراهية، حتّى ولو كلّفت شهادة الدم.
يسوع هو ملك الأحرار المحبّين، هو الذي جعل من نفسه واحداً مع المقهورين، فهل تتبّعه، غبطة البطريرك، في وجوه المقهورين الفلسطينيّين، وترفض مهادنة الاحتلال؟ هل تقول للبابا فرنسيس، ذاك البابا الفذّ والمواجه للمكابرين في كنيسته، أنّ زيارته لتلك الدولة خطأ فادح، وإدارة ظهر للمسيح، «بغير معرفة»، وأنّ الموقف المسيحيّ الأصيل هو موقف المقاطعة، لدولة إسرائيل وبُناها وليس لليهود؟ هل لك أن ترشده إلى أنّ الموقف المسيحيّ الأصيل يمكن في الدعوة إلى قيام دولة واحدة موحّدة قائمة على العدل الذي يُنجِب السلام؟
غبطة البطريرك، إن كنت تريد أن تتّبع يسوع في مسيرته بيننا كما تجلّت في الإنجيل، وتحمل صليب الأرض التي تريد الذهاب إليها، فاذهب.
* أستاذ جامعي

المراجع:

(1) Ilan Pappé٬ The Ethnic Cleansing of Palestine٬ Oneworld Publications٬ 2007
(2) كوستي بندلي، «إسرائيل بين الدعوة والرفض»، منشورات النور، 1985، ص. 99
(3) The new Israeli apartheid: Poll reveals widespread Jewish support for policy of discrimination against Arab minority٬ The Independent٬ May 6٬ 2014
http://www.independent.co.uk/news/world/middle-east/the-new-israeli-apartheid-poll-reveals-widespread-jewish-support-for-policy-of-discrimination-against-arab-minority-8223548.html



تغيب مقالة الزميل أسعد أبو خليل اليوم لدواع شخصيّة، على أن تعود في موعدها يوم السبت المقبل