ُتقال هذه العبارة في وصف حالات الفوضى العارمة على اختلاط في المفاهيم والعلاقات والسلوك... إلى درجة قد تثير الضحك أو البكاء أو الاثنين معاً! هذا هو حال الوضع في لبنان حالياً كما يكشفه استحقاق رئاسة الجمهورية.
هذا هو الوضع أيضاً في ما يتصل بمسألة سلسلة الرتب والرواتب التي يجري تقاذفها من مرحلة الى مرحلة، ومن حكومة إلى حكومة، ومن المجلس إلى اللجان، ومن اللجان الى المجلس، ومن المجلس الى لجنة جديدة، ومن اللجنة تلك إلى الجلسة العامة مجدداً... ومن ثم الى توقيت ملغوم يطرح تحدي طول النفس على القطاعات المعنية، وعلى قيادتها («هيئة التنسيق») تحدي الصمود والتماسك والفعالية. يطرح أيضاً تحدي ادخال مجمل التحرك في المجهول ما بعد يوم الأربعاء المقبل، وتحديداً ابتداء من يوم الخميس الواقع فيه 15 أيار الجاري. وقتها يتحول المجلس النيابي إلى هيئة انتخابية مهمتها محصورة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. معلوم أن عملية وجلسة انتخاب رئيس جديد لا يعرف موعدها إلا الله والراسخون في التبصير (وهم كثر وذوو حظوة في هذه الايام) وبعض الوسطاء والقناصل والسفراء، العرب والاجانب، ولو من قبيل الترجيح والتخمين، حتى الآن، لا أكثر!
في موضوع الرئاسة يحمل كل يوم جديداً. وهو جديد لا يمكن أن ينتجه إلا الوضع اللبناني. هنا، وعندنا فقط، تجد كثرة من المرشحين لا تجدها في اي بلد في العالم (تلخص ذلك طرفة أن كل ماروني مرشح!). لكن هنا، وهنا فقط، يمكن أن يقتصر الاعلان عن الترشيح على شخص واحد تقريباً (الثاني هو مرشح عدم الإحراج وإثبات الحضور والموقف، فضلاً عن «مرشحين» آخرين كانوا يمرون صدفة في ساحة النجمة: يا لسهولة الترشح والترشيح عندنا بالمقارنة مع معظم إخوتنا العرب، إذ يحتاج مجرد الترشح هناك إلى موافقة أكثرية الشعب والبرلمان وكل الجيش!). هو، إذاً، مرشح واحد يباهي الدنيا كلها بأنه مرشح «قوي»، وأنه، بسبب هذه الفرادة في الاعلان وفي طبيعة البرنامج (الذي هو في أحسن الاحوال مشروع صدام سياسي معطِّل أو مشروع حرب أهلية مدمِّر)، قد اصبح صاحب حقوق مكتسبة بحيث يُعتبر كل تأجيل للانتخاب اعتداء على حقوقه الشخصية في بلوغ الموقع الاول في البلاد. والطريف أن المرشح السيد سمير جعجع، وبسبب تبني فريقه لترشيحه على سبيل تقطيع الوقت والمناورة، قد صدّق الامر إلى درجة التغافل (إلى حد الغفلة) عن وقائع المعركة ومصدر القرار بشأنها، وخصوصاً، بالنسبة لحلفائه قبل سواهم. ماذا مثلاً، لو أن الجنرال عون، كان قد اعلن ترشيحه، ورست المعادلة على تنافس حصري بين «الجنرال» و«الحكيم»؟ هل كان فريق 14 آذار سيواظب على حضور الجلسات حتى لو كان الفائز المرجّح هو الجنرال عون؟ ألم يتساءل «الحكيم» الذي لم يمارس الطب ولا اكتسب، كما يبدو، الخبرة الضرورية لحسن تقدير بعض الامور، لماذا يواصل مرشحون من فريقه نفسه الاستعداد للمرحلة الثانية التي سيطوي فيها اسمه كمرشح نهائياً؟ ثم ألم يدرك مغزى ترشيح النائب هنري الحلو من قبل رئيس «اللقاء الديموقراطي» الأستاذ وليد جنبلاط؟!
لكن ليس جعجع وحده هو من يستدرج التساؤلات وعلامات التعجب والابتسامات أيضاً! ثمة الآن جولة يقوم بها مرشح وصديق لدود لجعجع هو «الرئيس الاعلى» لحزب الكتائب (فعلاً لحزب الكتائب أكثر من رئيس بين أحفاد الرئيس المؤسس الشيخ بيار، ما استدعى رئيساً «أعلى»!). لا نعرف من خلال الجولة الكتائبية اين ينتهي دور الشيخ أمين الجميل الوسيط ومتى يبدأ دور الشيخ أمين المرشح: فالجولة تشمل اساساً المرشحين. وكأن عدم اتفاق هؤلاء هو المشكلة. لو كان الامر كذلك لربما حسم الأمر بالتصويت في المجلس النيابي، أو بنصيحة «توجيهية» من رأس الكنيسة المارونية، أو من «الاباء» مجتمعين في خلوتهم الشهرية، أو ما شابه ذلك. إن محاولة الجميل هي، في الواقع، ايذان، بانتهاء «مرحلة جعجع». وهو اختار هذا الاسلوب لتأكيد ذلك، فيما يستخدم منافسوه أساليب أخرى، لتقديم اوراق اعتمادهم الى الجهات المقررة، وهي بالطبع، الجهات الخارجية ذات التأثير الاكبر في مسار تطورات الحوادث في لبنان والمنطقة في المرحلة الراهنة.
من دون أن نتناول الآن كل اشكال «خوض» المعركة، وبعضها سري بالتأكيد، لا بد من ملاحظة ما انتهى اليه الاجتماع الاخير لـ«هيئة الحوار الوطني» منذ ايام. لن نتوقف هنا عند المقاطعة الكبيرة المتكررة، وعند التوتر الشديد الذي اثارته مواقف صاحب الدعوة. يلفت ذلك الهجوم العنيف من قبل الرئيس فؤاد السنيورة على المفرطين بـ«اتفاق الطائف»! يحذر السنيورة من المساس بـ«المناصفة» الطائفية الخالدة خلود الأرز بين اللبنانيين. ثم هو ينبّه اللبنانيين من «بدعة» وخطر «المؤتمر التأسيسي» الذي هدفه، كما اكتشف وكشف رئيس الحكومة الاسبق، تكريس «المثالثة» بدل «المناصفة». لم تهدأ ثورة غضب السنيورة إلا حين طمأنه رئيس المجلس الاستاذ نبيه بري، بأن كل المسلمين حريصون على «المناصفة» حتى تطبيق المواد الدستورية الملزمة والمعطّلة بشأن انشاء مجلس نيابي خارج القيد الطائفي بالتزامن مع استحداث مجلس شيوخ على اساس التمثيل الطائفي. اطمأن السنيورة أكثر حين تضمن البيان الختامي، ورغم توضيح بري أو بسببه، البند الآتي: «التأكيد على أهمية تطبيق اتفاق الطائف والحرص على المناصفة والعيش المشترك» (لاحظوا الربط بين الأمرين... سمك لبن). لا يمكن ان نتجاهل، في هذا السياق، محاولة جديدة لبناء اطار تحالفي بين قوى معارضة تحمل شعارات التغيير، وتسعى لملء الفراغ «الخاص بها» والسابق على الفراغ المتوقع في موقع رئاسة الجمهورية. تقف وراء هذه المحاولة نيات حسنة من قبل البعض. يقف وراءها هاجس «الاستخدام الداخلي» والمناورة من قبل فئة أدمنت تعطيل و«هرغلة» كل المحاولات السابقة. ما المانع طالما أن أحداً لم يسألها لماذا خرَبت صيغة «التجمع الوطني للإنقاذ والتغيير» قبل عشر سنوات!
غياب المساءلة لا يتمتع بها الرجعيون فقط. ربما، في الموقع النقيض، المشكلة أمرّ وادهى. هذا هو أحد اسباب «الفراغين» وليس أحدهما فحسب!
* كاتب وسياسي لبناني