أثارت المصالحة الحمساوية ــ الفتحاوية كثيراً من ردود الفعل الترحيبية من قبل النخب الفصائلية، وإن كانت مصحوبة بحذر شعبي شديد مع شكوك حقيقية في نوايا الفصيلين المتصالحين بناء على إحباطات سابقة (مكة، القاهرة، الدوحة)، ودور كلا الفصيلين الحاكمين في قمع أي محاولة شعبية جدية في الضغط عليهما لتحقيق المصالحة التي يتم الاحتفاء بها الآن.
وبعيداً عن الاحتفاليات الاعلامية والابتسامات، التي قد تتحول في ليلة وضحاها إلى تشنجات تعودنا عليها لمدة 7 أعوام، يتوجب علينا نحن الذين لا ننتمي لأيّ من الفصيلين، أو التيارات السياسية الجاهزة دائماً للتطبيل لهما، أن نطرح الأسئلة الصعبة التي لا يحبان أن يسمعاها.
في حوار تلفزيوني لقيادي حمساوي مع قناة تلفزيونية إسرائيلية تابعة لجريدة «يديعوت أحرونوت» بعد توقيع وثيقة الشاطئ، أكد «أننا (حماس) نقبل بدولة فلسطينية في حدود 67». وأضاف أنه «إذا قبلت (إسرائيل) بدولة فلسطينية في حدود 67 سيتغيّر الوضع السائد بشكل كامل». ويأتي هذا التصريح لتأكيد موقف حمساوي جرى تأكيده أكثر من مرة من قبل القيادات الرسمية، مثل رئيس المكتب السياسي السيد خالد مشعل ورئيس وزراء حكومة غزة السيد اسماعيل هنية. وهذا الموقف الذي يتناسق مع موقف السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة حركة فتح، هو بالضبط نقطة الارتكاز التي يتمحور حولها ما يسمى بـ«بالإجماع» الفلسطيني وما وصل إليه «البرنامج الوطني» تبعاً للتفسير السياسي السائد.
وعلى الرغم من محاولات حماس المستميتة نفي قبولها الضمني دخول المعترك السياسي كما حددته اتفاقيات أوسلو التي أعلنت صراحة العداء لها عند توقيعها عام 1993، وعدم القبول بنتائجها أو الدخول ضمن مؤسساتها حتى عام 2006 عندما قبلت بالمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، أحد مؤسسات أوسلو الرئيسة والتي تضفي شرعية كاملة على إفرازاتها كافة. ولابد من التذكير في هذا السياق أن حركة حماس واليسار الفلسطيني يعلمان أن تمثيلهما في المجاس التشريعي لا يشمل مكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة، بل يقتصر على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالتالي فإنه لا يختلف عما كان يسمى ببرلمانات التراي كاميرال الصورية ذائعة الصيت التي كانت حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قد سمحت بإقامتها للسكان الملونين وذوي الأصول الهندية بين عامي 1984 - 1994، ولم يتم الاعتراف بها من أي برلمان في العالم.
ولتأكيد الموقف الأوسلوي لحركة حماس بعد قبولها بالمشاركة في هذه الانتخابات والتعويل عليها كأداة «نضالية» سياسية تبرز وجهاً «معتدلاً» لما تعتبره الحركة «العالم»، مع حصر هذا المفهوم بالولايات المتحدة والحكومات الغربية، صرّح قيادي بارز آخر بأن الحركة «لديها توجه بدراسة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الفلسطينية!». وذلك من منطلق «وجوب الشراكة السياسية في الحالة الفلسطينية!» وكأن هذه الحالة تقتصر فقط على افرازات أوسلو ومؤسساتها التي يرى العديد من المحللين والمفكرين والنشطاء أنها لا تختلف عن - إن لم تكن أسوأ - المؤسسات التابعة للمعازل العرقية (البانتوستانات) الجنوب أفريقية، التي سمحت حكومة الأبارتهيد بإقامتها تحت مسمى «أوطان مستقلة» من خلال تشكيل حكومات ووزارات ومؤسسات رئاسية مصحوبة بقشور سيادية مظهرية من حرس شرف، أعلام وطنية، سلام وطني إلى أجهزة أمنية تقوم بملاحقة كل من يقاوم الابارتهيد و/ أو يدعو لمقاطعته (!). وكل ذلك جاء مصحوباً بغياب كامل للسيادة والاستقلال الحقيقيين كما عرفهما القانون الدولي في إطار الحق في تقرير المصير وسيطرة كاملة للحكومة العنصرية على مظاهرة السيادة الاقتصادية والسياسية.
وكأن المصالحة الفلسطينية تعني مشاركة كعكة السلطة! فحماس تسيطر على قطاع غزة من خلال أجهزتها الأمنية، وتحكمه من منطلقات إيديولوجية ضيّقة مصحوبة بمراهقة سياسية تمثلت في مواقف مغرقة في عدميتها وتوريط كل القطاع بعداءات مع الجوار كنا في غنى عنها. مواقف أسفرت عن عزلة غير مسبوقة في تاريخ الحركة أثرت على الحياة اليومية للسكان الذين يدفعون ثمن مواقف الحركة الحزبية الضيقة. وقامت الحركة، من خلال حكومتها التي وصفها العديد من قادتها بـ«الربانية» بسنّ العديد من القوانين التي تحد من الحريات الشخصية وترسّخ ثقافة «محافظة» تعبر عن التوجه الإيديولوجي للحركة. ومع الحسابات السياسية التي أظهرت موقفاً منحازاً في بعض القضايا العربية، وبالتالي استعداء بعض الحكومات قبل نضوج الطبخة، أصبح ظهر الحركة للحائط ولم تعد قادرة حتى على دفع رواتب بعض الالاف من موظفي القطاع العام الذين في غالبيتهم إما أعضاء في الحركة أو على الأقل مناصرين لها. ومع ارتفاع ملحوظ في معدلات الجريمة، وانقطاع التيار الكهربائي، وإغلاق جميع معابر القطاع، وغياب أيّ مظهر من مظاهر المقاومة، حتى الشكل الوحيد منها الذي تتبناه الحركة، بل ملاحقة نشطاء المقاومة الشعبية كما حصل أيام الغضب ضد مخطط برافر واحتفالية فلسطين للأدب، بالتالي نفور العديد من الشخصيات الاعتبارية وقيادات المقاومة المدنية منها، لم يعد أمام حماس إلا التقاط طوق النجاة الذي ألقته لها حركة فتح.
وكانت حركة فتح بدورها قد أوصلت القضية الفلسطينية الى طريق مسدودة بعد 20 عاماً من توقيع اتفاقيات أوسلو المشؤومة من خلال تقديم تنازلات عن كثير من الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، أكثرها خطورة هو تصغير الشعب الفلسطيني إلى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة والتخلي بوضوح عن حقوق اللاجئين وفلسطينيي الـ48. والوصول المتأخر جداً لنتيجة أنّ إسرائيل غير معنية بالسلام العادل من خلال الاستمرار بالاستيطان، وبالتالي قتل أيّ إمكانية كانت موجودة لإقامة حتى بانتوستان شكلي على الرغم من كل ما قدمته السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، وعلى الرغم من التنسيق الأمني غير المسبوق في أوضاع احتلال غاشمة، فإنّ النتيجة النهائية كانت صفر كبير قُذف في وجه الطرف الفلسطيني الذي لم يرَ بديلاً عن استخدام ورقة المصالحة الداخلية والتهديد بحل السلطة و«اكتشاف» أن هناك بديلاً لحل الدولتين الذي قتلته إسرائيل!
هل سيفتح معبر رفح؟ هل تعود الكهرباء 24/7؟ هل يسمح بدخول الاسمنت؟ هل يتوافر دواء القلب وغسيل الكلى؟ هل تزيد إسرائيل من أعداد التصاريح التي تعد على أصابع اليد الواحدة؟ هل يتم إدخال المنحة القطرية عن طريق كرم أبو سالم؟ من سيكون وزير الداخلية؟ هل تلغى القوانين القروسطية التي تتحكم في تسريحة شعر الشاب وطول سرواله؟ وشكل غطاء رأس الفتاة؟ هل يرجع الصياد للبحر ونأكل سمك؟ بمعنى آخر، هل تنجح حكومة الوحدة الوطنية (الأوسلوية) في تحسين شروط الاضطهاد؟
من ناحية أخرى، هل يلغى التنسيق الأمني؟ ألا يعني ذلك عملياً حلّ السلطة الوطنية التي تشكل الأجهزة الأمنية عمودها الفقري؟
وفي المحصلة النهائية ماذا يعني كل ذلك في سياق نضالنا الرئيسي ضد كل أشكال القمع الاسرائيلي وليس فقط الاحتلال العسكري للضفة الغربية وقطاع غزة؟ وهل هناك مجال للمعارضة السياسية لكل من الفصيلين الحاكمين بعيداً عن خرافة حل الدولتين العنصري ومؤسسات أوسلو من مجلس تشريعي (تراي كاميرال) صوري وحكومة ورئاسة؟
* محلّل سياسي، عضو اللجنة التوجيهيّة للحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل