تعترض مصر –الآن- أزمة وجوديّة، أن تكون أو لا تكون، دون أن يتوفر لها سند أفريقي فاعل ومؤثر يستحقّه تاريخها في تحرير القارة، ولا دعم دولي ظاهر وضاغط يتسّق مع طلب الحق في الحياة.أسوأ قراءة ممكنة لما جرى في مجلس الأمن الدولي من مداخلات ومداولات بشأن أزمة السد الأثيوبي المتفاقمة تلخيصها في «نظريات المؤامرة»، فالعالم كله بدرجات مختلفة ودواع متباينة ضدنا ومتآمر علينا!
إذا كان الأمر كذلك فإن الهزيمة في معركة البقاء والوجود مؤكدة ونهائية، وهو استنتاج متعسف بأية حسابات استراتيجية لأهمية الموقع المصري في الاستراتيجيات والمصالح الدولية المتصارعة.
هذه أهم ورقة سياسية تمتلكها مصر.
لكل سلوك سياسي أسبابه ودواعيه ومصالح وحسابات اقتصادية واستراتيجية تتحكم فيه، فلا شيء يجري عشوائياً، أو وفق مؤامرة محكمة ضد مصر تتشارك فيها القارة الأفريقية وروسيا والصين مع الحلفاء المفترضين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي!
ما نحتاجه ـ بالضبط ـ أن ندرك الحقائق والتحولات والحسابات، حتى يكون ممكناً التصحيح والتصويب بقدر ما هو ممكن لكسب معركة الوجود.
لا يصحّ أن نلوم الآخرين قبل أن نعترف بنصيبنا المستحق من الأخطاء والخطايا التي ارتكبت على مدى عقود متصلة.
في سنوات ثورة يوليو، التي تكاد تدخل عامها السبعين، دفعت مصر أثماناً باهظة لاكتساب موضع القيادة في محيطها العربي وقارتها الأفريقية ممتداً إلهامها إلى العالم الثالث كله، فلا أدوار بلا تكاليف.
من أسوأ ما جرى بعد «جمال عبدالناصر» أن ما استقر عميقاً في القارة السمراء أُهدِر فادحاً في السياسات.
مشكلة مصر في إدارة أزماتها الإفريقية التي تنشأ من وقت لآخر، أخطرها وأفدحها أزمة السد الأثيوبي، أنها تتذكر التاريخ في غير موضعه وتبني عليه بغير أساس.
لا القادة الإفريقيون الحاليون من طراز قادة التحرير الوطني، ولا مصر بقيت على حالها.
الرجال اختلفوا والسياسات تناقضت والقارة كلها في أوضاعٍ جديدة.
التاريخ حاضر في الذاكرة العامة، فالإفريقي يعتد بمعاركه للانعتاق من التمييز العنصري، ويعتزّ بأبطاله التاريخيين من أمثال «عبدالناصر» و»نكروما» و»لومومبا» و»سيكوتوري» و»نيريري» و»مانديلا»، لكنه لا يعيش في الماضي.
لديه كوابيسه وأحلامه وتساؤلاتٍ عن مستقبله.
لا ينكر قيمة مصر التاريخية، لكنه يدرك أن القضايا المشتركة والمعارك الملهمة في الماضي لا تصلح عنواناً أبدياً لعلاقات الدول.
موارد التاريخ ضرورية بقدر ما تُبنى على ما بنيت، وأن تكون حاضراً ومؤثراً ومستجيباً لتحديات عصرك.
إن لم نتصارح بالحقائق فالخطايا مرشّحةٌ للتكرار.
فإلى أي حد تدرك مصر أنها قد أخطأت في التنكر للقارة الإفريقية؟
موارد التاريخ تفسح المجال لكنها ليست المجال ذاته.
أخلينا مواقعنا عن استهتار بالغ بالمصالح المصرية العليا وزحف آخرون على المواقع التي أُخلِيت.
لم يكن ذلك سوء تقدير سياسي بقدر ما كان منهجاً جديداً في الحكم بعد حرب أكتوبر (1973).
في وقت واحد تزامن تفكيك مقومات الاقتصاد الوطني والقرار الوطني، ورهن البلد كله لخيار وحيد وضع (٩٩٪) من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة.
كانت تلك دعوةً لإسرائيل وغيرها أن تملأ الفراغ.
وكانت تلك مأساة كاملة لبلد قاد حركات تحريرها، ولعب الدور الأكثر جوهرية في تأسيس «منظمة الوحدة الإفريقية» «الاتحاد الإفريقي الآن».
من أسوأ ما يحدث الآن ارتفاع بعض الأصوات في مصر تطلب تدخلاً إسرائيلياً لحل أزمة السد الأثيوبي بما لها من ثقل وتأثير على مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة والاتحاد الروسي وما لها من صلات عميقة مع السلطة الأثيوبية الحالية. هكذا وصل التدهور منتهاه، كأنه قبول محتمل بمشروع مد نهر النيل إلى إسرائيل، أو أن تكون مصبه الأخير.
بل وصل الكلام إلى اعتبار تبني «أنور السادات» مشروع مد مياه النيل إلى إسرائيل بإسم السلام، حكمة مبكرةً لرجل يسبق عصره!
في حينه ووقته نهضت الحركة الوطنية المصرية لإجهاض ذلك المشروع، لا كان «السادات» سابقاً عصره ولا كانت تلك حكمةً بقدر ما كانت انفاذاً لأحد أحلام مؤسّسي الدولة العبرية.
كان مثيراً وغريباً أن البلد الذي قاد مطلع ستينيات القرن الماضي أوسع عملية تحرير وطني في التاريخ بدأ بعد أقل من عقد واحد في الإنقلاب على كل معنى وقيمة ودور جمعته بالقارة الأفريقية.
الأمر نفسه حدث في الشرق الأسيوي مع الصين والهند وأخذ مداه مع الاتحاد السوفييتي السابق حتى وصل إلى حدود غير متصورة من الشماتة الإعلامية من كل الأصدقاء السابقين!
بذريعة تعقب النفوذ السوفييتي انخرط نظام «السادات» في جهود ومخططات استخباراتية لتقويض حركات التحرير الوطني ومطاردة قادتها فيما يعرف بمجموعة «السفاري»، التي ضمت ممثلين لفرنسا والسعودية والمغرب وإيران ومصر.
بإذن خاص من «آية الله الخميني» في الأيام الأولى للثورة الإيرانية تسنى للأستاذ «محمد حسنين هيكل» الاطلاع على تلك الوثيقة الاستخباراتية في طهران.
تناقضت السياسات من التحرير إلى التبعية ومن قيادة حركات التحرير إلى التآمر عليها.
رغم ذلك كله ظل الدور المصري التاريخي ملهماً في القارة.
لثلاث مرات ترشحت مصر لقيادة مفوضية حقوق الإنسان الإفريقية، وكانت الخسارة فادحة بكل مرة حتى اقترح وزير الخارجية في ذلك الوقت «أحمد أبو الغيط» على الرئيس الأسبق «حسني مبارك» التقدم بإسم «محمد فائق» آخر وزير إعلام في عهد «عبدالناصر» ومستشاره للشؤون الإفريقية.
بالإجماع قرر القادة الأفارقة تزكيته.
كانت تلك رسالة إلى الماضي بالتقدير، كما إلى المستقبل بأنه إذا عادت مصر إلى سابق أدوارها فإن أبواب القارة مفتوحة على مصراعيها.
في كتابه «عبدالناصر والثورة الإفريقية» كتب «فائق»: «لن نكون مبالغين إذا قلنا إن ثورة يوليو المصرية قد أحدثت من التغيير وتركت من التأثير في إفريقيا ما لا يقل بحال من الأحوال عن ذلك التغيير والتأثير الذي أحدثته وتركته الثورة الفرنسية في أوروبا.
فإذا كانت الثورة الفرنسية قد زرعت مبادئ الحرية والإخاء والمساواة عميقة بين شعوب أوروبا وقضت على الإقطاع وامتيازات النبلاء والألقاب، فإن الثورة المصرية هي التي أعطت الشعوب الإفريقية القدرة على استخلاص حقوقها وفقاً لهذه المبادئ والمعاني العظيمة، والتي كان تطبيقها يقف دائماً خارج حدود المستعمرات، حيث كان يصطدم هذا التطبيق بمصالح المستعمرين الأوروبيين».
قد تبدو مثل هذه الشهادة تحليقاً في الإنشاء السياسي، لكنها في الحقيقة تعكس بدرجة عالية من الدقة الدور الذي لعبته مصر، ولا يزال ماثلاً في ذاكرة القارة، لكنه لا يصلح وحده لفتح صفحة جديدة مع القارة، فالمصالح والرُؤى الاستراتيجية التي تتسّق مع معارك عصرها تسبقه.
بأية مراجعة جدية للعلاقات المصرية الأفريقية يطرح سؤال المستقبل نفسه: إلى أين من هنا؟
بدا لافتاً ما يشبه الإجماع في مداخلات مجلس الأمن على رعاية الاتحاد الإفريقي، دون سواه، لمفاوضات السد الأثيوبي رغم عجزه الفادح عن لعب أي دور في حلحلة الأزمة المتفاقمة، حتى وصلت إلى طريق مسدود.
كان ذلك داعياً لإحباط إضافي في الرأي العام المصري، كما مراكز صنع القرار.
كيف تدهورت المنظمة الأفريقية إلى هذا الحد؟
إحدى الإجابات المتماسكة قد تتلخص في غياب إرادة سياسية جماعية تؤكد على وحدة العمل الأفريقي، الذي اهتز بعمق بالتنكر المصري.
عودة مصر إلى القارة وعودة القارة إلى مصر مسألة تستدعي مقاربات أوسع وأعمق من أن تلخص في أزمة السد الأثيوبي، لكنها لا تتحمل الانتظار عند حد الحياة أو الموت.
لا توجد حلول في المدى القريب غير أن تأخذ مصر مصيرها في يديها، أن يرتفع صوتها بلا تردد أو تلعثم، أن تستخدم كل ما لديها من أوراق قوة حتى يتحسن موقفها القاري والدولي، ففي مثل هذه الأزمات الوجودية لا مواقف وسط.
* كاتب وصحافي مصري