المتتبّع للوضع اللبناني الذي انقلب سلبياً منذ أقل من عامين، يشعر بتقصّد مسبق لإيصاله إلى ما هو عليه من تدهور دراماتيكي اقتصادي ومعيشي وسياسي في لحظات سياسية دولية وإقليمية مُثقلة بالأحداث والتطورات بعد رحيل الرئيس دونالد ترامب.يفسر البعض ما يجري بعملية تطويع وإرغام وهجوم مضاد بمساعدة أدوات محلية ضد جبهة ما يسمى الممانعة المستعصية على الإدارة الأميركية التي تعيد رسم سياساتها في المنطقة مع الحفاظ على كل مكتسباتها، وإن كانت في الشكل تحاول الإيحاء بتغيير نمط إدارة هذه السياسات، لكن الجوهر لا يزال قائماً في السياسة الخارجية الأميركية وهذا ما يتجلى في السياسة الأميركية تجاه لبنان - المقدّر له - أن يكون ساحة تصفية حسابات وتمرير رسائل بين الدول، فلبنان من الدول الخصبة بتكوينه السياسي والديموغرافي كي تستثمر الإدارة الأميركية وجهات أخرى فيها للضغط في ملفات أخرى ومناطق أخرى من الشرق الأوسط.
لكن ليس الذنب أن نبقى نخدم ساحة التجارب الدولية من أمننا واقتصادنا ومستقبل أجيالنا وبلدنا، فلنتعوّد ولو قليلاً في لحظة تخلّ ومسؤولية أن نستولد حلولاً لأزماتنا بأنفسنا لأن الخارج لا يبصر سوى بعين مصالحه.
يبدو أن الجميع ممن هو في مركز صنع القرار الدولي وتحديداً الولايات المتحدة وفرنسا لا ينظر إلى الوضع اللبناني حالياً سوى من زاوية الضغط إلى النهاية وصولاً إلى محطة الانتخابات النيابية القادمة -إن حصلت – لأن التمديد للمجلس الحالي بحاجة هو الآخر إلى توافقات دولية ولن يخدم كثيراً مصالح الأميركيين إذ يعوّلون على نجاح الخطوات العقابية سياسياً ومادياً التي تستند إلى معطيات تؤكد لهما تراجع الرصيد الشعبي للمقاومة وللتيار العوني ولبقية الأحزاب، إلا ما يعول عليها كي تكون بديلاً شعبياً وانتخابياً سيما الكتائب والجماعات المدنية الغائبة كلياً عن مشهد التحركات المطلبية الجدية.
لكن هل سيبقى شعبٌ ليُحكم فخطفُ أنفاسه نهائياً معضلة تشهد على أزمة أخلاق كبرى؟
إن شيطنة فريق ما لا يمت إلى ديمقراطية بصلة بل هو تعبير عن ديكتاتورية مقنعة كما أن الارتباك وعدم التنسيق والحكمة في مراجعة الخطوات والخطاب المواجه لهذه السياسات كل ذلك لا بد له أن يرتقي إلى حجم الضغوط والأزمات، لأن الخطورة اليوم كبيرة والخاصرة رخوة فإذا كان الأميركيون وغيرهم يفكرون ويخططون كما يحلو لهم فليس معنى ذلك أن يستسلم من هم في موقع التأثير وصنع القرار محلياً ويتخلوا عن دورهم المطلوب، ويطلقوا العنان للطائفية والجهوية والحزبية كي تمعن أكثر في تدمير البلد عبر لعبة بغيضة لا قواعد اشتباك لها خلا قاعدة واحدة يسير الجميع عليها ألا وهي شريعة الإذعان والإصغاء إلى الخارج وتلقّي القرار والأمر منه بلا تفكير حتى بات الوطن الجريح النازف جثة ينفض الجميع أيديهم من قتلها ...
إن وضع الناس لم يعد يحتمل، من هنا لا مهرب من بدائل عملية وواقعية كما أن الخروج من التعنت وقراءة الأمور بوعي ومسؤولية يحتمان على الجميع التحلي بالشعور الوطني الغائب بقوة وبشكل لافت، إذ المشكلة الحقيقة تكمن في أولويات الانتماءات فالجميع وطنيون نظرياً لكنهم عملياً مقيّدون بحسابات وإملاءات من هذه الدولة وتلك ويجيدون استثمار هذه الانتماءات في المناكفات والكيديات في ما بينهم محلياً في ظل انهيار سريع وشامل جعل الدولة ككل في وضع الاستجداء هنا وهناك بعدما نهبها الفاسدون على عقود.
هنا تأتي مشكلة لبنان التي لا بدّ من مراجعتها مستقبلاً مشكلة هويته الوطنية الخالصة التي لا تخضع للإملاءات ولا يحركها الخارج لا شرقاً ولا غرباً وهذا ما عجز اتفاق الطائف عن حلها.
المشكلة الحقيقة تكمن في أولويات الانتماء، فكلنا وطنيون نظريا ومقيدون عمليا بحسابات وإملاءات هذه الدولة أو تلك، ويجيدون استثمار هذه الانتماءات


مشكلة أخرى لا يُلتفت إليها ألا وهي العمل الحزبي المنغلق على ذاته، فلا مراجعةٌ جدية ولا تطويرٌ فعلي وحقيقي لعمل سياسي نظيف، بل الفردانية تختصر فئة وجماعة وطائفة بأسرها! وإلى أن نتعوّد على نقد الذات وعلى العمل الجماعي في صنع القرار وتوجيه مسار الأحداث بصدق وشفافية علينا أن ننبش حملاً ثقيلاً من العادات والذهنيات والموروثات التربوية والأخلاقية وغيرها التي تربينا عليها حتى نتعرف إلى مكامن الاهتراء فيها ولكن مَن منا يجرؤ على ذلك؟!
إن أفضل سلاح يمكن التمسك به في هذه الظروف المهتزّة هو العمل الجدي على الوحدة وهو لن يُؤتي ثماره المرجوّة سوى بخلوص النوايا والتحلي بالوعي والحكمة في إطلاق الكلمات والمواقف حتى داخل البيئة الواحدة (خاصة على مواقع التواصل) وعدم صنع لغة فوقية أو عنصرية طبقية، فقليل هم من يقبضون بالدولار إذ الفرز الاجتماعي يخفي في طياته مساوئ ومخاطر كبيرة تزيد من تشظّي المجتمع ويجعله رخواً أكثر وقابلاً للانفجار بزخم أكبر وبنقمة واسعة، فالجميع من كل الطوائف غالبيتهم الساحقة فقراء ومعوزون وهم من يدفعون الثمن غالياً وليس دقيقاً الكلام الإعلامي الذي يروّج بأنه ليس من محتاج وفقير حيث المعونات قائمة فكثيرون هم من لا يستظلون تحت عباءة حزبية ودخلهم محدود جداً لم يعد يساوي شيئاً وهم متعفّفون عن السؤال، وهل أصبح من المستسهل تحويل الناس إلى مستعطين للصدقة؟
كلّ المؤشرات مقلقة لجهة حدوث انفجار اجتماعي كبير فهل إن وقع – لا سمح الله- سيكون البلد قادراً على لملمة مفاعيله ونتائجه؟ وسؤال آخر كيف سيستثمر اللاعبون الدوليون والإقليميون في هذه النتائج؟ وكيف وبأيّ اتجاه سيوظفونها وصولاً إلى التراضي؟
المحطات السياسية الكبرى بالجملة من المفاوضات الإيرانية الأميركية التي تتردّد أصداؤها سلباً أو إيجاباً على دول المنطقة من العراق وسوريا واليمن حتى لبنان والمواجهة المستقبلية مع الصين بالنسبة إلى الولايات المتحدة هي من تمسك بخيوط اللعبة السياسية بالمفرّق على مستوى العالم.
إلى حينه فإن قدر اللبنانيين هو انتظار الدخان الأبيض من فيينا وما إذا كان هذا الدخان سيُطفئ النار المشتعلة في بلاد الشرق كي تتفرغ أميركا لخصمها العالمي بجدارة «الصين»، أو انتظار من يتحنّن عليهم من دول لا تريد انهياراً شاملاً يُفقدها دورها ومصالحها، بل تشد وترخي الحبال، بينما معزوفة الأطراف المحلية عالية وكلٌّ يجد الفرصة السانحة اليوم لتصعيد نبرته الشعبوية وشدّ عصبه الحزبي والطائفي ولملمة صفوفه وإظهار أحلامه وتمنياته ومشاريعه وطموحاته الشخصية مستفيداً من هذا الاشتباك والتداخل وجوجلة الحسابات. فغريبٌ جداً ما وصل الحال بنا من توحّش مرضي قاتل من احتكار وفساد واستهتار وتسطيح وتسليع للإنسان وتفاهة تنتج تدجيناً متقصداً للدين والسياسة حفظاً للمصالح والأنانيات على حساب القيم والأخلاق، فالناس في واد والقيّمون على امتلاك قرارهم وتحديد مصائرهم في واد آخر، وكأن الانفصام عن الواقع في أوج نشاطه فإلى متى هذه الحفلات الجنونية الفاضحة؟
ولكنها الوقاحة التي تلفّ أوضاع مجتمع مخدّر تخلى عن إحساسه بالمسؤولية العامة واستسلم لزمرة تجار ومجرمين بثياب الله وثياب الحاكمين ...
إن تحسّس المسؤولية فعل وعي وتحضّر يبرز أصالة تتمرد على كل تفاهة تبتغي تقييد حركة الإنسان والدوس على كرامته، من هنا لا مناص من لحظة وعي وتمرد على الخنوع واتخاذ الموقف الذي يساهم في ضبط حركة المجتمع وإعادة نوع من التوازن المفقود وإلا سنبقى عبيداً لتفاهة تقتلنا بلا رحمة ...
* كاتب وحوزوي.