فرنجية مرشحاً: محاولة متعددة الهدف

  • 0
  • ض
  • ض

جعل خبر ترشيح الرئيس سعد الحريري للنائب سليمان فرنجية إلى منصب رئيس الجمهورية اللبنانية، في لقائهما الباريسي الأسبوع الماضي، الكثيرين يتذكرون البيت الشهير لكبير شعراء العربية «أبي الطيب المتنبي»: «طوى الجزيرة حتى جاءني خبر». حجم الإنعطافة في موقف الحريري التي حملها الخبر جعلت الكثيرين، أيضاً، يعتقدون أن ما يجري لا يتجاوز المناورة التي ترمي إلى إحداث ارتباك وبلبلة في صفوف فريق الثامن من آذار عموماً، وفي العلاقات ما بين العماد ميشال عون والنائب فرنجية خصوصاً. لكن سرعان ما تبيّن أن السيد سعد الحريري ليس منفرداً أو متفرداً في هذا الترشيح: من أمامه الرئيس نبيه بري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط (وربما آخرون)، ومن خلفه مرجعيته الإقليمية، قيادة المملكة العربية السعودية، التي لن يُقدم الحريري على خطوته (حتى لو كانت مجرد مناورة) دون موافقتها نظراً لكونها ما زالت تعطي الأولوية، رغم غرقها المرهق في الرمال اليمنية، لإسقاط الرئيس بشار الأسد، ونظراً لأن فرنجية هو من أقرب أصدقاء الرئيس السوري. كان ينبغي، منذ البدء، عدم إسقاط تجربة الحريري مع العماد عون على محاولته الجديدة مع النائب فرنجية. ذلك، أولاً، بسبب مخاض ومناخ التسوية المستجد، بعد التدخل الروسي في سوريا، والذي جعل القيادة السعودية تتراجع عن الفيتو الذي كانت تضعه ضد أي دور إيراني في اللقاءات والاجتماعات ومشاريع التسويات. ثم بسبب ما استشعره «سَدَنة» النظام السياسي اللبناني وأبرزهم الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط، من مخاطر استمرار الهريان الداخلي خصوصاً بعد الشلل الشامل الذي ضرب مؤسسات النظام (باستثناء الأمنية)، وبعد التحرك الواسع الذي شهدته البلاد احتجاجاً على تكدس النفايات في الشوارع دون أن تتمكن السلطة ومتحاصصو منافعها ومواردها وإدارتها من الاتفاق على معالجة هذه المشكلة الخطيرة (طبعا، بسبب استشراء الفئوية والفساد إلى درجة غير مسبوقة). احتلّ كل من بري وجنبلاط موقعاً ممتازاً في توازنات السلطة على امتداد المرحلة الممتدة منذ «الطائف» إلى اليوم (ساهما معاً بدور مميز أيضاً في تشويه تطبيق اتفاق الطائف خلافاً لنصوصه أحياناً ولروحه دائماً). عمل «الأستاذ» والبيك معاً في مرحلتي الإدارة السورية للبلاد (حتى عام 2005)، وأيضاً (رغم بعض التباينات) بعد الانسحاب السوري من لبنان في ربيع عام 2005. الحصة الوازنة والراجحة في السلطة، التي تمتعا بها في كل تلك السنوات، جعلتهما حارسين أمينين ويقظين لـ«الصيغة» الجديدة التي تكرست في امتداد الصيغة القديمة مع تعديل في التوازنات بعد تغيّر الأوزان في بعديها المحلي والإقليمي. الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان ثالثهما حتى اغتياله عام 2005. أما الرابع فكان الرئيس الراحل إلياس الهراوي. وكان يحل في المرتبة الخامسة «الوزير القوي» ميشال المر الذي كان يتمتع، دائماً، بحظوة عالية، خصوصا لدى المسؤولين السوريين المعنيين بالملف اللبناني. تقلبت الظروف كثيراً خلال العقد المنصرم. رغم ذلك وجد الرئيس سعد الحريري نفسه، في العديد من المناسبات، ينسِّق مع بري وجنبلاط. «المستقبل» شريك وازن في الإدارة اللبنانية كما هذين المذكورين. هو حريص، مثلهما، على عدم تغيير صيغة التحاصص الراهنة وتوازناتها. يحتاج الحريري الإبن للسلطة ومنافعها، أكثر من السابق، لتعويض النقص في قدرته على تقديم ما كان يستطيعه والده، ثم هو شخصيا، من خدمات مباشرة. هذا بالإضافة إلى إقامة توازن على مستوى القرار السياسي تحتاجه أيضا مرجعيته الإقليمية في مواجهة منافسين أقوياء. تراجع نفوذ تيار المستقبل في المشهد السياسي العام، بات يتطلب من «الشيخ سعد» الحضور المباشر في الداخل، وفي السراي الحكومي على وجه التحديد. ثلاثي الحريري/ بري/ جنبلاط «متَّهم»، بالتكافل والتضامن إذن، بـ«ارتكاب» المبادرة الأخيرة، وإن وقع على سعد الحريري «عبء» الإعلان والمتابعة والتنفيذ. بشكل من الأشكال هناك شق في المبادرة يمكن وصفه بـ«لبننة الاستحقاق» بهدف استعادة زمام المبادرة من قبل الثلاثي المذكور، في الصراع الداخلي في بعديه التقليدي والمستجد (بعد تلاحق الاعتراضات الشعبية وآخرها الاحتجاج المدني الشبابي الشعبي ضد اندلاع أزمة النفايات وإخضاع حلها، بشكل مهين ومستفز، لمنظومة المحاصصة والفساد). هذا الشق «اللبناني» من المبادرة (لفت السفير السعودي!) نجم، إذن، عن استشعار القلق من الفوضى التي قد تُدفع إليها البلاد بفعل الشلل أو بتخطيط وتدبير، مما ستكون إحدى نتائجه عدم القدرة على مواصلة جنى ثمار المحاصصة بالوتيرة السابقة. الرئيس بري كان الأكثر قرعاً لناقوس الخطر. حذَّر مرارا من مخاطر تعطيل المؤسسات والتسويات. الشعور هذا ينسحب على آخرين باستثناء العماد ميشال عون الذي يخوض معركته الأخيرة ولا احتياط لديه يسمح له بالمناورة أو التأجيل. بات العماد عون، في نظر حراس الصيغة السياسية الحالية للنظام، عبئاً لا يجوز الاستمرار في الرضوخ لتماديه : من هنا ولدت فكرة ترشيح فرنجية. من جهة ثانية، يمكن القول إن الجهات التي أطلقت المبادرة، وفي مقدمتها الحريري، ستكسب حتى لو لم تأخذ مبادرة ترشيح فرنجية طريقها إلى التنفيذ. انشطار تحالف 8 آذار هو أول المكاسب المتوقعة في حالتي التنفيذ أو عدمه. لا يخفى الآن حجم ما يواجهه حزب الله من إرباك، ولا ما يقوم من الجدران السميكة ما بين بري وعون، ولا ما استجدَّ من عداء وعدم ثقة بين عون وفرنجية... يمكن ملاحظة أن خسائر تحالف الثامن من آذار ستكون أكبر. الإشارات التي أعطاها المرشح فرنجية، خلال الأيام الماضية، دلت على استعداد واضح للعمل وفق اعتبارات جديدة وليس فقط وفق الاعتبارات القديمة وحدها. لا ينبغي نسيان أن الحليف السوري لفرنجية يمر في أزمة مستعصية. نفوذه تغيّر بطريقة دراماتيكية على المستويات كافة. هو يكافح الآن، بدعم من حلفائه، ليكون حاضراً في المشهد. استعادة دوره ونفوذه السابقين، محليا وإقليميا، الإقليمي من سابع المستحيلات. ليس هذا الكلام تعبيراً عن رغبة أو أمنية. إنه وصف لواقع مأساوي يعادل نكبة بكاملها لحقت بسوريا وبالعرب أجمعين! يمكن إدراج المبادرة الجديدة، في شق أساسي منها إذا، في سياق محاولات متنوعة لمقاومة الحركة المطلبية وقوى التغيير في البلاد: خصوصاً ما تطالب به فئات اجتماعية واسعة (الموظفون) والشباب وحركة النساء... توحّد متحاصصو البلاد الرئيسًييون في وجه الفئات المذكورة وسواها. استخدموا سلاح القمع والتجاهل والتعطيل... هم يحاولون الآن استعادة زمام المبادرة لتكريس النظام وتوازناته، من جهة، ولقطع الطريق على الحركة المطلبية والشبابية من جهة ثانية: أول الغيث قانون إنتخابي «لا يهمش إحدى الطوائف اللبنانية» كما أوضح فرنجية نفسه!! أما حركة الاحتجاج فهي تعاني، كما ذكرنا مراراً، من غياب الحاضنة السياسية ومن التشتت، رغم نجاحها في إزعاج قوى السلطة، وفي فرض بعض التنازلات عليها. رغم ذلك فالمبادرات المضادة، من موقع شعبي وسياسي موحد، باتت أكثر من ضرورية لعدم تمكين أطراف المحاصصة من الإستمرار في حرمان اللبنانيين من أن يكون لهم وطن حصين ومستقل ومستقر وموحَّد يليق بتضحيات وإنجازات أبنائه: تلك الإنجازات التي باتت مضرب مثل في حقلي المقاومة والإنفتاح. * كاتب وسياسي لبناني

0 تعليق

التعليقات