كتب الشيخ الدكتور محمد شقير، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، مقالة في جريدة «الأخبار» اللبنانية (17/ 6/ 2021) حول «جغرافية المسجد الأقصى والسردية الصهيونية». والمقالة تناقش ما ظهر أخيراً من كتابات تشير إلى أن موقع المسجد الأقصى المذكور في القرآن الكريم، وهو قبلة المسلمين الأولى، ليس هو هذا الذي نعرفه، وإنما هو موقع آخر موجود في منطقة «الجعرانة» قرب مكة المكرمة في الجزيرة العربية.المقال مهم، وتأتي أهميته من حقيقة أن من ذهب في الحديث عن المسجد الأقصى في هذا الاتجاه ليس فقط كتّابٌ صهاينة، وإنما أيضاً باحثون عرب أو مسلمون، ومثل هذا الحديث ليس جديداً لكنه يتجدّد بين حين وآخر.
كانت أولى هذه الكتابات صدرت عن المؤرخ الدكتور كمال صليبي في كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» الذي نُشر عربياً عام 1985 وقدّمت منه مجلة الشراع اللبنانية أجزاء عدة، وفيه أن التوراة جاءت من الجزيرة العربية، وليس من فلسطين، وأن ما ذُكر فيها من مواقع وأحداث وأسماء في التوراة لا علاقة له بفلسطين، وإنما هو موجود في جنوب غربي الجزيرة العربية باتجاه اليمن. وهذا يعني من وجه آخر أن ما ذُكر بشأن هذا الموضوع في القرآن الكريم، لم يكن على النحو الذي نعرفه. وكان مما قاده إلى هذه النتيجة إجراؤه مقارنات بين أسماء مناطق ذُكرت في التوراة بأنها في فلسطين، ولُقىً واكتشافات حملت أسماء متشابهة في تلك المنطقة من جزيرة العرب. وفي هذا المنحى ذاته قدّم الكاتب العراقي المقيم في هولندا «فاضل الربيعي» كتابه «فلسطين المتخيلة: أرض التوراة في اليمن القديم 1ـ2»، وواضح من عنوان هذا الكتاب بجزءَيه أن فلسطين وليس بيت المقدس فقط هي في مكان آخر غير التي نعرفها، وأنها في اليمن القديم، قرب صعدة، حيث تتوافق الأسماء والإشارات وتترتب الأحداث بما يدعم هذه النظرية.
ثم لحق بهذا النهج باحثون استندوا إلى مقاربات بنيت على أساس هذه «الاكتشافات»، وإلى قراءة معينة لنصوص في القرآن الكريم منها قصة نبي الله سليمان والهدهد.
واستهوت هذه النظرية كتّاب آخرون بدأوا يقتربون منها، بعضهم اقترابَ الحذر وآخرون اقتراباً متهتكاً، وإنك وأنت تقرأ بعضاً من هذه الكتابات أو تستمع إلى بعض المقابلات التي أجريت مع هؤلاء لتشعر بأن ما يقدم من معلومات وما يعرض من ترجيحات وما يصاغ من نظريات بهذا الشأن لا تقف خلفه روح الباحث، وإنما يُقدم لأغراض سياسية تفتقد للأمانة العلمية، وأن فيه اتكاءً على ضعف معلومات المتلقي واستهتاراً بعقله، وتحريفاً لوقائع وشواهد تاريخية قبل أن تكون نصوصاً دينية.
والحق أن كل حديث حول المسجد الأقصى الوارد في كتاب الله يجب أن يستند أولاً إلى ما جاء في كتاب الله، وما جاء في السنة النبوية، وكتب التاريخ الإسلامي، ومن ثم يأتي البحث والاستعانة بالمكتشفات والوثائق الأخرى، وأشير هنا إلى أهمية مراجعة مثل هذه الطروحات على ضوء ما اكتُشف ونُشر من مخطوطات تم اكتشافها في فلسطين والأردن على مراحل منذ نحو ثمانين عاماً أي منذ العثور على مخطوطات قمران في كهوف الطرف الشمالي للبحر الميت، وحتى إعلان هيئة الآثار في الكيان الصهيوني في 16 مارس 2021 عن اكتشاف لفائف قديمة للكتاب المقدس، وفي هذه المخطوطات المكتشفة نصوص بالعبرية والآرامية واليونانية، فضلاً عن أقدم نسخة معروفة من العهد القديم، وتقدم نصوصٌ منشورة من هذه الاكتشافات بعضَ أوجه الاختلاف في «التحريف»، في النصوص المقدسة التي انتقلت وتُرجمت لاحقاً إلى اللغات الأخرى، كما تكشف أثر الخلافات السياسية في الانقسامات العقدية التي وقعت بين فرق اليهود وفرق النصارى.
بالتأكيد لست من المختصين في البحث في هذه المخطوطات، لكن وجودها في «جغرافية فلسطين» التي نعرفها، يؤكد أن هذه الجغرافيا هي التي كانت المسرح الرئيس لليهودية والنصرانية، ومنها انطلقت إلى أنحاء مختلفة من العالم.
وأول ما يجب أن ننحيه جانباً ادعاء بعض هؤلاء الباحثين أن تأكيد علماء الحديث والمؤرخين بأن المسجد الأقصى الوارد في كتاب الله هو المسجد الموجود في القدس إنما تم في إطار الصراع السياسي، ولم يكن تأكيداً للحقيقة نفسها، وذلك لأن مثل هذا الادعاء لا أساس تاريخياً له، حيث إن كل تأكيد من علماء الحديث والمؤرخين المسلمين بهذا الشأن تم قبل أن يقع أي صراع بشأن القدس والمسجد الأقصى، سواء مع اليهود أو مع الفرنجة، وأن تفسير الآيات التي ذُكر فيها المسجد الأقصى يذهب كله إلى بيت المقدس، وليس هناك في كل ما كتبه علماؤنا فرق بين بيت المقدس والقدس والمسجد الأقصى، حتى يذهب بهم الشطط إلى القول بأن المسجد الأقصى هو مسجد آخر موجود في منطقة الجعرانة في جزيرة العرب، على نحو ما ذكره «يوسف زيدان» في أحاديث ومقابلات، واعتباره أن ما ورد في العهدة العمرية من ذكر إيلياء وليس بيت المقدس أو المسجد الأقصى دليل على الأقصى والقدس في موضع آخر غير فلسطين التي نعرفها، وقد أبدى زيدان تصميماً عجيباً في طرح هذه الرؤية، وفي التوكيد على قطعية صحتها، ولو أنه تفكر قليلاً في ما يقول ويكتب في هذا الجانب، لتنبه إلى أن العهدة العمرية تتحدث عن مدينة إيلياء / بيت المقدس باعتبارها نطاقاً جغرافياً للسيادة المحلية المسيحية التي أرادت العهدة العمرية أن تحفظ لها خصوصيتها.
ثم إن الحديث عن مسجد الجعرانة باعتباره المقصود بالمسجد الأقصى في كتاب الله حديث ضعيف بل متهالك، وهو في عمقه لا يختص بتحديد موقع «المسجد الأقصى»، أي لا يختص بالجغرافيا، وإنما يصيب التاريخ بالتتابع قضايا عقدية عديدة، فهو يستلزم إعادة النظر في قول الله تعالى: «قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره ...». فإذا كانت الصلاة سابقاً كانت تتجه إلى مسجد الجعرانة، فإن تحولها إلى المسجد الحرام، لا يستلزم «التحول»، فكلا المسجدين «الجعرانة والحرام» هما في الاتجاه نفسه بالنسبة إلى أهل المدينة، أي المسلمين حين نزلت آية تحويل القبلة، وبالتالي لا يكون هناك معنى لهذه الآية.
أما قول «زيدان» بوجود مسجد الجعرانة حين نزول آيات سورة الإسراء فهو قول لا دلالة عليه، بل إن كل الدلائل تدحضه، إذ أن الإسراء بالرسول الكريم كان وهو في مكة، والمسلمون في ضيق وكرب، ودعوتهم محاصرة من كل جانب، ولم تكن قد فُرضت الصلاة عليهم، فكيف لهم أن يقيموا مسجداً في الجعرانة على مسافة عشرين كيلومتراً شمال شرق مكة المكرمة. ومن أقام هذا المسجد؟، هل الرسول صلى الله عليه وسلم الخارج من مكة، بعد أن ضاقت به وبدعوته، بحثاً عمن ينصره في «الطائف»، أليس هذا رأياً مخالفاً لطبيعة الأشياء، ومناقضاً للظرف المحيط برحلته إلى هذه المدينة.
والجعرانة قرية نزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من غزوة حنين في الثامنة للهجرة، وفيها وزّع الغنائم بعد انتصاره على ثقيف وحليفتها هوازن. ممكن أن يقال إن رسول الله بنى مسجداً في هذه القرية في ذلك الوقت، وقت توزيع الغنائم، وهو وقت راحة واستقرار وانتصار وانتشار للإسلام، أما القول بأن «محسنين من المسلمين» أقاموا المسجد في الجعرانة وقت رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وأن هذا المسجد هو المقصود بـ»الأقصى» الذي ذكرته سورة الإسراء ـ وهو قول زيدان ـ فهو منطق عجيب وإصرار معيب.
والجعرانة الآن هي حد الحرم المكي من الجهة الشمالية الشرقية لمكة المكرمة ومنها يعتمر أهل مكة، أي أنها الآن جزء من مكة.
ثم لنا أن نسأل: هل أحد من المؤرخين المسلمين ذهب إلى مثل هذه الآراء والتفسيرات، هل هناك مؤرخ قال إن الإسراء كان إلى الجعرانة!.
الدكتور شقير نبه ـ في مقاله ـ إلى خطورة الاستثمار السياسي لمسألة إعادة النظر في جغرافية المسجد الأقصى، وهذا تنبيه مفيد ولا شك، لكن القضية تمتد إلى أبعد من مسألة الاستغلال السياسي، إذ يستدعي هذا الأمر إعادة النظر في العديد من المسائل الدينية، وكلها تأتي في مسار محاولات الإغارة على الدعوة الإسلامية من جذورها.
** هل كانت حادثة الإسراء والمعراج حقيقية أم أنها مجرد اختلاق لا أساس تاريخياً له؟.
الحديث عن مسجد الجعرانة باعتباره المقصود بالمسجد الأقصى في كتاب الله حديث ضعيف بل متهالك، وهو في عمقه لا يختص بالجغرافيا


** وإذا كانت حادثة الإسراء في الحدود التي يقول بها هؤلاء فما معنى أن يمنّ الله على رسوله بها في قوله تعالى: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير» الإسراء/ 1، والذهاب إلى الجعرانة والعودة منها ليس بالأمر العسير على أي أحد. في حين أن الرحلة الى بيت المقدس تحتاج إلى شهر.
** هل فُرضت الصلاة على المسلمين خلال رحلة الإسراء والمعراج، أم أن مثل هذا القول غير حقيقي. وقد ورد في كتب التفسير والأحاديث أن فرض الصلاة تمّ في ليلة الإسراء والمعراج، يقول القرطبي: وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فُرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فُرضت بمكة ليلة الإسراء حين عُرج به إلى السماء، وذلك منصوص عليه في الصحاح، وغيره.
** هل يبقى هناك معنى للآيات التي تتحدث عن تحويل القبلة، وأن هذا التحويل جاء متوافقاً مع تطلع رسول الله وتقلب وجهه في السماء طلباً لهذا التحول؟ وكيف أن القبلة التي تم التحول إليها أي «الكعبة المشرفة» هي غير قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى؟.
** ثم ما هي الأرض التي بارك الله بها حول «الجعرانة»!. وما هي الآيات التي أراها الله نبيه في رحلته إلى الجعرانة!. وما قيمة «الجعرانة موقعاً ومن ثم مسجداً» حتى ينسب الله البركة إليها وبسببها يجعل ما أحاط بها مباركاً.
** وأخيراً ما الصلة بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل من جهة، وبين الجعرانة والأرض المباركة حولها والتي وعد الله بني إسرائيل بدخولها إن هم أخلصوا في اتباعهم موسى عليه السلام.
إن المحور الرئيس لسورة الإسراء والتي لها عند المسلمين اسم آخر هو سورة «بني إسرائيل» يصبح غير ذي معنى حينما نذهب في تفسير إشاراتها وأحداثها هذا المذهب، وينسحب هذا الحكم على سور وآيات أخرى كثيرة في كتاب الله.
وفي مجمل القول يصبح السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه هنا وفي مواجهة كل هذا المنطق الذي يطرحه هؤلاء: هل القرآن الكريم «كتاب الله» حقاً، المحفوظ الذي لم يخالطه باطل، أم أنه مجرد كتاب للمسلمين؟.
ويستتبع ذلك التساؤلُ ما إذا كان هذا الكتاب «القرآن الكريم»، هو فعلاً ما تركه لنا «النبي محمد صلى الله عليه وسلم» أم أنه ـ كما توحي كتابات هؤلاء ـ ما آل إليه «كتاب محمد» بعد أن أدخل عليه اللاحقون إضافات وتغييرات عدة.
هذه الأسئلة التي نطرحها من وحي ما تحرض عليه تلك الكتابات والتصريحات ليست من قبيل الشطط، فقد سمعنا مثلها عبر «مقاطع فيديو» انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي جميعها تتكئ مباشرة أو بطرق ملتوية على مثل هذه الحجج الواهية. لننظر الآن في بعض ما قاله علماؤنا ومؤرخونا بشأن المسجد الأقصى، وبشأن حادثة الإسراء والمعراج.
يقول القرطبي في تفسيره: «ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، فهو من المتواتر بهذا الوجه»...... وقال ابن إسحاق «أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة في القبائل». وقال الطبري في تفسيره: «إلى المسجد الأقصى» يعني مسجد بيت المقدس.
وسُمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة ثم قال: «الذي باركنا حوله» قيل بالثمار وبمجاري الأنهار، وقيل بمن دُفن حوله من الأنبياء والصالحين.
وقد جاء في صحيحَي البخاري ومسلم حديث عن رسول الله يشير إلى أن المسجد الأقصى هو ثاني مسجد يُبنى لعبادة الله على الأرض بعد المسجد الحرام «البخاري 3366، مسلم 520 «.
ومن تكريم الإسلام للمسجد الأقصى أن جعله الله ثالث مسجد تُشد إليه الرحال طلباً للثواب، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى.
وذكر الزركشي في «إعلام الساجد بأحكام المساجد» سبعة عشر اسماً للمسجد الأقصى منها: الأقصى، وإيلياء، والقدس، والبيت المقدس، وأورشليم، وبيت إيل ... الخ.
والذي يراجع تاريخ بيت المقدس سيطالع الكثير من الإسرائيليات، وكلها ذكرها العلماء وأشاروا إلى أنها من الإسرائيليات، أي أن مصداقيتها مشكوك فيها.
والمسجد الأقصى المقصود تبلغ مساحته 144000 متر مربع ويشمل قبة الصخرة والمسجد القبلي والمصلى المرواني ومصلى باب الرحمة ومعالم عدة يصل عددها إلى نحو 200 معلم، كلها تقع فوق هضبة صغيرة تسمى هضبة موريا وتُعد الصخرة أعلى نقطة فيه وتقع في قلبه، والذي يريد التعرف أكثر على المسجد الأقصى فإن هذا متاح وبيسر.
وأختم هذا التعليق بالإشارة إلى أن كل ما يُنشر ويقال في هذه المرحلة بشأن المسجد الأقصى لا يأتي في إطار أبحاث تاريخية آثارية «أركيولوجية»، ولا يأتي في إطار عقلنة الصراع أو علمنته كما يزعم البعض، إنما يأتي في إطار محاولات لا تتوقف وجهود لا تفتر لفك الارتباط بين القدس والمسلمين، وبين المسجد الأقصى والعقيدة الإسلامية، بعد أن تبيّن للجميع عمق هذه العلاقة وأثرها في تحصين الأمة تجاه كل محاولات التفريط بالقدس وبأرض فلسطين، وبعد أن تبين أن قدسية هذه العلاقة تساهم مساهمة فعّالة في شد عرى الأمة وتعزيز موقف المقاومة والصمود فيها، وتدعم هذا الموقف بزخم واسع النطاق يمتد ليشمل العالم الإسلامي كله.
واستناداً إلى هذه الملاحظة فإنه من المنظور الديني والعلمي على السواء يجب أن يكون موقفنا جازماً بدحض كل قول يريد أن يطعن في قدسية القدس والمسجد الأقصى وفلسطين، وبكشف تهافت مثل هذا الادعاء.
ولقد كان مهماً تنبيه الدكتور شقير إلى غرض الدعاية الصهيونية من الترويج لمثل هذا الادعاء، لكن هذا التنبيه كان يجب أن يصاغ بعبارات جازمة لا تحتمل تأويلاً، فليس الموقف من قضية القدس وبيت المقدس والمسجد الأقصى أمراً يستند إلى التراث كما أوحت مقالة الدكتور شقير، وإنما هو موقف يستند إلى الدين والعقيدة وكتاب الله، وهذا هو الأساس، ومن هذا المدخل دخلت قضية الأقصى إلى التراث الفقهي والتاريخي لأمتنا. ولأنه كذلك كانت له تلك الأهمية في وجدان وضمير الأمة.
الباحثون في تراثنا يعلمون أن في كتب التراث روايات متعددة للحدث الواحد، وقد عُرف الإمام الطبري وهو فقيه وصاحب مذهب، أنه في تاريخه كان يعرض الروايات المتعددة للحدث الواحد ثم إذا رأى ترجيحاً فيها أشار إليه، وكان في عمله هذا متوخياً أن لا يكتم خبراً وصله، ولا يخفي أثراً أو حدثاً من أحداث التاريخ تعرف إليه، حتى ولو كانت صحته مشكوكاً فيها، فهل فيما سجله علماؤنا الأوائل محدثين ومؤرخين ـ الواقدي (ت 207 هجري) في المغازي وفتوح الشام، وابن سعد (ت 230 هجري) في الطبقات، والطبري (ت 310) في التفسير وفي تاريخه، وأئمة الحديث، من أحداث التاريخ ما يدعم بحق قول هؤلاء فيما يخص بالمسجد الأقصى وحادثة الإسراء والمعراج وواقعة تحويل القبلة، ومسجد الجعرانة، وسيرة نبي الله موسى ... الخ وما يتصل بكل هذا من وقائع؟!.
يجب أن نكون على قناعة تامة بأن قول الداعين إلى مراجعة جغرافية المسجد الأقصى والقدس لا يستند إلى علم أو إلى رأي علمي، وبالتالي لا قيمة علمية لما يقولون.
ولو كان لقول هؤلاء نصيب من الحقيقة والعلم، لكان واجباً علينا الأخذُ به، وإعادة صياغة قناعاتنا بناءً عليه، أو على ما فيه من علم وحقيقة، ذلك لأنه في مذهبنا: الحق أحقّ أن يتبع، وقد قال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» المائدة /8.
وقد يتساءل البعض عن حاجتنا إلى إثبات قدسية القضية الفلسطينية مدخلاً للدفاع عنها ولمقارعة المحتل الإسرائيلي.
والحق فإن مواجهة الاحتلال لا تحتاج إلى «قدسية خاصة»، فللوطن -أي وطن- قدسية تفرض الدفاع عنه في مواجهة أي اعتداء، وفي مواجهة كل محتل، كذلك فإن لمواجهة نظام الفصل العنصري قدسية تفرضها كرامة الإنسان وحقوقه الإنسانية، وكمثالٍ تحققت هذه القدسية في حرب تحرير الجزائر وفي غيرها من حروب التحرير حيث تجتمع الأمة لمحاربة المحتل، كما تحققت في مواجهة الكيان العنصري في جنوب أفريقيا وفي مواجهة أمثاله حيث تعاضدت الإنسانية مع مواطني جنوب أفريقيا للخلاص من نظام الفصل العنصري الذي كان يتحكم بحياة الناس هناك.
وفي الكيان الصهيوني يتحقق المعنيان السابقان: الاحتلال، ونظام الفصل العنصري، وبالتالي فإن لفلسطين هذه القدسية العامة.
هذا صحيح، لكن لفلسطين قدسية أخرى أعمق مدى وأعظم أثراً، قدسية أخص، تحدث عنها القرآن الكريم على وجه التحديد، وجعلها أمانة ليس فقط في عنق أبناء فلسطين، أو أبناء الأمة العربية، ولكن أيضا أمانة في عنق المسلمين كافة، أي قدسية عقدية دينية، ومثل هذه القدسية هي المستهدفة بمثل هذه الكتابات أو المراجعات، وهي ما يجب مواجهته بقوة، وبحسم منهجي فكري وعقدي.
القدس والمسجد الأقصى جزء من عقيدتنا، ومكوّن مهم في بنية قرآن ربنا الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بلاغاً للناس كافة، وأيّ محاولة للطعن في هذا الجانب إنما هي في حقيقتها طعن في الإسلام والقرآن وفي تكوين هذه الأمة وتاريخها.
* باحث سوري