أتمَّت إيران استحقاقها الانتخابي الرئاسي الثالث عشر في ظل ظروفٍ داخليةٍ معقدةٍ، فالإيرانيون يعانون ظروفاً اقتصادية صعبة بسبب الحصار الخانق والجائر المفروض عليهم منذ أربعة أعوامٍ ونيِّفٍ، فيما سُمي «سياسة الضغوط القصوى» التي بدأها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ناهيكم بظروف وباء «كوفيد-19» وآثارها السلبية على كلٍّ من الاقتصاد والحياة الاجتماعية على حدٍّ سواء.ومن ناحيةٍ أخرى، فقد كانت حالة الاستقطاب بين المعسكرين «المحافظ» و»الإصلاحي» في هذه الانتخابات على أشدّها، وزادت بعض قرارات «مجلس صيانة الدستور» الطين بلة، إذ رفضت ترشيح شخصيات إيرانية مرموقة على غرار علي لاريجاني من «التيار المحافظ» وأسماءٍ أخرى بارزة من «التيار الإصلاحي»، تلك القرارات التي لم تلقَ شعبيةً واسعةً بين العديد من الناخبين، حتى إن المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي أبدى في كلمةٍ علنيةٍ شيئاً من الانتقاد لتلك القرارات، ولا سيما قرار استبعاد علي لاريجاني من السباق الرئاسي رغم عدم تسميته صراحةً.
ويضاف إلى كل هذه الأجواء ما صاحَب الانتخابات من حملاتٍ عدائيةٍ معتادةٍ ترمي إلى تشويه الانتخابات الإيرانية، حملات يشنها معسكر أعداء الشعب الإيراني من القوى الغربية بالتعاون مع أدواتِها الإقليمية، حيث سُخِّرَت - حسب بعض الإحصاءات - قرابة 250 قناة ناطقة باللغة الفارسية للتحريض على مقاطعة الانتخابات على مدى الستة أشهر الماضية، ناهيكم بعديد المواقع الإلكترونية التي واظبت على بث الرسالة ذاتها، وقد تساوقت مع هذه الدعوات بعض الأسماء ذات الحيثية في المشهد السياسي الإيراني مثل الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، الذي دعا الجمهور صراحةً لمقاطعة الانتخابات الرئاسية.
برغم كل هذه الظروف المعقّدة مجتمعةً، وبرغم مراهنة الخارج على انخفاض نسبة الإقبال الشعبي، حيث راهن الغرب على انخفاض نسبة الإقبال إلى مستويات تُراوح بين 23% فقط و37% في أكثر المراهنات سخاءً. لقد تم إجراء الانتخابات بنجاحٍ، ووصلت نسبة المشاركة الشعبية إلى قرابة الـ 50%، صحيحٌ أن هذه النسبة أقل من المعدل الإجمالي للانتخابات السابقة التي تُقدر بنحو 73%، لكنّ هذه النتيجة تظل جيدةً جداً ضمن الظروف المذكورة، ولقد عدَّتْها الجمهورية الإسلامية بحقٍ انتصاراً ولو كان بشقّ الأنفس، وقال المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي فيها: «لقد شكَّلت مشاركة الشعب الإيراني في الانتخابات صفحةً مشرقةً أخرى لأمجاد الشعب الإيراني»، وعَدّ المرشد الأعلى هذا فوزاً «للأمة الإيرانية» التي استطاعت مواجهة «الدعاية الإعلامية للأعداء».
وأما الأمر الأهم في نتيجة هذه الانتخابات - بعيداً عن كل هذا الجدل - فيتمثل في ما يعنيه فوز رئيس السلطة القضائية السيد إبراهيم رئيسي، وفي نسبة توزيع الأصوات بين المتنافسِين نجد أن رئيسي قد حصل على 17،926،345 صوتاً بفارقٍ كبيرٍ عن باقي المرشحِين، تلاه قائد حرس الثورة الإسلامية السابق، اللواء محسن رضائي من معسكر «المحافظين»، الذي حصل على 3،4 ملايين صوت، يليه عبد الناصر همتي من معسكر «الإصلاحيين» الذي حصل على 2،4 مليون صوت، وجاء في نهاية السباق السيد أمير حسين غازي زاده الهاشمي من «المحافظين» الذي حصل على نحو مليون صوت، وبهذا يكون معسكر «المحافظين» بمُرشَّحيه الثلاثة: رئيسي ورضائي والهاشمي قد حصد بالمجمل أصوات السواد الأعظم من الناخبين.
يمكننا الخُلوص من نسبة توزيع الأصوات إلى تأكيد الناخب الإيراني على تمسكه بأسس ومبادئ الثورة الإسلامية وخط الولي الفقيه السيد علي الخامنئي، وكذلك إشاحة غالبية الناخبين الإيرانيين وجوههم عن «الإصلاحيين» بعد تجربة الرئيس المنتهية ولايته الشيخ حسن روحاني، وبحسب مطلعين على الشأن الإيراني، فإن الخط الذي يمثله السيد إبراهيم رئيسي هو خطٌّ جديدٌ يسمى تيار «حزب الله الثوري» في الداخل الإيراني، وهذا التيار يمثل امتداداً لمدرسة المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي، الذي يشكِّل «خطاً واصلاً بين إيران الداخل وبين الامتداد العقائدي الخارجي»، ونشير هنا إلى أن النشرة التي تصدر عن «مؤسسة الثورة الإسلامية للثقافة والأبحاث» التابعة للسيد علي الخامنئي تُعنوَن «خط حزب الله». ويطرح هذا تساؤلاً في ما إذا كان وصول إبراهيم رئيسي إلى منصب رئاسة الجمهورية يؤذن بميلاد تيارٍ جديدٍ في المشهد السياسي الإيراني، يكون أكثر راديكاليةً وتمسكاً بثوابت الثورة الإسلامية، ويعتمد على وجوهٍ شابةٍ يمكن أن تجد فيها شريحة الشباب الإيراني نفَساً أكثر ثوريةً وحيويةً من المعسكرين التقليدييْن «المحافظ» و»الإصلاحي»، ولعل هذا ما قصده السيد علي الخامنئي حينما قال: «إن حكومة حزب الله الفَتِيَّة هي العلاج لمشاكل البلاد، أنا كما أكدت من قبل في العام الماضي، وقد ذكرت مراراً وتكراراً من قبل، أنا أؤمن بالحكومة الفَتِيَّة وحزب الله، وآمل في ذلك» في كلمةٍ متلفزةٍ ألقاها في 17 آذار 2021.
هذا في المشهد الإيراني الداخلي، أما في السياسة الخارجية، فكون إبراهيم رئيسي يُعد من صقور الثورة الإسلامية وقريباً من المرشد الأعلى، فيُعتقَد أنه على إدارة الرئيس جو بايدن عدم الرهان على تنازلات في المحدِّدات التي وضعها المرشد الأعلى للعودة إلى الاتفاق النووي، والتي تنص على وجوب رفع الولايات المتحدة الأميركية كلَّ العقوبات الجائرة التي فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على إيران - لا مجرد تعليقها - قبل العودة إلى الاتفاق النووي، فعلى الأميركي الاختيار بين القبول بالمحدِّدات الإيرانية المشروعة، أو ستكون إيران حينها في حلٍّ من التزاماتها النووية المنصوص عليها في «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ولا سيما في غياب أي مؤشرات على استعداد الولايات المتحدة الأميركية للإقدام على مغامرةٍ عسكريةٍ في منطقة غرب آسيا تجبر بها إيران على الرضوخ عنوةً، وذلك بسبب ميزان القوى الحاكم الراهن، بالإضافة إلى الوضع الدولي والإقليمي المختلف نوعياً عما كان عليه مطلع القرن الحالي.
أما حلفاء إيران في الإقليم، فلا شك أنهم يشعرون بالارتياح لنتائج الانتخابات الإيرانية، كون إبراهيم رئيسي على الراجح سيكون أشد جذريةً في دعم حركات المقاومة في منطقتنا، وذلك بما يتسق مع تاريخه وعقيدتِه السياسية المنسجمة مع فكر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، ومع فلسفة حكومة «حزب الله الثورية»، ولا سيما أن انتخاب إبراهيم رئيسي جاء غداة إعادة انتخاب الرئيس السوري بشار الأسد لدورةٍ رئاسيةٍ جديدةٍ.
ولكن طبعاً لا نُغفِل حجم التحديات الداخلية الكبيرة التي تنتظر حكومة إبراهيم رئيسي، سواءً أكانت العمل على تخطي الوضع الاقتصادي الضاغط في الداخل، أم التعامل مع تبعات جائحة «كوفيد-19»، أم تلبية طموحات الشباب الإيراني الذي بات يعاني نسب بطالةٍ مرتفعة.
وفي الخُلاصة، يبدو أن تولي الخط الذي مثَّلَه الرئيس الإيراني السابق الشيخ حسن روحاني لمقاليد الحكم كان في مرحلةٍ تقتضي الكثير من الدبلوماسية، حينما كان يتصدر المشهد التعويل على عقد اتفاقيةٍ نوويةٍ مع الولايات المتحدة الأميركية، أما اليوم فإيران والعالم يعيشان مرحلةً مغايرةً، وذلك على وقع الإخفاقات الأميركية في العَقْد المنصرم في عدة ساحات في منطقتنا والعالم، وما يعانيه الاقتصاد الأميركي من أزماتٍ بفعل العامل المسَرِّع «كوفيد-19»، وهناك الصعود الصيني كَـ «مركز قوة» عالمي جديد ذي اقتصادٍ متنامٍ باطّراد، وتثبيت روسيا لمركزها بصفتها دولةً ندّاً للولايات المتحدة الأميركية على الساحة الدولية، ناهيكم بالآثار الجيوسياسية المترتبة على دخول إيران مع الصين في اتفاقية إطار شراكة استراتيجية للـ25 سنةً القادمة، وهذا الوضع المغاير إقليمياً ودولياً يلزمه وجوهٌ جديدةٌ وسياساتٌ مختلفةٌ، تكون أكثر استعداداً للمواجهة وأقل تطلعاً نحو الغرب، فهل يشكِّل إبراهيم رئيسي حكومة «حزب الله الثورية» من أجل مقارعة القوى الاستعمارية إقليمياً ودولياً؟
يبدو ذلك، ففريق إبراهيم رئيسي من أولئك الذين لا يؤمنون بالتفاوض مع أميركا ولا يجدون فيه أي مصلحةٍ تُرجى، ويُفَضلون توثيق العلاقات مع الدول التي تُشاطِر إيران النزعة الاستقلالية كالصين وروسيا، ويكفي النظر إلى المرشح المنسحب من السباق الرئاسي سعيد محمد الذي يُتوقع أن يَشغَل منصب نائب الرئيس في حكومة إبراهيم رئيسي، والذي يدعو إلى تخصيب اليورانيوم على نسبة نقاء 90% رداً على التعنّت الأميركي، ولا ننسَ أنّ من أهم إستراتيجيات المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي التي أعلن عنها هي إخراج أميركا من منطقة غرب آسيا، وتعزيز فكرة الاقتصاد المقاوم، ولا بد أن هذين الأمرين سيشغلان حيزاً رئيسياً في سياسات رئيسي وحكومته حسب ما نعلم من توجهاته.
لعلها إذاً مرحلة مواجهاتٍ مقبلةٍ إقليمياً ودولياً مع قوى الاستكبار العالمي من موقع قوةٍ، وربما كان الكيان الصهيوني أول المستشعرين لهذه المرحلة عندما قال: «انتخاب رئيسي لا يُبقي أمام «إسرائيل» سوى إعداد خططٍ لمهاجمة النووي الإيراني».
* كاتب وباحث سياسي