ظاهرة المسيحية المقاتلة في سوريا لا تعني أن حربها أصبحت طائفية أو أنها باتت تشبه مثيلتها في لبنان أيام حربه الطويلة. يرى بعض أنّ ما حدث في لبنان في حروبه الأهلية من استقطاب طائفي وعسكرة للمذاهب، يتكرّر اليوم في سوريا وأنه يمكن توصيف ما يحدث في سوريا على أنّه «حرب أهلية»، وأنّ «الحزب السوري القومي الاجتماعي» في سوريا بات حزب المسيحية المقاتلة الرئيسي هناك كما كان «حزب الكتائب اللبنانية» هو «حزب المسيحية المقاتلة» في لبنان.

تطرح ظاهرة المقاتلين المسيحيين علامات استفهام حول مسار الحرب السورية واحتمال «تطييف» سوريا (استعارة من المعجم اللبناني) وجرها إلى «اتفاق طائف سوري» ونظام طائفي مقيت.
نؤكد أولاً أنّ ثمّة فارقاً بين الدين والمذهب، وهنا بيت القصيد في مقارنة حال مسيحيي البلدين. وبداية، فإنّ السوريين ينفون أنّ ما يجري في بلدهم هو حرب طائفية. وهو نفي في مكانه لأنّ السوري نشأ على تربية وطنية وتلقين عقائدي على مدى عقود، فاختلف عن شقيقه المواطن اللبناني الذي نشأ داخل دويلات الطوائف المقاتلة والمتصارعة. ذلك أنّ في لبنان فدرالية طوائف مكتملة هي كيانات سياسية لا ينقصها سوى السيادة لتصبح دولاً، وهي تستعمل الدين كقشرة وتتصرّف كقوى أمر واقع. فهي تمتلك مؤسسات تربوية وصحية وتعليمية واجتماعية ووسائل إعلام مرئي ومسموع ومكتوب، ولها تاريخها الطائفي الخاص بها وتفسيرها الخاص لتاريخ لبنان ولها «حكومتها» الذاتية من رجال سياسة وزعماء وإقطاع، ولها «اقتصادها» ومناطقها الجغرافية، وأخيراً لها محاكمها الشرعية وأنظمتها التي تتحّكم بحياة البشر من المهد إلى اللحد.
حتى إذا ما رغب أي مواطن الخروج من قبضة طائفته الحديدية لما استطاع. وعندما يزور اللبناني مطرانية بيروت للروم الأرثوذكس أو مطرانية بيروت للموارنة أو المحكمة الجعفرية للشيعة أو دار الإفتاء للسنة، وهي زيارة تتعلّق إجمالاً بوضعه العائلي، سيدرك فوراً أنّه يتعامل مع بيروقراطية تتحّكم بولادته وموته وزواجه وطلاقه وأطفاله وميراثه... الخ.
أمّا الدين والتدّين الروحي فهو في مكان آخر دوره شدّ عصب الجماعة ليس أكثر.
فهل توجد مثيلات للدويلات الطائفية اللبنانية في سوريا؟
في الحقيقة لا. فدولة البعث ومن قبلها أنظمة الانقلابات العسكرية في سوريا من 1949 إلى 1963 عملت تأميماً في الاقتصاد وفي مؤسسات الطوائف وفي علمنة الدولة والمجتمع حتى بقي القليل من مؤسسات الطوائف كالمدارس، وفقدت الطوائف في سوريا قواعدها الاقتصادية ومقدرتها على الحشد والاستقطاب. وبقي أن نقول كلاماً واضحاً حول سوريا إنّ حربها الحالية عكست تمذهباً محدّداً دعمته دول عربية، وهو تمذهب يدور حول أحقية الغالبية المسلمة السنيّة والتي تمثل ثلاثة أرباع السكان بأن تحكم سوريا مستقبلاً. وجماعة «الإخوان المسلمين» هي من تجليات هذا التمذهب السوري منذ ظهورها المسلّح على الساحة السورية عام 1964، مروراً بالسبعينيات ومعركة حماه عام 1982، وأخيراً منذ اندلاع الحرب عام 2011. وتمظهر هذه الجماعة في أشكال وتنظيمات مختلفة كالنصرة وداعش وأخواتها وامتدادات سلفية أيضاً. وهي إنما تريد أن تفرض دكتاتوريتها على السوريين المنخرطين في المدنية السورية (وخصوصاً إذا كانوا من السنة) رغم أنفهم.
ماذا عن الطوائف الأخرى في سوريا؟
بالنسبة للطائفة العلوية (10 إلى 14 في المئة من السكان) والطائفة الدرزية، فقد تقاطعت مصالح هاتين الطائفتين مع دولة البعث العلمانية، مقارنة بالعهود السابقة وبقرون الحكم التركي، ولكنّهما لم تشكّلا كيانية مذهبية كما هي حال السنة والشيعة والموارنة والدروز في لبنان، وليس ثمّة مؤشرات أنّهما فاعلتان ذلك.
وهناك مسيحيو سوريا الذين يتبعون في شقّهم الأكبر عددياً بطريركية الروم الأرثوذكس. وهؤلاء كما حال الروم الأرثوذكس في لبنان لم يسيروا نحو التطييف السياسي، ولم تنضح عنهم مظاهر دولتية كما هي حال الشيعة والموارنة والسنّة والدروز في لبنان. بل كانوا الأكثر انضماماً نسبيّاً إلى أحزاب ذات طابع علماني كالبعث والقومي والشيوعي، بل كانوا من رواد ومؤسسي هذه الأحزاب في البلدين (ميشال عفلق وأنطون سعاده).
وعلى هذا الأساس يأتي التساؤل حول أنّ أي من التنظيمات المسيحية في لبنان لم يطرح الدعوة القتالية «لنجدة المسيحيين في سوريا»، خلافاً للشيعة والسنّة اللبنانيين المنخرطين في الحرب السورية منذ لحظتها الأولى. وهنا يجب التمييز بين موقف الموارنة وموقف الروم الأرثوذكس في لبنان. فإذا كان معظم مسيحيي سوريا هم من الأرثوذكس، فليس في لبنان دويلة أرثوذكسية توعز لعسكرها لنجدتهم كما فعلت دويلات السنة والشيعة.
ولأن معظم مسيحيي سوريا هم من الأرثوذكس، لم تجد المارونية اللبنانية المقاتلة دافعاً عميقاً، لا الآن ولا في الماضي، للتدخّل في حرب لا علاقة مباشرة لها بها. ذلك أنّ لبنان الكبير رُسمت حدوده عام 1920 لتضم سكان المشرق من أتباع روما (الموارنة والروم الكاثوليك). فكان تحصيل حاصل أنّ الجمهورية السورية الوليدة ضمّت معظم الروم الأرثوذكس ولكن بأعدادِ ضئيلة من الموارنة. وثمّة عبرة تاريخية في أنّ نُخبَ لبنان الوليد لم تُصرّ على ضم وادي النصارى وبعض نواحي حمص المسيحية.
وعلى المستوى الثاني، فإنّ المارونية المقاتلة في لبنان كانت منذ خمسين عاماً مناهضة لسوريا (منذ حرب لبنان 1958 ولكن خصوصاً منذ عهد الرئيس حافظ الأسد ودور سوريا في أوساط السبعينيات). فموقف المارونية المقاتلة من الحرب السورية اليوم هو ليس «نجدة مسيحيي سوريا» بل المساهمة قدر الإمكان في إسقاط دولة البعث بصرف النظر عمّن سيحكم هناك فيما بعد. وهو تقاطع مصالح جهنمي إذ يراهن التطرّف المسيحي في لبنان على فوز التطرّف الإسلامي في سوريا.

حرب لبنانية داخل سوريا

يعني كل هذا أنّ التمذهب والوعي للكيانية الطائفية في سوريا (أي السير نحو دويلات الأمر الواقع كما في لبنان) قد ينطبق على قسم من السنّة بشكل كبير وعلى قسم من العلويين إلى حدّ ما (حسب مآل الحرب)، ولكن ليس على مسيحيي سوريا. فليس من يتصوّر أن تنتهي الحرب في سوريا فيسعى «الحزب السوري القومي الاجتماعي» ومَن معه من جماعات «مسيحية مقاتلة» إلى مأسسة الطوائف المسيحية لتصبح دويلة أمر واقع كما هي حال المارونية السياسية في لبنان (تيار وحزب وقوات ومردة).
* أستاذ جامعي ـ كندا