التمييز بمختلف أشكاله، ولا سيما التمييز العنصري، سبب مباشر لغرق المجتمع في دائرة مفرغة من النزاعات والعنف. وإن كانت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان قد عرّفت التمييز العنصري بأنه التفضيل الذي يقوم على أساس العرق أو النسب أو الأصل القومي، ويستهدف عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية وممارستها في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة، فالناس، في حياتهم اليومية وعلاقاتهم في ما بينهم، لا تستوقفهم المفاهيم والتفسيرات. بالنسبة إليهم، إنّ التعرّض للتمييز هو معاناة إضافية تندرج على لائحة أوجاعهم اللامتناهية، تعمّق مآسيهم، وقد تعيق مساعيهم لتحصيل العيش الكريم، بل للبقاء على قيد الحياة. إنّ لجوء مئات آلاف السوريين إلى لبنان هرباً من الحرب في سوريا، معطوفاً على استفحال الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية في لبنان، قد زادا، في أحيان كثيرة، حجم التباين الواقع بين لبنانيين وسوريين على خلفيات علاقات تاريخية متشنّجة بين البلدين والشعبين. حتى إنّ وجود السوريين القسري في لبنان قد عمّق هذا التباين وحوّله، في مناطق مختلفة، إلى نزاعات متفاقمة.
لكن، في المقابل، نشأت مبادرات، لا ترقى بالضرورة إلى مصاف السياسات الكبرى والبرامج المعقّدة، لإزالة أسباب التوتر، بل أكثر من ذلك، لتوثيق أواصر العلاقات بين اللاجئين وبيئتهم الحاضنة. إنها أعمال بسيطة أثبتت فعاليتها في التصدّي لظاهرة التمييز العنصري، فنجحت في التخفيف من آثاره السلبية من خلال مساعدة المتضرّرين ونشر التوعية وبان عمق تأثيرها في نفوس الأفراد كما وسط الجماعات.
وبما أنّ تقنيات حلّ النزاعات بالطرق السلمية قد أثبتت فعاليتها في حقن الخلافات وإزالة التشنّجات وتعزيز حسن العلاقات بين الفئات الاجتماعية على اختلافها، وبالتالي تكريس استقرار المجتمع واستدامة هذا الاستقرار، عمد العديد من الجمعيات إلى نشر هذا النهج بين اللاجئين السوريين من جهة والمحيط اللبناني من جهة أخرى. في هذا السياق، بادرت "جمعية دار السلام" إلى جمع لبنانيين وسوريين في إطار نشاطات تحدّ من مخاطر اندلاع نزاعات بين الطرفين فتعزّز، بطريقة غير مباشرة، العيش المشترك وثقافة السلام وحقوق الإنسان. اعتمدت الجمعية التدريب على حلّ النزاعات سبيلاً للإضاءة على إيجابيات العلاقة بين اللبنانيين واللاجئين السوريين، ومهّدت لقيام مبادرة مشتركة تفيد المشاركين وتزيد من الثقة المتبادلة بينهم. وقد ركّزت على اختيار الأشخاص المستفيدين من التدريب على أساس انتمائهم إلى مناطق تكثر فيها النزاعات كما إلى طوائف مختلفة.
أسلوب آخر، غير تقليدي، اعتمدته مجموعة من النساء اللبنانيات والسوريات في طرابلس، شمال لبنان. تحت عنوان "سكر نواعم"، أطلقن مبادرة تنموية هدفها تمكين النساء وتعزيز السلام والعيش المشترك في منطقتَيْ باب التبانة وجبل محسن والمناطق المجاورة لهما. فبعد تجهيز مطبخ متخصّص في باب التبّانة، انطلقت مبادرة "سكر نواعم" لتصنيع وتوزيع كعك الخميس أو (المرقّد) التقليدي الصحّي والشهي. وقد باشرت السيدات الأعضاء في الجمعية بالتعاون مع مجموعة نازحات من سكان المنطقة، بإعداد الحلويات سوياً وتوضيب وتوزيع حصص من المرقّد والزهورات الطبيعية، بمعدّل 30 حصّة أسبوعياً وسط التزام تام بإجراءات الوقاية من فيروس كورونا، وتستفيد منها عائلات محتاجة سورية ولبنانية وفلسطينية. وقد ساهمت هذه المبادرة في تعزيز التلاقي في المنطقة.
يشير يوسف يوسف المسؤول عن المبادرة، إلى أنه "من خلال هذه الممارسات، نكسر الصور النمطية ونخلق انطباعات جديدة ومساحات حوار بين أشخاص من مختلف الجنسيات للعمل على نشاطات تقرّبهم بعضهم من بعض وتزيد الألفة بينهم". ويضيف يوسف: "وصلتُ إلى وقت لم أعد ألاحظ اختلاف الجنسيات، حتى لم يعد الموضوع نقطة حوار، فأصبحوا كياناً واحداً".
عبير القاري البالغة من العمر 48 عاماً هي لبنانية الأصل ومشاركة في هذه المبادرة. تبدي حبّها لهذا النشاط بسبب هدفه الإنساني ونشره الألفة والمحبة بين المشاركات فيه. هي تؤكّد أنها أحسّت من خلال هذه التجربة بأنها شخص فعّال في المجتمع، تساعد الآخرين وتساهم في إسعادهم. وفي الوقت نفسه، تتلقّى الدعم والتقدير من زميلاتها وتفرح لفرحهنّ. "لقد أصبحنا مثل الأخوات. إنهنّ عائلتي الثانية". هكذا وصفت عبير العلاقة التي تجمع المشاركات في هذه المبادرة. إنّ هذه العلاقة التي باتت متجذّرة، بدأت "رسمية" على حدّ وصفها، كي لا تقول إنها كانت علاقة تتّسم بالتباعد والجفاء قبل البدء بهذا النشاط. أمّا اليوم، فالأجواء فرحة وجميعهنّ، أكان خلال العمل أو خارجه، يتعاونّ في مختلف المواقف، ويقدّرن الظروف الصعبة التي يعاني بعضهنّ منها.
أثّر العمل في هذه المبادرة بشكل إيجابي على عبير وزميلاتها، فخفّف من توترهن ورفع معنوياتهنّ وحسّن حالاتهن النفسية المتأثرة سلباً بالأوضاع الاجتماعية المتردية. كما اكتسبن مهارات عدّة، ومنها القدرة على رؤية الأمور بموضوعية، وتقييم سلبيات وإيجابيات أيّ مشكلة، والتفاوض مع الآخرين، واتخاذ القرارات المناسبة. ويرى يوسف أنّ هذا النوع من المبادرات يعزّز العيش المشترك من خلال تقديم فرصة لتعارف الناس بعضهم إلى بعض في مساحات آمنة بغضّ النظر عن جنسيتهم أو موقعهم الاجتماعي أو خلفيتهم الثقافية.
إيجابيات مماثلة أسفرت عن مبادرة أخرى في طرابلس حملت عنوان "فن وإبداع": عدد من النساء والرجال اللبنانيين والسوريين ينظمون دورات تدريبية مشتركة تجمع اللاجئين السوريين والمواطنين اللبنانيين معاً لتعليمهم الحلاقة والتجميل وصناعة التحف الشرقية. رقيّة غباش، 32 عاماً، سورية الجنسية، هي إحدى المشاركات في هذه المبادرة. تعتبر أنّ تجربتها مكّنتها من مواجهة تحديات كثيرة فرضها عليها الوضع المأزوم في سوريا ولبنان: "في بادئ الأمر، واجه الفريق نوعاً من القلق والخوف من عدم التفاهم وغياب الاتفاق، ولكن بعد البدء بالمبادرة والنشاطات، أصبح التعامل سلساً والجميع متعاوناً". وأبدت رقيّة انزعاجها العميق من التمييز والنظرة الفوقية اللذين تعرّضت لهما، مثل آخرين كثر. لكنها أضافت أنها تعلّمت كيفية التعامل مع الأمور بإيجابية والسيطرة على سير الأعمال وإدارة فريق العمل. وهي فرحة وممتنّة أيضاً لأنها نجحت في نقل خبراتها إلى أشخاص آخرين فساهمت في تحسين أوضاعهم النفسية والمعيشية. إنّ هذه المبادرة، برأيها، حوّلت المشاركين فيها إلى أسرة واحدة، ملغيةً كل الحواجز والفوارق.
سالي شرف، منسّقة هذه المبادرة، توضح أنّ الدافع الأساسي لتنظيم هكذا مبادرات هو طلب الناس ورغبتهم في مساعدة بعضهم للبعض الآخر. وهي توضح أنّ هذه المبادرات تؤمّن للمستفيدين منها الإطار المناسب لطرح أفكارهم ومشاركتها مع سواهم، فيتعزز بذلك العيش المشترك، كما تقول، ويخفّ التوتر بين الناس مهما تعدّدت اختلافاتهم وتباينت آراؤهم وانتماءاتهم. وتشدّد شرف على ضرورة "الإضاءة أكثر على مثل هذه الممارسات بمختلف الطرق، والتركيز على العمل المشترك، ما سيحقق السلم الاجتماعي والوعي عند مختلف الفئات والأجيال".
... وتكثر المبادرات التي تعزّز اندفاع المشاركين والمشاركات فيها لمواصلة نشر أثرها الإيجابي عل جميع الأطراف المعنية والمساهمة الفعّالة في زرع الألفة وتعميق التقارب بين مختلف فئات المجتمع. وما الثمن إلا ... كلمة تطيّب الجرح والخاطر، وحلوى تحسّن مذاق الحياة، وقصة شعر تشذّب أذى الخلافات وتزيل الحواجز.

*صحافية لبنانيّة