هناك وجوه واعتبارات مختلفة لتسلّط الرجل الأبيض في الدول السمراء والسوداء والصفراء -وفق تصانيف ابتدعها لنا الرجل البيض لضمان تسلّطه. نصّب الرجل الأبيض الولايات المتحدة لتدبير شؤون نظام الفصل العنصري العالمي. لا، نظلم الأقليّة البيضاء في جنوب أفريقيا لو اتهمناها بابتكار نظم وفكر الفصل العنصري. إن فكر وممارسة الفصل العنصري كانت في صلب تكوين الدول الغربيّة كلّها من دون استثناء.
الخيال العنصري وبناء المؤسّسات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة بناء عليه هي خلاصة تاريخ الغرب داخل حدوده وفي استعماره.
و«تحتفل» دولة النروج بذكرى المعرض العالمي عام 1914، عندما دشّن ملك النروج «حديقة حيوانات بشريّة» حيث يُعرض فيها بشر مستوردون من دول أفريقيا كي يتسنّى للزوّار البيض رؤية الإنسان المتوحّش على حقيقته. وقد زهت دول عدة آنذاك، منها أميركا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا بحدائق حيوانات بشريّة وقد خدمت تلك الحدائق الأخّاذة قضيّة الرجل الأبيض في تسويغ الاستعمار ووسائله في ترويض الإنسان المتوحّش. هل ستفتتح محكمة الحريري الدوليّة حديقة حيوانات بشريّة لعرض الإنسان المُقاوم المُتوحّش كي يتسنّى لمعتنقي عقيدة الرجل الأبيض في العالم العربي رؤية من لا يتورّع عن مناهضة السياسات والحروب الأميركيّة والإسرائيليّة؟ وسيفتتح أعضاء عائلة الحريري مهرجان حديقة الحيوان البشريّة، كذلك الأمانة العامة لـ14 آذار سـ«تستنهض» - على عادتها في الاستنهاض الموسمي - جمهور فريقها من أجل نشر عقيدة الاستعمار واستبطانها.
لا يكون الردّ على
قرارات المحكمة باجتماع في نقابة الصحافة


السلام «العادل» لم يكن يعني أكثر من ضمان الاعتراف بالكيان الغاصب
لم يعد الاستعمار يبدو صفيقاً كما كان: الجيوش الاستعماريّة انسحبت بصورة عامّة من دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة. لكن للاستعمار الأكثر صفاقة أشكال وأنساق جديدة. انسحبت عشرات الآلاف من القوّات الأميركيّة من الفيليبّين (الذي ينسى بعض أنها كان مستعمرة أميركيّة) عام ١٩٩٢ بفعل احتجاجات واعتراضات وتظاهرات عارمة. كابوس أزيح عن صدر الشعب المقهور. لكن ها هو أوباما يوقّع بالأحرف الأولى معاهدة أمنيّة مع حكومة فيليبينيّة جديدة تسمح للولايات المتحدة بنشر قوّاتها وغزو موانئها قانونيّاً. وعندما وعد أوباما بالانسحاب من العراق وأفغانستان لم يكن يعد إلا بتغيير طبيعة الاحتلال من المُباشر إلى نسق المعاهدات الأمنيّة، أو الاحتلال غير المُباشر. لكن حلفاء الاحتلال وأدواته تمرّدوا عليه في البلديْن: نوري المالكي الذي وَفّق بأعجوبة بين الولاء للنظام الإيراني والولاء للمُحتلّ الأميركي رفض توقيع اتفاقيّة تسمح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بقوّاتها في العراق، ودمية الاحتلال في أفغانستان، حميد قرضاي (ألم يطلق ياسر عرفات وصف حميد كرزاي فلسطين على محمود عبّاس الذي اكتشف لتوّه أن المحرقة جريمة فظيعة) رفض بالقطع توقيع أي اتفاقيّة مع الحكومة الأميركيّة ليتسنّى لأميركا تمديد أجل احتلالها بتسمية مختلفة (خاف قرضاي أن يصبح اسمه سبّة في التاريخ الأفغاني مع أن زمن محو الإثم ولّى قبل سنوات فيما أجمع العشرة مرشّحين للرئاسة في أفغانستان على ضرورة توقيع اتفاقيّة أمنيّة مع أميركا).
واندثار الاتحاد السوفياتي سمح للولايات المتحدة بطرق خلاّقة للسيطرة العالميّة. مصطلحات ومعجميّات وتسميات تكاد تصلح لمسرحيّة كوميديّة من فصليْن أو ثلاثة. «مجتمع دولي» على «إرادة دوليّة» على «إجماع دولي»: أميركا تغيّر أثوابها من دون أن تلاحظ اننا نلاحظ. توفّقت أميركا بعد اندثار الاتحاد السوفياتي بشخصيّة «يلستن» المطواعة، إذ سمح لأميركا ان تفعل ما تشاء حول العالم مقابل تلقّي مساعدات شخصيّة وغير شخصيّة. سرّ أميركا ان الرجل كان مخموراً في سنوات حكمه ولم يكن يدري ان أميركا وحلفاءها يحيطون دولته بقواعد عسكريّة ونظم أمنيّة، كان هتلر يتوق لها قبل غزو بولندا.
يتعامل الغرب الأميركي مع منطقتنا بأشكال جديدة لا تخفى إلا على من يردّد شعارات ترده عبر البريد من سفارات أجنبيّة في منطقتنا. «مسيرة السلام» هو اسم لسياسة أميركا في تبنّى كل الحروب الإسرائيليّة وفي فصل مسارات الصراع (أو السلام) مع العدوّ كي لا يتجمّع أعداء (أو حلفاء) له في بوتقة. «مسيرة السلام» هو اسم لإطلاق الحروب في منطقتنا من جانب واحد فقط بعد حرب ١٩٧٣: احتلال لبنان في ١٩٨٢ والحرب المصريّة - الليبيّة في عهد السادات بالإضافة إلى عدّ يكاد لا ينتهي من احتلالات وغزوات للبنان وفلسطين (إعادة احتلالات هناك، أو تكرار للاحتلال) كل ذلك يدخل في نطاق «عمليّة السلام» (وكلمة «عمليّة» تصلح بالفعل لأن «الراعي الأميركي» يقوم بعمل جراحي يستئصل فيه أراضي وحقوق وكرامات وحقائق وتاريخ وجغرافيا).
أما السلام «العادل والشامل» (وقد رضخت كل الأنظمة العربيّة لتلك المصطلحات والمفاهيم منذ «مبادرة روجرز» التي قبل بها النظام الناصري) فلم تكن تعني أكثر من ضمان الاعتراف الشامل من قبل الدول العربيّة بدولة الكيان الغاصب. وحقبة ما بعد الحرب الباردة زادت من حاجة الولايات المتحدة إلى مصطلحات ووسائل جديدة للسيطرة والطغيان العالمي لأنها تريد ان تجعل من سلطانها تعبيراً عن «إرادة دوليّة». حتى في العدوان على العراق، استعانت بالأمم المتحدة (وبالأخضر الإبراهيمي، المندوب المطيع للإمبراطوريّة الأميركيّة) من أجل تنظيف قاذرواتها في العراق (كما في أفغانستان).
إن إنشاء المحكمة كما يظهر في «ويكيليكس» كان وسيلة من وسائل إدارة جورج بوش لتغيير معالم الشرق الأوسط باتجاه أكثر صهيونيّة وأكثر ملائمة للهيمنة الأميركيّة. كُتب كثير عن المحكمة، لكن الإعلام في لبنان ووسائل التواصل الاجتماعي، نجحت كما نجحت قيادة حزب الله، في تسليط الضوء على ظروف إنشاء المحكمة ودورها الحقيقي. لم تخف المحكمة والتحقيقات التي سبقتها الدور الإسرائيلي فيها، كانت تتحدّث عن تعاون «دول أخرى» لم تسمّها في التحقيقات. وتظنّ المحكمة أن الأمر الأميركي للعدوّ الإسرائيلي بعدم إعلان مساندة المحكمة علناً وجهاراً يمكن ان يخدع العرب. لم تكن المحكمة ذات علاقة منذ إنشائها برفيق الحريري أو عائلته. ظنّ نادر وأحمد وسعد الحريري ان الرئيس الأميركي لا يخلد إلى النوم قبل تسقّط أخبار ورثة رفيق الحريري. كانت بناظير بوتو أغلى على قلب أميركا من رفيق الحريري بكثير لكن الإدارة الأميركيّة - أو «المجتمع الدولي» كما يفضّل محلّلو الجيواستراتيجيا في دولة لبنان العليّة - رفضت طلب عائلة بوتو لإنشاء محكمة تحقيق ومحاسبة للقتلة. خافت ان تعاقب حلفاءها ووكلاءها في باكستان. محكمة الحريري كانت جزءاً من عقيدة بوش في خدمة الصهيونيّة حول العالم العربي. وأحاط إنشاءها بسريّة تامّة وغموض غير بنّاء.
لكن التسريبات والوثائق والتقارير عن المحكمة أفرغتها من محتواها وظروف التحقيق والاتهام والسجن جعلت منها محكمة أسوأ حتى من المحاكم اللبنانيّة نفسها، على سوئها. لكن هناك إرادة عنصريّة في تنصيب قضاة ومحامين بيض في سدّة المحكمة لإفهام العبيد ان الرجل الأبيض يستطيع ان يحكم في قضاياكم أكثر منكم بسبب تدنّي مستواكم العقلي (طبعاً هناك قاض من هذا البلد العربي أو ذاك من أجل الرمزية التلفزيونيّة). ولم تكلّف المحكمة نفسها عناء البحث عن خبراء في شؤون الشرق الأوسط للفصل في قضايا النزاع بين 14 آذار وبين 8 آذار وبين وليد جنبلاط وغازي العريضي لأنها تعتبر أن حكمة الرجل الأبيض لا تحتاج إلى خبرة أو دراية أو دراسة أو اختصاص. ما شأن قاضي بلجيكي مثلاً في الحكم في خلاف لبناني - لبناني وعربي - عربي؟ أما عن حملة التضامن مع كرمة الخيّاط وإبراهيم الأمين (والوسيلتيْن الإعلاميّتيْن اللتين يمثلانهما) فأقول: ليس مستغرباً أن تكون حملة التضامن أشبه بحملة تضامن ذاتي. الكل في لبنان مع حريّة الإعلام لهم وحدهم فقط. رفيق الحريري (والفريق الذي ورثه) كان يريد الحريّة الإعلاميّة لوسائل إعلامه وللإعلام السعودي فقط (على أن لا تحيد عن وجهة نظر التملّق للنظاميْن السعودي والسوري آنذاك). كان رفيق الحريري مُجاهراً في محاربته لحريّة الإعلام في ولايته الطويلة في حقبة سيطرة النظام السوري، لكن دعاية 14 آذار لا تريد لنا أن نتذكّر من دوره في الإعلام إلا انه اصطحب ذات مرّة سمير قصير في سيّارته - يا للإنسانيّة، أوّاه. رفيق الحريري أراد ان يسيطر على كل وسائل الإعلام في لبنان من دون استثناء، كما ان آل سعود وآل ثاني وصدّام (قبلهما) كانوا يريدون الاستيلاء على كل وسائل الإعلام العربيّة من أجل وحدانيّة التعبير والتمثيل.
أما أنا فأختلف مع منطق التضامن الإعلامي السائد والمُنافق أو مع الحريّة الإعلاميّة المطلقة. لا، أنا لست فولتيريّاً ولا ليبراليّاً ولا ديمقراطيّاً ولم أطلب يوماً حريّة التعبير لأعدائي. لا، أبداً، لست كذلك. أنا لا أؤمن بحريّة التعبير لدعاة الصهيونيّة بيننا ولو كان الأمر بيدي لأغلقت كل وسيلة إعلاميّة تروّج للعدوّ الإسرائيلي. تريدون منّي أن أعبّر عن تقديري للحريّات الإعلاميّة بصورة مطلقة وهناك «النهار» و«إل. بي. سي» و«المستقبل» و«إم. تي. في» التي كانت تعرض صوراً وتقارير عن مواقع عسكريّة لحزب الله في جنوب لبنان من أجل ان يسهل ضربها من قبل العدوّ في حرب تمّوز؟ تريدون منّي ان أسمح لأجهزة الدعاية الصهيونيّة ان تخترق موجات الأثير كما تخترق صفوف القوى الأمنيّة العسكريّة والعقول والمناهج والمخادع؟ أنا مع «الحريّة» - بمعناها البرجوازي الصفيق - فقط إذا كانت تخدم قضيّتي وضدّها بقوّة لو كانت تخدم العدوّ، بتعريفه الوطني والطبقي. أنا لم أناصر يوماً حريّة التعبير بالمطلق وأعلم ان الحكومات الغربيّة هي مثلي: هي مع الحريّة إذا كانت تخدم قضيّتها هي، وضدّها بالمطلق لو كانت تخدم قضايا أعدائها. إن الولايات المتحدة - حتى لا نتحدّث عن أصدقائها بين الأنظمة العربيّة - مدرسة في كم الأفواه وإغلاق المحطات الفضائيّة وإقفال الصحف وفرض المقاطعة ضد دول وشركات ووسائل إعلاميّة، لنصرة إسرائيل ونصرة المصالح الإمبراطوريّة الأميركيّة. الحكومة الأميركيّة تمسك بمشعل الحريّة بيد وكاتم الأصوات باليد الأخرى، وليس المشعل إلا وهماً لتمرير مخطّاتها. تريد الحكومات الغربيّة من وراء شعارات الحريّة ان تفتح الأبواب والمنابر امام أبواق العدوّ الإسرائيلي في منطقتنا، كما أن ليبراليّي آل سعود وآل ثاني (أي إعلام النفط والغاز والكاز) يريدون الحريّة للسلالات النفطيّة وحقّها في ضخ دعاية الثورة العربيّة المضادة.
لا، أنا لم أمش في تظاهرات دعم حريّة التعبير يوماً، ولم أحمل يوماً الشموع أو البقدونس. أنا أتضامن مع الرفاق في الإعلام الذين يخدمون قضيّة معاداة الصهيونيّة، والذين واللواتي يكشفون زيف حقائق محكمة الحريري الدوليّة. لكن تيّار الحريري هو الأكثر ظرافة بين كل التيّارات في لبنان. ليست هي «الجديد» أو «الأخبار» التي تزعق من فوق السطوح بشعارات الليبراليّة والحريّة. إن فريق 14 آذار، وفريق عائلة الحريري نفسه، هو الذي يصرّ على الترويج لنفسه تحت باب مناصرة الحريّات الديمقراطيّة مع أن رفيق الحريري عمل جاهداً مع أوليائه في المخابرات السوريّة لإغلاق محطة «الجديد» لبثّها أخباراً تزعج أولياء أمره الأول في الرياض.
والاجتماع الأسبوعي لكتلة عائلة الحريري زادت الطرافة طرافة عندما عابت على خصومها في «الأخبار» و«الجديد» ما زعمت انه مناصرة لنظام بشّار الذي يتناقض مع الحريّة. هذا صحيح، لا تستقيم الدعوات إلى الحريّة مع مناصرة نظام بشّار لكن هل تظنّ كتلة عائلة الحريري أنها في موقع الوعظ لمحطة «الجديد»، التي بزّت كل وسائل الإعلام الأخرى في شجاعة معارضتها لنظام المخابرات السوري في لبنان أثناء حكمه وليس بعده (مع الاعتراف أن شجاعة كبيرة اعترت جسم عائلة الحريري بعد انسحاب القوّات السوريّة من لبنان)؟ لكن قبل أن تعظ كتلة الحريري في موضوع الانسجام الأخلاقي والسياسي والفلسفي كان عليها ان تراجع سجلّ معلّمها وملهمها الذي تظلّل صوره العملاقة كل اجتماعات أعضاء الكتلة العائليّة (دعك من مناقشة التناقض بين شعارات الليبراليّة وبين إنشاء تيّار سياسي لعائلة لا تتمتّع إلا بالثراء الفاحش). صحيح أن الذي ينادي بالحريّة يناقض نفسه (أو نفسها) لو دعم نظام بشّار، لكن ماذا عن موقف رفيق الحريري نفسه؟ الحريري المؤسّس ناصر كل الطغاة في العالم العربي: من المغرب إلى دول الخليج مروراً بالنظام السوري، ونظام الاحتلال الأميركي في العراق. أما فريق عائلة الحريري فلا يجد حرجاً من مناصرة الطغاة في المغرب وقطر ومصر (زمن مبارك والسيسي) والسعوديّة والبحرين والأردن وعمان ودولة الإمارات واليمن وليبيا وتونس (زمن بن علي) والكويت من دون أن يتبيّن التناقض في مواقفه هو. أي إن كتلة رفيق الحريري لا تعارض الطغيان إلا في دمشق، وإلا بأمر من آل سعود. لكن هذا هو أسلوب فريق 14 آذار، التعامل مع الحقائق على افتراض أن الذاكرة لا تمتدّ بالبشر لأكثر من ساعات معدودة فقط.
انتهى عمل المحكمة مبكّراً. من سينتظر النتائج بعد سنوات؟ من سيصدّق بعد عقد أو عقديْن من الزمن ان المحكمة توصّلت إلى الحقيقة وحكمت بالعدل بين الناس. لو أن المحكمة عيّنت نتنياهو قاضياً فوق القضاة، لهتف فريق عائلة الحريري بنزاهته وحياديّته. لو أن المحكمة حكمت ببراءة إسرائيل في كل حروبها مع العرب لهتف ذلك الفريق باسم العدالة الدوليّة. لو أن المحكمة طلعت بنظريّة أن سيّارة الميستوبيشي قادها بشّار الأسد وكان حسن نصرالله جالساً بقربه لصدّقتها. اللعبة ليست خافية، أكثر ما تأمل به أدوات أميركا في لبنان أن تقوم أميركا بحشر خصومها وأعدائها. لكن لماذا يظنّ حلفاء أميركا أن انصياعهم الذليل لها ينعكس قدرة من قبلهم على تسيير السياسات الأميركيّة؟ يصف وليد جنبلاط كيف أنه بعد لقائه مع بوش خاب أمله من الوعود الأميركيّة لكن أقصى ما فعلته أميركا (له، وهو القاطن في قصر في المختارة الأبيّة) هو فرض عقوبات ضد وئام وهّاب وناصر قنديل. يضحك وليد جنبلاط وهو يروي الطرفة تلك وإن عبّرت عن أوهامه هو. ماذا كان يتوقّع وليد جنبلاط من بوش مثلاً؟ أن يرسل أساطيله وطائراته كرمى لعيون زعيم 80% من 5% من أصل نحو 4 ملايين لبناني في (مسخ) وطن الأرز؟ لهذا، فإن فريق الحريري يريد من المحكمة الدوليّة أن تعلن أن حزب الله وأسامة سعد والنقابات العمّاليّة والقطاعيّة وكل من يتجرأ على نقد أرث الحريري المُدمّر هو المسؤول عن مقتل فقيد عائلته، وهو يريد من الشعب اللبناني لا أن يتكفّل بنصف نفقات المحكمة الباهظة فقط، بل أن يصدّق كل ما يصدر عن المحكمة أيضاً.
إن قرارات المحكمة في عقاب وسيلتيْن إعلاميّتيْن - وهما يا للصدفة الوحيدتيْن بين كل وسائل إعلام لبنان الباقية لم تتلوّثا بمال رفيق الحريري، من دون الحكم على تمويل أي من الوسيلتيْن - هي محاولة لتمرير سياسات أميركا وإسرائيل من خلال المحكمة وبلا كيف ومن دون اعتراض أو نقاش أو نقد أو مساءلة. تريد المحكمة أن تربّي السكّان الملوّنين باسم الرجل الأبيض الحاكم والمُتنفّذ فيها.
هناك من يقول إن هناك عرباً فيها، أو أجانب بأسماء عربيّة. لكن من أتى بهؤلاء ومن سمع بهم من قبل؟ هل الجماهير العربيّة هتفت بحناجرها لتعيينهم؟ أم أنهم أتوا من خلفيّات كانت الولايات المتحدة راضية مرضيّة عنها؟ وفي محكمة تحكم باسم الشفافيّة والمصداقيّة، هي لم تعلن يوماً عن المعايير التي اعتمدتها في اختيار الأعضاء والموظّفين؟ على الشعب اللبناني الطاعة من دون سؤال. وجرم «الجديد» و«الأخبار» هو في عدم الطاعة السياسيّة. أما باقي وسائل الإعلام (التي لا تستحق أن أتضامن معها) فهي تعاملت مع المحكمة على طريقة تغطية جريدة «تشرين» للانتخابات الرئاسيّة في سوريا أو على طريقة تغطية جريدة الأمير سلمان، «الشرق الأوسط»، لبيعة الأمير مقرن. هذه هي معايير المهنيّة عند هؤلاء الذين يزايدون على «الجديد» وعلى «الأخبار».
سيستمرّ عمل المحكمة وقد يتغيّر مسارها بتغيّر مسار السياسات الأميركيّة. نذكر ان التحقيق في اغتيال الحريري والمحكمة التي تلته غيّرت من أهداف الاتهام: من أحمد جبريل إلى الضبّاط الأربعة إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى رستم غزالة إلى ان استقرّ الأمر على حزب الله. لكن المحكمة لا تقبل التشكيك ولا السخرية ولا النقد. وإعلام 14 آذار يعتبر ان قمع الإعلام يدخل في صلب حريّة التعبير إذا جاء بقصد خدمت قضيّته هو.
لا يكون الردّ على قرارات المحكمة باجتماع في نقابة الصحافة. يجب ان تبدأ حركة بوقف تمويل المحكمة من قبل الشعب اللبناني (ونصفه غير موافق على عمل المحكمة). لماذا لا تموّل حركة 14 آذار عمل المحكمة؟ ولماذا لا تصدر نشرة «الحريري» أحكاماً قاطعة في قضيّة اغتيال الحريري ومن دون انتظار المسيرة القضائيّة الأميركيّة. وماذا عن هؤلاء اللبنانيّين الذين لا يعني لهم حل لغز اغتيال الحريري شئياً على الإطلاق. هذا من دون الإشارة إلى هؤلاء اللبنانيّين واللبنانيّات الذين واللواتي عبّروا عن غبطة لموت الحريري، مع أسفهم الشديد على موت الأبرياء في عمليّة التفجير. مات رفيق الحريري لكن بعقلين باشرت الاحتفال بعقد قران ابنتها البارة أمل علم الدين على معبود الجماهير، جورج كلوني. فليبدأ الاحتفال فوراً.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)