بدت «مسيرة الأعلام» الإسرائيلية بأجوائها وصورها ورسائلها أقرب إلى «بروفة مبكرة» لما يمكن أن يحدث في المستقبل المنظور من تفاعلات وصدامات وحروب.لا توجد في الأفق السياسي الملغم أية إشارات إلى حلول سياسية محتملة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وجوهره الحساس القدس المحتلة.
ولا توجد تحت ذات الأفق أية ضمانات لدوام التهدئة، التي أعقبت حرب الأحد عشر يوماً بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة في غزة.
التهدئة هشّة والتصعيد محتمل بأية لحظة.
في أول اختباراتها أرادت حكومة «نفتالي بينت» أن تثبت أنها أكثر يمينية وتشدداً من حكومة «بنيامين نتنياهو»، التي أزيحت بفارق صوت واحد في الكنيست بعد اثنتي عشرة سنة متصلة في السلطة.
قواعد السياسة الإسرائيلية وخياراتها تراوح نفس العبارات والمواقف باستثناء إزاحة «نتنياهو» بداعي كراهيته والضجر منه لا الاختلاف مع مواقفه.
هكذا سمحت حكومة «بينت» بـ«مسيرة الأعلام»، وفرت الحماية بألفي وخمسمئة جندي، بمعدل جندي لكل اثنين من المستوطنين المتظاهرين، أخلت ساحة باب العمود عند المسجد الأقصى بالقوة من الفلسطينيين، اعتقلت واعتدت على أية تجمعات رفعت الأعلام الفلسطينية، وقمعت تظاهرات أخرى في مناطق عديدة بالضفة الغربية.
كان ما جرى في باب العمود من عنف وقمع تعبيراً عن ضعف لا قوة في بنية الحكومة، بالغة التناقض في تكوينها والمرشحة موضوعياً للتفكك وعدم البقاء طويلاً.
كانت الغارات الجوية على مواقع للمقاومة في غزة وخان يونس فجر اليوم التالي لـ«مسيرة الأعلام»، تعبيراً آخر عن طلب «الضعيف» إثبات أنه «قوي» باسم الرد على البالونات الحارقة، التي أطلقت من غزة وتسببت في حرائق ببعض مزارع المستوطنات المحيطة.
الاستخدام غير المتناسب للقوة تعبير سياسي مباشر عن قدر الارتباك في بنية صنع القرار الإسرائيلي.
دون أن تطلق قذيفة واحدة من غزة أغلق مطار «بن غوريون» مجدداً أمام رحلات الطيران، وأعلنت التعبئة في منظومة القبة الحديدية.
المشهد كله بصوره ورسائله يكاد يعلن عن جولة جديدة تقترب في المواجهات السياسية والعسكرية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
رغم وصلات الرقص في «مسيرة الأعلام»، إلا أنها بدت هزيلة بأعدادها ومشاهدها رغم التعبئة الواسعة في أوساط المستوطنين، كما بدت تجمعاً لصبية دون سن العشرين.
تلخّص صورة واحدة الشعور الكامن بالضعف في بنية المسيرة.
عندما بدأت عدة فتيات فلسطينيات التمركز خلف كاميرات الفضائيات التي تنقل الحدث، في الهتاف «الله أكبر»، «القدس عربية»، «بره بره.. يا مستوطن بره بره» أفلت العيار بالكامل.
جرت اعتداءات دون تمييز، أو تدخل من الأمن الإسرائيلي، نالت من مراسلي الوكالات الدولية.
كادت «مسيرة الأعلام» أن تتماهى مع الأوهام السياسية، لا القدس قابلة للمساومة أو التنازل، والصراع ممتد إلى المستقبل، لا نحن ضعفاء ولا هم أقوياء.
في المشهد السياسي المتحرك بالأراضي الفلسطينية المحتلة تتجلى ثلاثة تناقضات كبرى قد تتحكم تفاعلاتها في رسم خرائط القوة على مسارح الصراع.
الأول، التناقض الفلسطيني - الإسرائيلي، وقد أخذ مداه في المواجهات العسكرية والشعبية التي هزت إسرائيل من الداخل وعرضت أمنها لانكشاف نال من ثقتها في نفسها ومستقبلها.
والثاني، التناقض الإسرائيلي- الإسرائيلي، وقد أعلنت انكشافاته عن نفسها في الصراعات الداخلية، التي أفضت إلى إنهاء «حقبة نتنياهو» دون تغيير في السياسة والتوجهات.
بصياغة «بنيت» فهو ضد عودة الولايات المتحدة المحتملة إلى الاتفاق النووي مع إيران ورفع العقوبات عنها، تماماً مثل «نتنياهو»، لكنه ضد الصدام مع الإدارة الأميركية على النحو الذي لوح به الأخير دون أن يكون جاداً!
وهو من رموز اليمين الاستيطاني ويريد أن يضيف شيئاً من التوسع في الضفة الغربية بالمنطقة (ج) حسبما أعلن بنفسه، وهو مثل زعيمه السابق مع «السلام مقابل السلام»، لا «السلام مقابل الأرض»، كما التطبيع بلا أدنى مقابل مع الدول العربية.
والثالث، التناقض الفلسطيني - الفلسطيني، وقد تجلت مأساويته في «حوارات القاهرة» التي أُجهضت قبل أن تبدأ.
لا جرت مصالحة فلسطينية ولا ظهرت في الأفق فرص بناء وحدة سياسية تنهي الانقسام وتتحمل مسؤولية استحقاقات صعبة تعترض القضية الفلسطينية عند لحظة جديدة من تقرير المصائر.
كان ذلك أسوأ خبر لا يريد الفلسطينيون سماعه بعدما أثبتوا بتزاوج الاحتجاج والسلاح وحدة الشعب والقضية في كامل فلسطين التاريخية، كما في المخيمات والشتات.
رغم أية دعايات وادعاءات عن المصالحة لم يكن ممكناً تجاوز إرث الكراهية بين أكبر فصيلين فلسطينيين «فتح» و«حماس»، الذي أعقب الانقسام الفلسطيني عام 2007.
حمل كل منهما الآخر مسؤولية عدم التوافق وإجهاض سعي القاهرة للتقريب بينهما.
من وجهة نظر «حماس»، فإن ما كان مطروحاً من أفكار وتصورات قبل 10 مايو الماضي لم يعد صالحاً الآن.
اشترطت أن يشارك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بنفسه في مباحثات القاهرة، وتشكيل مجلس وطني جديد خلال ثلاثة أشهر وأن تكون هناك قيادة وطنية مؤقتة وإعادة ترتيب وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بحسابات جديدة تأخذ في اعتبارها موازين القوة الحالية.
ومن وجهة نظر «فتح» فإن «حماس» تطلب قطف نتائج الحرب من السلطة الفلسطينية، لا من إسرائيل.
بالحسّ السياسي العملي أرادت «حماس»، دون أن يكون ذلك معلناً، تكرار تجربة ما بعد «معركة الكرامة» التي أفضت نتائجها إلى تغيير طبيعة «منظمة التحرير الفلسطينية»، ونقل قيادتها من أحمد الشقيري الحقوقي المفوه إلى ياسر عرفات رئيس أكبر الفصائل الفلسطينية المسلحة «فتح».
في تلك المعركة، التي جرت وقائعها في 21 مارس 1968 بعد أشهر قليلة من نكسة 1967، تمكنت جماعات الفدائيين من إلحاق هزيمة مذلّة بالقوات الإسرائيلية بمشاركة بطولية من الجيش الأردني، عندما حاولت احتلال نهر الأردن تحت غطاء جوي مكثف.
بصورة أو أخرى فإن نجاح المقاومة المسلحة بالمواجهات الأخيرة في إلحاق أضرار معنوية ومادية فادحة بإسرائيل يزكي نظرياً إعادة تكرار ما جرى بعد معركة الكرامة من نقل مركز القيادة إلى الفصيل الأكثر قوة وتسليحاً.
هذا هو المسكوت عنه في أسرار فشل مباحثات القاهرة وتأجيلها لمدى غير معلوم.
«حماس» تطلب تغيير موازين السياسة وفق تضحيات السلاح و«فتح» غير مستعدة للإقرار بقيادتها وتعتبره عدواناً على تاريخها وإرثها القديم.
التعقيدات السياسية والأيديولوجية والحسابات الإقليمية والدولية، وداخل فلسطين التاريخية نفسها، تمنع موضوعياً إعادة تجربة ما جرى بعد «معركة الكرامة».
في تلك الأيام البعيدة إثر نكسة يونيو راهن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر على أنه قد آن الأوان لأن تبدأ حرب فدائيين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، قال بالنص لقائد «فتح» ياسر عرفات عندما التقاه لأول مرة بترتيب من الأستاذ محمد حسنين هيكل: «أريد أن أسمع طلقة رصاص واحدة كل يوم داخل الأراضي المحتلة».
وكان هناك رأي عام عربي يؤيد ويؤازر العمل الفدائي وقطب دولي، الاتحاد السوفياتي السابق، مستعد أن يوفر غطاء سياسياً للقيادة الفلسطينية المسلحة الجديدة.
ثم كان هناك، وهذا هو الأهم، نوع من القبول من التنظيمات المسلحة الأخرى بقيادة «فتح» لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها عباءة وطنية واسعة ملهمة وغير أيديولوجية، فضلاً عن قوتها العسكرية الأكبر نسبياً.
في الأحوال الماثلة يكاد يستحيل إعادة إنتاج تجربة ما بعد «معركة الكرامة».
لا السلطة سوف تخلي مواقعها، ولا الأوضاع الفلسطينية الحالية مرشحة لنقل مركز القيادة، ولا غطاء دولياً إقليمياً وارداً بأي حساب.
أسوأ ما يمكن أن يجري الآن أن تهدر الفرصة الماثلة لتوحيد الجسم السياسي الفلسطيني وراء برنامج موحد بذريعة التنازع بين «فتح» و«حماس» فيما يتوجب التركيز على ما هو عاجل وملح لا على توزيع الحصص والأنصبة.
الأخطار محدقة بالاندفاع المسلح من الحكومة الإسرائيلية الضعيفة لإثبات أنها أكثر قوة وعنفواناً وتوحشاً من الحكومة السابقة ووزير الدفاع الإسرائيلي «بني غانتس» يفصح حسب القناة الثانية عشرة عن «بنك أهداف جديدة في غزة تأهّباً لمواجهات عسكرية محتملة».
الوحدة الفلسطينية تستحق عناء المحاولة والضغط دون توقف، فالقضية أهم من الفصائل.
هذا ما لا يجب أن ننساه أبداً، وإلا فإنه المضي مجدّداً في «مسيرة الأوهام»، التي بدأت منذ «أوسلو» – سلطة بلا سلطة وسلام بلا أرض.

*كاتب وصحافي مصري