مرّت أفريقيا في القرن التاسع عشر، الذي شهد جدلاً فلسفياً وتاريخياً موسعاً- أوروبياً بالأساس- حول دور الفرد في التاريخ، بذروة التوسعات الإمبريالية الغربية التي بلورت هيمنة غير مسبوقة -على كلّ أرجاء القارة تقريباً- على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وقد دخلت أفريقيا عملياً، بين فكرة هيجل عن «رجال التاريخ العظام « الذين يحركون تاريخ العالم ويمكنهم وحدهم دفع الوعي الذاتي بالحرية إلى الأمام (تحقيقاً لفكرة نهاية التاريخ، أو تبني النموذج الليبرالي الجديد، حسب فرنسيس فوكوياما)، وما أثاره جورجي بليخانوف G. Plekhanov، المعروف بأبي الماركسية الروسية، من أن دور الفرد أو العقل الفردي (حسب مناقشاته لمعاصره إيفانوفيتش كابليتز I. I. Kablitz) كقوة اجتماعية لا يمكن فصله عن حقيقة كون الفرد ذاته نتاجاً «للعلاقات الاجتماعية»، في مرحلة انسحاق شبه تام، واقتصر دور «الرجال العظام» على مناوشات متقطعة، مكانياً وزمنياً، في مواجهة آلة الاستعمار الأوروبي.وإلى جانب تآكل «دور الفرد» في التاريخ الأفريقي فإنه تحول بشكل متصاعد إلى دور تابع تماماً؛ حيث نظر إلى هذا التاريخ في أغلبه على أنه تاريخ للأوروبيين في القارة الأفريقية- أي أنه جزء من التقدم والتطور التاريخييْن لأوروبا الغربية وملحق بالتاريخ الوطني للدولة (الاستعمارية) الأم، وسط حفاوة بالاستعمار «كمهمة تمدين» يقوم بها أفراد من خارج القارة أبرزهم التجار والمبشرون والإداريون الأوروبيون، والمثال الأوضح على ذلك المؤرخ المعروف رولاند أوليفر R. Oliver في تقديمه للعمل الموسوعي الأبرز The Cambridge History of Africa (المجلد السادس، 1985)، وملاحظته أن «أغلب» أفريقيا كان لها حتى عام 1870 تاريخٌ خاصٌّ بها، وأن الحكومات الاستعمارية كانت بالغة الضعف ولم تتمكن من ترسيخ وجودها إلا عبر لعب دور كبير في فتح القارة أمام النفوذ الخارجي، وبناء كيانات سياسية أكبر، عقب مرحلة ما يسميه «التقسيم على الورق» paper partition.

الأمراء والأباطرة في الحالة «الإثيوبية»
بموازاة توغل الاستعمار الأوروبي وتمكنه –بشكل معمّم للغاية- من ضبط تحالفاته مع نخب «وطنية» أفريقية مرت «إثيوبيا» في القرن التاسع عشر بما يصطلح على تصنيفه إلى ثلاث مراحل، حسب تحليل المؤرخ الإثيوبي البارز تيشالي تيبيبو Teshale Tibebu، أولاها مرحلة الأمراء التي تنتهي بعهد الأمير (الرأس) كاسا هايلو Kassa Haylu (الإمبراطور تيودروس الثاني لاحقاً، والمُكنى بملك الملوك)؛ ثم مرحلة محاولات مصر وإيطاليا المتكررة لاستعمار إثيوبيا نهاية معركة عدوة (مارس 1896) وهزيمة إيطاليا الشهيرة؛ ثم مرحلة التوسع والغزو بقيادة الإمبراطور منليك الثاني (المعروف بملك ملوك الحبشة، ت. 1914) في الربع الأخير من القرن في المناطق التي تشكل حالياً جنوبي إثيوبيا وأجزاء من مناطقها الشرقية. واعتُبرت نهاية «عصر الأمراء» بداية مركزية السلطة والدولة في إثيوبيا الحالية، وتعزيز سلطة القادة الإقليميين في ظل حكم الإمبراطور، وإن قادت هذه المراحل ونتائجها إلى ما عُرفت «بالقضية الوطنية» الإثيوبية في القرن العشرين.
واستدلالاً بملاحظة لافتة للمؤرخ والمبشر الإثيوبي سفين روبنسون Sven Rubenson لتفسير منهجية كتابته عمله البارز «بقاء الاستقلال الإثيوبي» في القرن التاسع عشر (1976) بأن تحليله لهذه الفترة اعتمد على أرشيفات الوثائق في لندن والقاهرة وباريس وروما وبروكسل، في ظل غياب أية أرشيفات إثيوبية رسمية، فإنه يمكننا أن نلاحظ باطمئنان شديد، وبغضّ النظر عن تفسيرات روبنسون في أعماله العديدة، أن أدوار الأمراء والأباطرة الإثيوبيين كانت هي عماد أدوار «الدولة»، وأن الملاحظة في حد ذاتها تكشف عن طبيعة «قروسطية» لنظام الحكم «الإثيوبي» في ذلك القرن.
بعد وصول رئيس الوزراء الإثيوبي إلى السلطة في أبريل 2018 راهن كثيرون على مساهمة هذا القائد الشاب في إعادة الزخم والحضور الدولي إلى القارة السمراء


حسب تحليلات إثيوبية تاريخية متعمّقة فإن أدوار الأفراد الأوروبيين المعنيين «بإثيوبيا» حوالى منتصف القرن التاسع عشر (في الفترة 1840- 1870 تقريباً) كان لها الدور الأبرز في إثارة اهتمام الحكومات الأوروبية «باستغلال» التجارة الإثيوبية أو تكوين إمبراطورية إثيوبية غير رسمية أو شبه رسمية، بتعبير روبنسون. لكنّ أدوار الأمراء -والأباطرة في ما بعد- ظلت مرهونة بشكل كبير حتى نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر (ولا سيما إبان الاحتلال الإيطالي لمصوع التي كانت تابعة لإيالة الحبش التركية- المصرية في عام 1885) برؤيتهم «للقوى المسيحية» الأوروبية كحلفاء محتملين في مواجهة التطويق التركي والمصري. وتجسّد هذا المأزق في عام 1889 بسعي الإمبراطور يوحنا الرابع Yohannes للحصول على دعم المهديين ضد «الأطماع الأوروبية والتركية»، قبل تمكن منافسه ووريثه لاحقاً منليك الثاني من الانفراد بالسلطة في «إثيوبيا» وبدء حركة توسعاته التي شملت أغلب أجزاء إثيوبيا الحالية، قبل ضم إريتريا وإقليم أوجادين الصومالي في القرن العشرين بمقتضى ترتيبات «القضاء على الاستعمار» في القارة.

دور آبي أحمد وأوهام «القيادة التحوّلية»
حظي صعود رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، المولود في أغسطس 1976، إلى السلطة في أبريل 2018 بحفاوة دولية مبالغ فيها من جهة التوقيت والزخم والتوقعات، وأعاد هذا الصعود جدل دور الفرد في أفريقيا إلى الواجهة بالتزامن مع تصدّر أحمد –قبل أزمة جائحة كوفيد-19 وتداعياتها المباشرة- مشهد العمل الأفريقي كقائد شاب سيعيد للقارة «الشابة» زخمها وحضورها الدولي، عزّزه حصوله -المستغرب وقتها من قبل دوائر كثيرة- على جائزة نوبل للسلام (ديسمبر 2019) لدوره في إنهاء الحرب مع إريتريا.
يتشابك دور آبي أحمد مع مسيرته التعليمية على نحو لافت، فقد نال درجة الماجستير بأطروحة حملت عنوان «القيادة التحوّلية» (2011)، وتوقع كثيرون أن تشهد البلاد بقيادته تحولات سياسية وديمقراطية مهمة. لكنّ إثيوبيا دخلت أزمة عسكرية مفتوحة في إقليم التيجراي منذ نحو ثمانية أشهر شهدت انتهاكات غير مسبوقة وصلت إلى حد اتهامات باستخدام الجيش الفيدرالي والقوات الإرتيرية الداعمة له أسلحة كيماوية ضد المواطنين الإثيوبيين في الإقليم، وفرض مسار وحيد أمام مواطني الإقليم بضرورة الانفصال عن «الفيدرالية الإثيوبية» وإرساء نموذج قابل للتكرار في أقاليم أخرى، ولا سيما مع ما يبدو من تصميم آبي أحمد على مواصلة سياسات الحديد والنار، وتآكل الثقة الشعبية بشكل ملحوظ في مقولاته وسياساته المعلنة وخطاباته وحتى سياساته الخارجية التي وصلت إلى مستواها الأدنى منذ وصوله إلى السلطة.
تصل المفارقة في دور آبي أحمد في دولة مهمة أفريقياً مثل إثيوبيا إلى نقطة فاصلة في الوقت الحالي، حيث تتداعى الأمور في البلاد بشكل واضح؛ ويبدو التاريخ ومحاولات قسره في قراءات مغلوطة عصية على التطويع فيما ذهب إليه آبي أحمد في فيديو قصير ذاع في الأيام الأخيرة (وإن كان قد نُشر بالفعل في مايو 2018 بعد أيام من توليه رئاسة الوزراء) وتضمن يقينه، وإن في سياق مجازي ربما، بأنه سيكون «ملك إثيوبيا السابع»، وما تعزز من تسجيل صوتي أخير منسوب إليه بعزمه على الاستمرار في السلطة «بالقوة» لفترة لا تقل عن عشرة أعوام مقبلة. وتأتي المفارقة التاريخية جلية إذ فشل مشروع الإصلاحات الاقتصادية والسياسية تماماً؛ مع تراجع مستويات النمو (لعوامل سياسات حكومية مع تداعيات كوفيد-19) وصعوبات تحقيق البلاد هدف الانتقال من قائمة أفقر دول العالم (بمتوسط دخل سنوي للفرد يُقدر بـ 850 دولاراً) إلى وضع أدنى دول الدخل المتوسط بحلول عام 2025 حسب توقعات البنك الدولي. كما كشفت الخيارات السياسية لآبي أحمد ونظامه عن جنوح متسارع للصدام والضربات الاستباقية (كما في إقليمي أوروميا وبني شنقول-قمز حاليًا)، والرغبة في إرساء نظام سياسي بمظهر ديمقراطي دون أدنى قواعد متعارف عليها (الأمر الذي يمكن رؤيته بوضوح في انسحاب الاتحاد الأوروبي، أحد أهم حلفاء أديس أبابا، قبل أسابيع من مراقبة الانتخابات الإثيوبية المقبلة على خلفية غياب ضمانات انتخابية جوهرية، وتحديد أكثر من موعد للانتخابات العامة والتراجع عنها بشكل دائم بحجة المشكلات اللوجيستية في إنكار واضح للظروف السياسية).

خلاصة: آبي أحمد وأصداء القرن التاسع عشر
يبدو واضحاً أن دور آبي أحمد في إثيوبيا يبتعد تماماً عن فكرة هيجل عن «الرجل العظيم»، رغم الهالة التي أحاطت بالأول ورشّحته بقوة لأن يكون تجسيداً «أفريقياً» لهذه الفكرة وأن يكون امتداداً لقادة أفارقة كبار بعد عقود من خفوت الزعامة الأفريقية الكلاسيكية؛ وتجسد ذلك في فشله في تغيير الأوضاع القائمة في بلاده وتوحيدها بل وتهديدها بمشكلات أكثر عمقاً مما كانت عليه قبل أبريل 2018. لكنه يظل –في رؤية تحليل تاريخي تعود إلى القرن التاسع عشر- نتاجاً للعلاقات المختلفة في المجتمع الإثيوبي وتجسيداً لرؤية النخبة الأمهرية «للدولة الإثيوبية»، دون وجود أفق واضح لخروجها من المأزق الحالي، واستمرار سياسات القرن التاسع عشر بتعزيز الهيمنة على الأقاليم خارج مركز الدولة، وإعلانها عزمها إقامة قاعدة بحرية عسكرية في البحر الأحمر (رغم عدم امتلاك أديس أبابا أسطولاً بحرياً بالمعنى التقليدي)، ومدّ نفوذها إلى دول الجوار بتأثيرات صريحة أو تهديدات غير مباشرة.
ودون مبالغة، فإن مسار دور آبي أحمد يتغير بقوة من مثال الإمبراطور الإثيوبي الشهير منليك الثاني، أو حتى أن يكون ملك إثيوبيا السابع حسب نبوءته، ليقترب بشكل واضح من الإمبراطور «يوحنا الرابع» (ت. مارس 1889) الذي حظي بمساعدة الإنكليز (القوة الاستعمارية الأبرز في القارة الأفريقية) في بداية حكمه قبل أن ينتهي على نحو مباغت عقب سياساته المتعصّبة بشكل عام (سواء ضد المسلمين في مناطق متفرقة من إثيوبيا الحالية أم مذاهب مسيحية غير أرثوذوكسية مثل الإرساليات الكاثوليكية) وأطماع التوسع في السودان المجاور، وقضائه أغلب حكمه في مواجهة التهديدات العسكرية من مصر وإيطاليا والمهديين في السودان، وسعيه الدائم لتحجيم سلطات حكام الأقاليم المجاورة لمركز حكمه، في تناصّ تاريخي مدهش مع سياسات آبي أحمد الحالية، ربما يمهد لتوقع سقوطه بغتة دون تحقيق منجزات حقيقية وشمولية «للدولة الإثيوبية» بكل إثنياتها وتوجهاتها السياسية.
* باحث مصري متخصّص في الشؤون الأفريقية