التطوّرات الخاصة بالأزمة الاقتصادية في لبنان لا يمكن فصلها عمّا يشهده العالم من تحوّلات على الصعيد الاقتصادي، أقلّه لجهة نظام العقوبات وأزمة الديون التي تقع فيها دول العالم الثالث باستمرار، كضريبة لرفض سياسات الهيمنة والتبعية. حتّى الدول التي تدور في فلك الرأسماليتين الأميركية والأوروبية(مصر والأردن وتونس مثلاً)، تبدو خاضعة، هي الأخرى لهذه الأزمة، ولكن ليس بسبب «تبعيتها»، بل لأنَّ إبقاء سيف الديون مُصْلَتاً عليها ضروري، لضمان عدم التحاقها بالمعسكر الآخر الذي تقوده، اقتصادياً، الصين، عبر مشروع الحزام والطريق. الخيار الصيني ليس بديلاً فعلياً عن الرأسمالية الغربية، كونه يعمل جزئياً، وفقاً لآلياتها، ولكنه على الأقلّ، وعبر توفير أُطُر للتنمية، لا تعمل بموجب وصفات صندوق النقد، يضع أمام العالم طريقاً آخر للتطوّر الرأسمالي، وخصوصاً في غياب الكوابح التي كانت تمثّلها الاشتراكية على صعيد العالم، وتمنع بموجبها آليات التراكم الرأسمالي من الإتيان أكثر ممّا فعلت، على مقدّرات دول الجنوب.
أنجل بوليغان (المكسيك)

«النموّ» الخاصّ باقتصادات المديونية
بالنسبة إلى الخيار الأوّل، فانّه يبدو للوهلة الأولى، «على ما يرام». الاستدانة تحصل وفقاً لشروط الصندوق الخاصّة برفع الدعم والخصخصة وتخفيض الأجور وتعويم سعر الصرف وتسهيل شروط الاستثمار الأجنبي و..الخ. ولقاءَ ذلك، تأتي الأموال منه، ويبدأ الإنفاق على السلع والخدمات، إلى حدٍّ يبدو معه أنّ ثمّة بحبوحة فعلية تحصل، بدليل الانتعاش الذي تشعر به فئات معيّنة من المجتمع. هنا تبدأ مشكلة النموذج بالظهور، فالنموّ عبر الاستدانة لا يحصل لمصلحة الأكثرية، وعليه يبدأ التفاوت الاقتصادي الذي يقوم عليه النموذج بتهميش الفئات غير المستفيدة تدريجياً. وهي لا تمثّل الغالبية فحسب، بل هي تحديداً، الفئات التي جرى الاقتطاع من أجورها ومستوى معيشتها وفرص عملها و..الخ، لحساب فئات أخرى، لا تُنتِج مثلها ولا يستفيد منها الاقتصاد كما يستفيد منها هي. النموّ الحاصل وفقاً لهذه الآلية، يقوم على التفاوت، ولا يستفيد منه فحسب، فحين يهمِّش اقتصاد المديونية أكثرية القوى المنتجة الفعلية، ويدفع بها خارج نظام الامتيازات الخاصّ به، يكون قد فقَدَ فعلياً آليات استمراره، لأنّ القاعدة التي يقوم عليها اجتماعياً واقتصادياً ضيّقة، ولا تمثّل الكثير على مستوى بنى الإنتاج وقواه. فقدان الارتباط بهذه القوى يصعِّب استمرار عملية الإنتاج وفقاً للقواعد الموضوعة للنموذج، فتخفيض الأجور ورفع الدعم لا يتركان أمام هذا النوع من الاقتصادات خيارات كثيرة، فيما خصّ استخدام العمالة على نطاق واسع لإنتاج القيمة وتعويم النموذج. فتبدأ إذّاك الاضطرابات بالحدوث، على شكل احتجاجات، ليس فقط على التفاوت الحاصل، بل أيضاً على حرمان هذه الفئات التي تمثّل الأكثرية، من الوسائل التي تنتج ليس فقط عملَها وأجرَها، بل أيضاً، حياتها، عبر التجريد المستمرّ من المكاسب و»نوعية الحياة»، لمصلحة الأقلّية.

النموذج اللبناني
هذا النموذج ينطبق عربياً، على دول مثل مصر وتونس والأردن، ولكنْ ثمّة تمايز واضح حين نأتي إلى الحالة اللبنانية، على الرغم من كون الأزمة قد انفجرت هنا، أي في الحالة التي يعمل فيها اقتصاد المديونية بشكل مستقلّ، جزئياً، عن آلية عمل الصندوق. الأزمة في لبنان بدأت قبل تفكُّك الاشتراكية في المنطقة والعالم، أي حين كانت دول عربية كبرى مثل مصر، غير مضطرة إلى اللجوء إلى الاستدانة، لأنّ ثمّة طريقاً آخر للتنمية لا يزال قائماً. أحد أسباب الأزمة هو التحوّل في وظيفة المصارف، قبيل تفكّك الاشتراكية في الإقليم، وهو ما ساعدت عليه الحرب الأهلية كثيراً، عبر التسريع في اضمحلال البورجوازية الصناعية ودورِها لمصلحة نظيرتها التجارية ، قبل أن يؤول الاقتصاد بأكمله إلى الشريحة الأوليغارشيّة من البورجوازية التي استفادت من ظروف التسوية، في البلاد والإقليم، للاستيلاء عليه وتركيزه في القطاعين المالي والعقاري. ما صاحَبَ هذا الانتقال، من اقتصاد ينتج جزئياً، سلعاً وخدمات، تسمح بنموّ قطاعات منتجة، زراعية وصناعية وتجارية، إلى اقتصاد يقوم على تركيز الثروة في القطاعين المالي والتجاري، أي بالاتكال على قاعدة اقتصادية ضيّقة لا تسمح بنموّ كبير، جَعَل البلاد تقع قبل سواها من الدول في الإقليم، في دائرة المديونية. حين يطغى الاستيراد على الإنتاج، وتتحوَّل وظيفة المصارف من تشجيع الادّخار والإقراض على نحو متوازن إلى التلاعب بأسعار الفائدة لبناء هرم ديون بالعملتين المحلّية والأجنبية، تصبح القابلية للانهيار أكبر، ولكن ليس قبل إهدار كامل الثروة التي أتَت من تحويلات المغتربين والاستثمارات الخليجية، في خدمة مثال هجين من المديونية، سيصبح في ما بعد نموذجاً، لكيفية إملاء سياسات صندوق النقد، ومعها نظام عقوبات متطوّر وشامل، على بلد غير مَدِين خارجياً.
حين يطغى الاستيراد على الإنتاج، وتتحوَّل المصارف من تشجيع الادّخار والإقراض المتوازن إلى التلاعب بأسعار الفائدة لبناء هرم الديون، تصبح القابلية للانهيار أكبر


التفاوت في توزيع الخسائر
على أنّ المشترك مع النماذج الأخرى للاستدانة، هو حالة التفاوت نفسِها، والتي بدت في الحالة اللبنانية أكثر وضوحاً، بسبب التركُّز المفرِط للثروة، وما صاحَبَه من انتفاخ للشرائح التي استفادت من النموّ الخاصّ بالريع، على حساب الأكثرية. حتّى أكثرية المودعين من الطبقة الوسطى التي استفادت بدورها من النموذج، بدت هي الأخرى عرضةً للاستغلال، بمجرّد وقوع الأزمة في عام 2019، مع انهيار سعر الصرف، إذ تبيَّنَ أنها مرشّحة أكثر من سواها من الفئات، لدفع الثمن، أو فاتورة الخسائر المتراكمة، على شكل اقتطاعات مستمرّة ومتصاعدة، من ودائعها. التقنين في السحب أو الدفع لها كان منذ البداية لمصلحة الفئات الأوليغارشية التي صُمِّم لها النموذج منذ عام 1992، حيث جرى التذرُّع حينها بحماية كتلة الودائع الإجمالية بالدولار، لعدم سنّ التشريعات الخاصّة بالتحكّم برأس المال (الكابيتال كونترول)، والتي كانت ستمنع لو أُقرَّت في مجلس النواب، عمليات التحويل الانتقائية التي سُمِح بها لمصلحة الفئات الأوليغارشية وحدها. هذا التفاوت في تطبيق التحكُّم برأس المال، جرى تحويله إلى نموذج أشمل للتفلُّت من المحاسبة، حين انتقل التقنين في دفع الودائع من الدولار إلى الليرة. الصيغة التي اعتمدها مصرف لبنان بعد انهيار سعر الصرف إلى أكثر من عشرة أضعاف، حصَرَت الخسارة بصغار المودعين وحدَهم، عبر اختراع معادلة تعدّدية أسعار الصرف التي جرى بموجبها التخلّص من القيمة الدولارية للودائع، ونقلها إلى الليرة، عقب خسارتها كامل قيمتها الشرائية.

فشل محاولات التصحيح
حاولت حكومة حسان دياب تصحيح الأمر مبكّراً، عبر وضع خطّة لتوزيع الخسائر، حتى لا تتحمّل الفئات الضعيفة والهشّة في المجتمع وحدَها عبءَ المديونية وخسائر القطاع المصرفي، ولكنها ووجهت بشراسة قلَّ نظيرُها من لوبي السياسيين العاملين لدى القطاع المصرفي ومصرف لبنان. فاستقال مهندس الخطة آلان بيفاني، وهُمِّشت حكومة دياب، قبل أن تنفجر أزمة الفيروس، وينفجر بعدها المرفأ، وتدخل البلاد في حلقة مفرغة من الجمود وانعدام الفاعلية. القرار الأخير لمجلس شورى الدولة، أتى في سياق استعادة محاولات التصحيح، ولكن بسبب المعادلة التي يجري بموجبها حالياً إطفاء الخسائر، صُوِّر وكأنه ضدّ مصلحة صغار المودعين، لأنه سيحرمهم من السحب على سعر المنصة البالغ 3900 ليرة، لمصلحة السعر القديم الذي لم يعد قائماً. الاحتجاج «مفهوم» لأنّ المعادلة الجديدة التي يروِّج لها مصرف لبنان تقضي باحتساب قيمة العمليات الاقتصادية بالليرة وحدها، وكأنّ البلاد لا تدفع ثمن خسائر التعامل بالدولار لعقود طويلة. وهذا يعني أن ثمّة وهماً يحرّك حتى المتضرّرين من سياسات المصارف، مفادُه أنَّ إنقاذ الودائع بالليرة أهمّ حالياً من محاولة استعادة السيطرة على الاقتصاد من الفئات الأوليغارشية التي استولت عليه منذ ثلاثين عاماً وأكثر. هكذا، وعبر معارضة توزيع الخسائر، التي تقوم على استعادة حقّ السحب بالدولار وحده، تتبنّى الفئات التي جرى تدفيعها ثمن الانهيار والإفلاس والمديونية، منطق مصرف لبنان الخاصّ بأولوية التعامل بالليرة. تسويغ الأمر على أنه إنقاذ لصغار المودعين وحماية لليرة، يجري في ظلّ أكبر عملية تذويب للثروة بالدولار في العقود الأخيرة، عبر نقل الخسائر بالعملة الصعبة، من الدولار إلى الليرة، ومن كبار المودعين الذين لا يزال يعمل النموذج لحسابهم، حتى وهو ينهار، إلى الصغار منهم، وخصوصاً حمَلَة الليرة وحدَها، من الموظّفين والمنتجين الصغار، وعموم العاملين بأجر.
* كاتب سوري