في الأول من أيار/ مايو 2021، بدأت الولايات المتحدة سحب قواتها من أفغانستان تطبيقاً لاتفاق 29 شباط/ فبراير 2020 المعقود بين واشنطن وحركة طالبان في العاصمة القطرية الدوحة، على أن يكتمل هذا الانسحاب في 1 1 أيلول/ سبتمبر المقبل. في أفغانستان خاض الأميركيون أطول حرب في تاريخهم لعشرين عاماً، وليست مصادفة أن يختاروا الذكرى العشرين لضرب برجَي نيويورك موعداً لاكتمال الانسحاب، وقد كان 11 أيلول الذريعة لبدء غزو أفغانستان.يثير هذا الانسحاب الذي عارضه جنرالات وزارة الدفاع الأميركية – البنتاغون ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية، مسألة ملحّة وهي قدرة السلطة المحلية المحمية من الأجنبي على الصمود، بعد انسحاب حاميها، أمام حركة طالبان التي استطاعت الصمود لعشرين عاماً في مواجهة الأميركي، وأجبرته على التفاوض المنفرد معها من دون السلطة الأفغانية التابعة والمحمية من واشنطن.
هناك تجربتان يمكن أن تساعدا على مقاربة المستقبل الأفغاني بعد الانسحاب العسكري الأميركي. التجربة الأولى هي تجربة فيتنام الجنوبية بعد الانسحاب العسكري الأميركي الذي اكتمل في 29 آذار/ مارس 1973، بعد ستين يوماً من اتفاقية باريس التي كانت رباعية بين الولايات المتحدة وفيتنام الشمالية والجنوبية وجبهة التحرير الوطني ـــ الفيتكونغ التي كانت المناهض الجنوبي المدعوم من الشمال ضد سلطة فيتنام الجنوبية. ولم تستطِع سلطة فيتنام الجنوبية الصمود أكثر من خمسة وعشرين شهراً، بعد اكتمال الانسحاب الأميركي، إذ سقطت في 30 نيسان/ إبريل 1975 أمام الفيتكونغ.
التجربة الثانية هي تجربة أفغانية، إذ اكتمل الانسحاب العسكري السوفياتي من أفغانستان في 15شباط/ فبراير 1989، وفقاً لاتفاقية 14 نيسان/ إبريل 1988. لم تستطِع السلطة الشيوعية تحت قيادة محمد نجيب الله الصمود أكثر من ثمانية وثلاثين شهراً بعد اكتمال الانسحاب السوفياتي، إذ سقطت في 16 نيسان/ إبريل 1992. والسلطة المشار إليها جاءت على ظهور الدبابات السوفياتية يوم 27 كانون أول/ ديسمبر 1979. جاء السوفيات إلى السلطة في كابول بجناح بارشام ـــ الراية الأكثر موالاة للسوفيات منذ انشقاق الحزب الشيوعي الأفغاني عام 1973. كما أسقطوا جناح خلق ـــ الشعب بزعامة حفيظ الله أمين الذي كان قد دخل، بعد تقدّم المعارضة الإسلامية المسلحة في الأرياف وحول المدن، في مفاوضات سرية مع واشنطن ومعارضيه من المسلحين الإسلاميين. الأمر الذي أغضب الكرملين ودفعه إلى التدخل العسكري.
على الأرجح، مصير الرئيس الأفغاني الحالي أشرف غني، لن يكون مختلفاً عن مصير الرئيس الفيتنامي الجنوبي نغوين فان ثيو، ولا عن مصير مواطنه محمد نجيب الله.
ولا شك في أن واشنطن، بحكم انخراطها الكثيف المباشر في تجربتَي الحرب الفيتنامية، ثم في حرب أفغانستان خلال الثمانينيات إذ حوّلتها إلى مستنقع غرق فيه السوفيات، تقدّر المصير المحتوم لأشرف غني وسلطته. وهي رغم ذلك أصرّت على الانسحاب! ما يثير تساؤلات عدة حول انسحاب سيكون مآله المحتوم تسليم السلطة وتسلّمها من قبل طرف حاربه الأميركيون لعقدين من الزمن. ما سبق يدفع إلى التفكير في فترة حكم طالبان الأولى بين عامي 1996 و2001، عندما كان هناك رضى في إدارة كلينتون عن تسلّم طالبان السلطة في كابول. بل وفكّرت الإدارة الأميركية حينذاك، في مدّ أنبوب غاز من تركمانستان عبر أفغانستان حتى الساحل الباكستاني عبر شركة (يونوكال) الأميركية. لكن تنظيم «القاعدة»، بقيادة أسامة بن لادن، أفسد الطبخة الأميركية مع طالبان، من خلال تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا في آب/ أغسطس 1998.
ويمكن للأميركيين أن يفكروا في أن حكم حركة طالبان من جديد سيكون عاملاً سلبياً ومنغّصاً للصين وروسيا، خصوصاً مع وجود مشاكل كبرى للبلدين مع أقليات مسلمة، مثل الإيغور والشيشان. كما أن إيران، في التقدير الأميركي، لن تكون مرتاحة لحكم حركة طالبان. علماً أن طهران، كما هو معروف، نسجت علاقات متينة مع الحركة في العقد الأخير، متجاوزةً مقتل أحد عشر دبلوماسيّاً في القنصلية الإيرانية في مدينة مزار شريف الأفغانية، عقب استيلاء طالبان على المدينة في آب/ أغسطس 1998. وفي المقابل تناست الحركة دعم طهران لـ «تحالف الشمال»، بقيادة أحمد شاه مسعود، وهو القوة الرئيسية المعارضة لحكم طالبان بين 1996 و2001. وكان تحالفاً يضمّ أقليات الطاجيك والأوزبك والهازارة (شيعة أفغانستان)، فيما كانت حركة طالبان ومازالت تعتمد على قاعدة اجتماعية عند أكثرية الباشتون (60 في المئة من السكان، وفق the world almanac 1980, p.513).
هنا، لا يمكن عزل الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، عن النزعة المهيمنة على السياسة الخارجية في واشنطن، أي مجابهة الصين. هذه المواجهة التي ستحدّد معالم القرن الحادي والعشرين. هناك عند إدارة جو بايدن، نزعة جديدة، مخالفة لاستراتيجيات كل الإدارات الأميركية السابقة منذ 1971، وكانت قد اتجهت نحو تفريق موسكو وبكين عبر استمالة أحدهما أميركياً (نيكسون وفورد وكارتر وريغان اشتغلوا على استمالة الصين، فيما مال كل من أوباما وترامب إلى استمالة روسيا، ومواجهة الصين. أما بايدن، فنلمس لديه اتجاهاً لمجابهة الصين وروسيا معاً.
يمكن أن يكون كسب حركة طالبان عاملاً مساعداً لواشنطن في هذا المسعى، حتى لو انفردت طالبان بحكم أفغانستان، بعد أشرف غني، أو شاركت أطراف أفغانية أخرى في السلطة. سيشكّل الأمر، في كل الأحوال، عاملاً ضاغطاً على باكستان من أجل إبعادها عن الصين، بحكم العلاقة التاريخية بين طالبان وباكستان، وبحكم التداخل الاجتماعي للباشتون بين أفغانستان وباكستان.
*كاتب سوري