أُعلنت، الأحد الماضي، «الجبهة الوطنية لإنقاذ لبنان وبناء الدولة». انبثقت هذه الجبهة الجديدة عن تجمّع «نداء لبنان». و«نداء لبنان»، هو بدوره، تجمّع جبهوي لم يتوافر له، منذ انطلاقته، حتى اليوم، أن يتوسّع ويتحوّل إلى حلقة في مشروع جبهوي شامل، لا يزال مفقوداً، رغم تمادي وتفاقم الأزمة المصيرية الخطيرة التي يعاني منها لبنان واللبنانيون.بدءاً، ينبغي الترحيب بكلّ محاولة لبناء إطار وصيغة جبهويين. المشروع الوطني الجبهوي هو حاجة ماسة لكل القوى الوطنية اللبنانية: تلك المنظّمة في أحزاب (معظمها ذو تاريخ عريق في الكفاح من أجل التغيير)، أو غير المنظمة: شخصيات وهيئات وفاعليات ينبغي أن تكون مشاركتها أساسية في صياغة المشروع وتنفيذه. هذه وتلك لا يجمعها مشروع واحد تحتاجه هي فقط بمقدار ما يحتاجه البلد، خصوصاً في أزمته الخطيرة الراهنة. لكنّ الترحيب المبدئي بكل خطوة جبهوية، لا يمكن أن يُعزل عن سياقها وشروطها الواقعيَّين لجهة مدى استجابتهما للحاجة الموضوعية الكبيرة الراهنة، والتي هي ذات طابع تاريخي ومصيري بكل ما في الكلمة من معانٍ.
ليس خافياً أنّ المحاولة الأخيرة ليست يتيمة أو فريدة من نوعها. إنها واحدة من محاولات عدّة، ما زالت تتلاحق، لتؤكد ليس فقط إلحاحية وأهمية العمل الجبهوي، بل أيضاً الصعوبات التي تواجه هذا العمل، وجزء أساسي منها ذاتي، بحيث جاءت المحاولات جزئية وغير مكتملة: أي غير مستوفية شروط النجاح والفعالية والاستمرارية.

القوى الوطنية وحدها القادرة
من قبيل التكرار أو التذكير أو الإلحاح، نقول إنّ العمل الجبهوي هو حاجة موضوعية لكلّ قوى التغيير التي تتشارك الكثير من الأهداف. ولكنّها في المقابل، وبسبب تشتّتها غير قادرة، على ممارسة دور مؤثّر في مجريات الأحداث بما يخدم هذه الأهداف بشكل كلّي أو جزئي. ثم إنّ هذه القوى، وهذا أمر في غاية الأهمية، هي وحدها القادرة، بسبب شمولية أهدافها التحررية، على صياغة برنامج وطني شامل لحلّ الأزمة اللبنانية التي دفعت بالبلاد والشعب نحو كارثة مروّعة ومفتوحة، دائماً، على الأسوأ. وهي، بالتالي، وبالاستناد إلى هذا البرنامج، تستطيع أن تتقدّم بمبادرات ذات طابع وطني شامل.
إنّ إدراك أهمّية العمل المشترك والسعي لبلورته في مشروع وصيغة وبرنامج وأولويات، هو خيار ثوريّ وكفاحيّ يستلزم بالضرورة، بدءاً، صحّة التحليل والاستنتاج، ومن ثمّ سلامة الوسائل والتوجّهات والعلاقات بعيداً عن الذاتية والفئوية والأنانية. بكلام آخر، فإنّ كل نشاط أو مشروع كفاحي، يتطلّب، بالضرورة، جهداً وتضحية ومبادرة وتقديماً للعام على الخاص وللمشترك على غير المشترك. إن بناء عمارة جبهوية هو عمل يحتاج، أكثر من سواه، إلى الإبداع والمثابرة واشتقاق الصيغ والتكتيكات سعياً لإحداث تعديل في موازين القوى لمصلحة قوى التغيير الوطني التي هي تقليدياً، وغالباً، حاملة برنامج شامل في عناوينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي أبعاده التحرّرية على مجمل مستويات الصراع المحلية والإقليمية والدولية.
المطلوب عمل تأسيسي يلبّي متطلّبات المرحلة ولا يكرّر أو يستنسخ التجارب القديمة أو الجديدة


القوى الوطنية، المنظّمة خصوصاً، هي التي بادرت، تاريخياً، إلى طرح ضرورة التغيير بشعاراته ومفرداته التي يجري تداولها الآن، على أوسع نطاق، ولو بكثير أو قليل من التعديل أو التشويه، خصوصاً في المقاصد والأهداف. على هذه القوى أن تُعيد استجماع نفسها وقواها لاستعادة المبادرة، ولو بشكل أولي، بما يحفظ موقعها في الخريطة السياسية التي غيَّبت نفسها عنها (بإرادتها غالباً) من خلال التشتّت وما رافقه من ضعف جعلها، بشكل عام، عرضةً للضياع أو التجاذب بين الأقوياء، ذات اليمين وذات الشمال. ذلك أساساً بسبب فقدان الموقع الموحَّد والفاعل والمستقل الذي منه وعلى أساسه تدير سياساتها وعلاقاتها وتنمّي دورها وحضورها في حالتَي التحالف أو الخلاف.
ما ذكرناه ينطبق على الأوضاع العادية، فكيف بالنسبة إلى الأوضاع الاستثنائية الخطورة التي يعيشها لبنان واللبنانيون. إنّ عدم التشكُّل في موقع وطني موحَّد، هو موقف غير مسؤول. ومن نتائج ذلك ما شهدناه ونشهده من بروز تيارات تغيير، سرعان ما يقع قسم كبير منها في شباك القوى الخارجية أو الداخلية المتربصة والمدجّجة بإمكانيات ضخمة ووسائل متنوعة لممارسة الإغراء أو التخويف. هذا الأمر جعل الكثير من الزخم الشعبي يذهب هباءً بعدما امتلأت الساحات بمئات آلاف المشاركين الذين افتقرت حركتهم إلى القيادة والبرنامج والأولويات والخطّة القادرة على تغيير التوازنات والمعادلات لمصلحة الأكثرية الشعبية التي كانت استجابتها رائعة بمقدار ما كانت خيبتها كبيرة: منذ تشوّه المشهد بتدخّل قوى متعدّدة محلية وإقليمية وخارجية، تعمل، بصراحة ووقاحة، في خدمة مشاريع استعمارية وصهيونية ورجعية، في لبنان والمنطقة.

عمل تأسيسي
المشروع الجبهوي بالمواصفات المشار إليها، هو وحده قد يؤدي إلى تعديل المشهد البائس الراهن، شريطة أن تتوفر له وفيه المواصفات المطلوبة والضرورية. لن يكون ذلك ممكناً بغير إعادة النظر في الأساليب والمقاربات بما يرتقي إلى مستوى المهمات الوطنية المصيرية، سياسياً واجتماعياً، لإنقاذ لبنان وشعبه ولصيانة مكاسبه التاريخية خصوصاً في حقل مقاومة العدو الصهيوني والانتصار عليه. وفي ضوء كلّ التجارب، فإنّ المطلوب عمل تأسيسي يلبّي متطلّبات المرحلة ولا يكرّر أو يستنسخ التجارب القديمة أو الجديدة مع ضرورة الاستفادة من دروسها ونتائجها مشروع ثلاثي الأبعاد.
المشروع الوطني الجبهوي هو، في الخلاصة، ثلاثي الأبعاد: البعد التحرّري على مستوى لبنان والمنطقة في مواجهة المشاريع الأميركية - الصهيونية. تحرير النظام السياسي من الكوتا الطائفية وبناء دولة مواطنة مدنية. إقرار خطة نهوض اقتصادي تنموي تستند إلى استثمار موارد البلاد والتحرّر من الاحتكار والتبعية، وإلى التكامل مع المحيط الصديق والشقيق.

* كاتب وسياسي لبناني