عادت دعوات مقاطعة إسرائيل إلى الواجهة، إثر العدوان الأخير على غزّة في حرب «الأيام العشرة زائد واحد» (التسمية للزميل توفيق شومان) في أيار/ مايو الحالي، والتي أحدثت من القتل بين المدنيين، ولا سيما الأطفال، وكذلك في تدمير المباني، ومن بينها المأهولة بمكاتب وسائل الإعلام، ما أثار الغضب، وبالتالي قيام حملات واسعة من التضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه، شهدتها عواصم ومدن في العالم.لفتني من بينها، إبطال المحكمة العليا في ولاية جورجيا في الولايات المتحدة الأميركية (بتاريخ 24 أيار/ مايو 2021) قرار الولاية المناهض لمقاطعة إسرائيل، بناء على شكوى مقدّمة من صانعة الأفلام الأميركية آبي مارتن، وآخرها وثائقي «غزة تقاتل من أجل الحرية»... وأيضاً توقيع ستمئة موسيقي من مختلف أنحاء العالم، رسالة دعم لحقوق الشعب الفلسطيني ومقاطعة إسرائيل.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
إنّ الدعوات لمقاطعة إسرائيل ليست جديدة، وإن كانت فلسطينياً وعربياً قد تعرّضت لاختراقات مملّة وساذجة، قبل أن نذهب باتجاه تحميل الآخرين المسؤولية، مع التأكيد على تأثيراتها الموجعة لإسرائيل مادياً ومعنوياً في ما لو حصل، مع التأكيد الأكثر أهمية أنّ مقاطعتها إنّما هو ذروة الوعي السياسي الجمعي واحترام الذات. دعوات شدّد عليها، وبتكرار قوي الأمين العام للمبادرة الوطنية، الدكتور مصطفى البرغوثي، حول أهمية وضرورة المقاطعة كسلاح داخل فلسطين المحتلّة وخارجها.
في هذا السياق، يرفد عمرو سعد الدين المكتبة العربية بكتابه الصادر حديثاً عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية «حركة مقاطعة إسرائيل - بي دي إس - بحث في الطرق والقيم والتأثير»، مبيّناً في إشكالية البحث أسبقية السياقات الفلسطينية والعربية في المشهد، قبل امتدادها إلى دول الشمال العالمي وحركتهم لمقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات منها (بي دي إس).
يُذكر أن أوّل نداء وطني إلى المقاطعة ظهر على الأرجح في مؤتمر عُقد في نابلس، في 26 كانون الثاني/ يناير 1920، من تنظيم الجمعية الإسلامية - المسيحية، وقد توجّه إلى أشخاص وأطراف من كلّ فلسطين ونادى بمقاطعة الإنتاج اليهودي في فلسطين، وعدم بيع الأراضي للمستوطنين اليهود (ص 7)، إلى أن «أُطلق نداء مقاطعة إسرائيل بي دي إس في سنة 2005 وتوجه إلى مجتمعات العالم كي تقاطع إسرائيل، وذلك لمناسبة صدور القرار التاريخي لمحكمة العدل الدولية، والذي اعتبر أنّ قيام إسرائيل ببناء الجدار على الأرض الفلسطينية المحتلّة عمل غير قانوني» (ص1).

احتجاجات... ومقاطعة
في سياق تصعيد أنواع المقاطعة التاريخية والممتدة على قرن، نلحظ تصاعد موجات المقاطعة مع موجات الاحتجاجات الفلسطينية، التي بدأت في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، مروراً بثورة 36 - 39، وكان أبرز شعاراتها المقاطعة والإضراب وعدم دفع الضرائب للانتداب البريطاني، تخلّلها انعقاد مؤتمر في بلودان في سوريا، في 8 و9 أيلول/ سبتمبر 1937، وشارك فيه 327 شخصاً من مصر والعراق وسوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين والسعودية. وساهم هذا المؤتمر في أن تشمل المقاطعة الأسواق العربية خارج فلسطين، وطُرح موضوع بيع الملّاك العرب أراضيهم للمستوطنين اليهود (ص 7-8)، (يكشف الدكتور كمال ديب في كتابه «يوسف بيدس إمبراطورية وحيتان المال في لبنان»/ دار النهار - بالأسماء والتواريخ عمليات بيع أملاك في فلسطين للوكالة اليهودية وخاصة من شخصيات لبنانية). ثم كانت «المقاطعة العربية في تصدير النفط خلال حرب 1973 إلى الدول التي تعد صديقة لإسرائيل، الأمر الذي تسبّب بأزمة نفط عالمية. وبعدها بسنتين، خاضت الدول العربية مع حلفائها في العالم معركة لعزل إسرائيل، وخرجت بالقرار 3379 من الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي نصّ على أنّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري» (ص 8 )، لكن تمّ إلغاء هذا القرار بقرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 16/12/1991 بضغط من الولايات المتحدة الأميركية التي تزعّمت النظام العالمي الجديد الأحادي.
وبالرغم من إشارة الكاتب إلى وجود «تراكمات بطيئة» من ناحية الآراء العامة للشعوب للضغط على إسرائيل، وذلك في سياق شرحه نظرية «البومِرَنغ أو الطبق المرتد» بصورة عامة، أو تحديداً في ما يتعلق بإمكان ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل، فإن - برأينا - ثمة التماعات تنحو إيجاباً ظهرت مؤشّراتها في بلدان الشمال لناحية تفهُّم مأساة الشعب الفلسطيني وحقوقه، وإن كان لا يزال من المبكر أن نعقد الرهان على تحوّلات سريعة، فالجهود لإحداث الاختراقات في هذا الميدان مثلثة الأضلاع: فلسطينية في الداخل، وعربية رسمية وشعبية، وعدالة دولية!

بعد أوسلو
صورتان يتّضح تناقضهما بخصوص دور المقاطعة نستنتجهما في سياق صفحات النص، حيث تتأكّد قيمة التحرك المتمثلة بالمقاطعة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية من جهة، قابلها «دخول كثير من المنظمات المدنية في منظمات مشتركة مع الجانب الإسرائيلي وصلت إلى نحو 500 مشروع، الأمر الذي شكّل تحولاً أساسياً في عمل المنظمات المدنية في بدايات عمل أوسلو التي دفعت في اتجاه مزيد من التشظّي في الحقل الفلسطيني» (ص50)، كما «ساهمت عمليات التمويل الدولية للمنظمات المدنية في التباعد بين العمل المدني والعمل السياسي والتركيز أكثر على موضوعات مدنية محدّدة» (ص 51).
يعرض سعد الدين مطالب ومبادرات المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل، من جانب أوساط أوروبية وأميركية، والتي ظهرت خلال الانتفاضة الأولى، ومع توالي المواجهات الفلسطينية - الإسرائيلية، والعربية - الإسرائيلية، مثل حرب تموز/ يوليو 2006 في لبنان، والتي تترافق مع أفعال التنكيل الإسرائيلية (ص 180)، في حين نشط إسرائيليون في تفاعلات الدينامية البريطانية للمقاطعة، في مطلع الألفية الجديدة (ص 195)، وقد عجّلت الانتفاضة الأولى الانشقاقات داخل المجتمع الإسرائيلي، فتبلور توجّه المؤرّخين الجدد في إسرائيل، في سنة 88، الذي كان من أركانه بني موريس (ثم تراجع) وإيلان بابه (مؤلف كتاب التطهير العرقي ومطلق النداء العالمي لمقاطعة الجمعيات الإسرائيلية أكاديمياً وترك أثره في قرار المقاطعة الأكاديمي البريطاني) وآفي شلايم (ص 199).
وإذ لا يغفل الكاتب إشارته إلى مجموعة حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان، والتي تأسّست سنة 2002 و«تعدّ الحليف العربي الأبرز لحركة المقاطعة، وذات تأثير لا يستهان به ضمن مجموعات (بي دي إس) العربية»، خصوصاً أنّها «ركّزت على المقاطعة الفنية من دون إغفالها المقاطعة الاقتصادية» (ص 277)، فإنّنا نستغرب لمزه لعلاقتها بمحيط 8 آذار السياسي في لبنان!
بقي، أنّ الفصل الخامس يتناول حراك مقاطعة إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية... علينا بالصبر؟!
* كاتبة صحافية لبنانية