«في لحظة تاريخية ما، تتغير كل الخرائط السياسية المعروفة؛ تظهر قوىً لم تكن بالحسبان للنجاح أو البروز. هناك تكمن الفرص» (فريدريك انغلز)
يخطئ من يعتقد بأن سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية يريد من ترشيحه أن يكون رئيساً فحسب. يخطئ كذلك من يعتبره مرشحاً هامشياً، هو ليس كذلك أبداً، فما يثار حوله يكفيه لاعتبار نفسه «فائزاً» باحتساب «الضجة». إذ لا تنفك قنوات خصومه السياسية على مهاجمته، حتى ليعتقد المرء بأن حظوظه كبيرة. فحتى بعد حصوله في الجلسة الأولى الانتخابية على 48 صوتاً، هو يعرف بأن حظوظه هذه المرة قليلة للغاية، والزمن قد لا يسعفه بمرة مقبلة، مع خصوم أقوياء قد يستعيدون منه زمام المبادرة.

يريد جعجع أن يترك بصمته الخاصة على السياسة اللبنانية، هو يعرف تماماً بأنه لا يمكنه ذلك طالما أنه يترأس فريقاً صغيراً. محنك سياسياً هو، يفهم بطبيعة الأحوال أن «كعكة» المسيحية السياسية يتقاسمها معه كثيرون، وسيأخذونها منه، عاجلاً أم آجلاً. ففكرة «القوات اللبنانية أم الصبي» لم تعد تنفع اليوم. فالحزب «الديمقراطي الرائد» (بحسب التعريف الموجود على صفحات الموقع الالكتروني وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي الرسمية للحزب) اليوم لم يعد هو ذاته «القوات اللبنانية» من ثمانينيات القرن الماضي، وشعارات وأعلام فرقة «الصدم» (مشابهة لفرقة المغاوير أو الصاعقة في الجيوش النظامية) التي يرفعها محازبوه لا تعني شيئاً حالياً سوى الاستعراض والبكاء على الأطلال. المشكلة أعقد من هذا بكثير. «الدكتور»، وهو اللقب الذي يستعمله الرجل بشكل دائم، مصراً عليه، مع أنّه لم يحمل شهادة الطب أبداً. استوعب بذكائه المعهود بأن المركب لا بد ستغرق، حليفه الأهم أي تيار المستقبل بدا أقرب إلى اختيارات «وسطية» للرئاسة. حزب الكتائب، عاد من القبر مجدداً، مع نشاطات سامي الجميّل، ذي الصوت الحاد والناعم، كان أبرزها بالتأكيد صلح واتفاق غير معلن مع حزب الله. وليد جنبلاط، زعيم الدروز الأكثر شهرة خلال العقود السابقة (حتى إنه ليكاد يتفوق على شهرة والده كمال لجهة قدرته على تدوير كل شيء، لا الزوايا فحسب)، يستطيع دائماً ايجاد مخرج لنفسه، ثم إنه لا يزال الزعيم الأوحد لطائفته على الرغم من بعض المطاردين الضعفاء نسبياً. الحلفاء الخارجيون لا يهتمون بشأن لبنان، إلا بحالٍ واحدة: من يستطيع قتال حزب الله؟ هكذا صراحة قالها له ذات مرة السفير السعودي العسيري، بحسب مقربين.
ما يثار حوله يكفيه
لاعتبار نفسه «فائزاً» باحتساب «الضجة»
هو يريد مواجهة مع حزب الله، لكن الأيام هذه لا تشبه وقت كانت قواته بكامل عديدها وعدتها. الغرب من جهته، لا يرى في لبنان ما يستحق الاهتمام الكبير حالياً، إلا بمقدار تأثيره على الأزمة السورية. حتى إنه تشير إحدى الصحف الغربية إلى أن سفير احدى الدول الكبرى سأل قادة من قوى الرابع عشر من آذار، «هل يستطيع أحدكم التأثير على حزب الله وتدخله في سوريا، بشكلٍ حقيقي، وليس إعلامياً؟»، صمْت الحاضرين، يومها، كان بليغاً للغاية. وجد قائد القوات ضالته في ميشال الفترياديس. الفترياديس المتعهد الموسيقي والفني والذي هاجم جعجع في أكثر من مرة، الأمر الذي اضطر «الدكتور» إلى رفع دعوى قضائية عليه، كان ومن دون أن يعلم، التجربة التي يحتاجها جعجع للعودة إلى الأضواء مجدداً. فالمتعهد الموسيقي اللبناني معروف بشخصيته الفريدة فضلاً عن سلوكه الاستعراضي الأمر الذي يجعله أكثر شهرةً من أغلب الفنانين الذي تعامل معهم، وإلا فلماذا يستضاف الرجل على كل الأقنية الفضائية والأرضية من دون أي رصيد فني شخصي من أي نوع؟ إنها «الضجة!»، قوة الإعلام في عصر يمثل الإعلام حجر الزاوية فيه. جعجع، الذكي للغاية، جرّب قوة الإعلام قبل مدة من الزمن حينما أشار إلى محاولة اغتيال تعرّض لها، ووسمها بالقدسية الشديدة، من حيث اختيار «وردة» يهبط لقطفها، فينقذه سلوكه «البريء» في اللحظة الأخيرة من القتلة المجرمين! قد تنفع هي كقصة للأطفال، لكن الإعلام اللبناني ابتلعها، وطبّل لها مؤيدو القوات، على جميع الأصعدة، حتى أن بعض «قادة» القوات دافعوا عن الأمر بحدة بالغة أحياناً!
لكن قضية الوردة، وقضية الطائرات فوق معراب (المقر الدائم للدكتور) وحتى قضية خلافاته مع زوجته، كلها استنفذت مداها المؤثر، ففي النهاية يملّ الشارع اللبناني من «الشائعات» وحديث الـGossip (التي تحمل بالانكليزية معناً أكبر من مجرد شائعة فهي أقرب إلى أسلوب حياة). في تلك اللحظة يموت الرجل، حينما لا يتذكره أحد. حينما لا تظهر أخباره على صفحات الجرائد. هو يعرف أن خصومه يهاجمونه، ويشتمونه، وبشدة. لكنه يريد ذلك، هو يطبق قانون وارين بافيه الأشهر: «ليس هناك من ضجة سيئة، أو إعلان سيء، في النهاية إنه إعلان! استغلوه». لكن ذلك أيضاً لا يكفي. يريد أن يكون في الواجهة، في قلب الحدث. يعرف أن حلفاءه لن يرشحوه إذا لم يدفعهم هو إلى ذلك؛ لذلك استجمع قواه، كل صلابته الذاتية التي جمعها من سني علاقته بالسلاح وقتله لكثيرين، حتى من كراهيته لحزب الكتائب (من ينسى معارضته الشهيرة لإغلاق حاجز البربارة الأمر الذي أدى لطرده من حزب الكتائب؟ أو محاولته اغتيال أمين الجميل التي تحدث عنها ايلي حبيقة مراراً؟ أو خسارته انتخابات رئاسة حزب الكتائب بفارق 7 اصوات فحسب؟)، وأركان حزبه، وقرر إعلان ترشحه للرئاسة. في الأيام الأولى غازل حزب الله، حاول أن يتقرّب منه، أن يجد طريقاً للوصول إلى القوة الأعتى في لبنان. لم ينجح، هو كان يقامر بالأمر، مطبقاً مثلاً مصرياً يقول: «يا رب تيجي في عينه»، فإذا ما استجاب حزب الله، ركض إلى تفاهمٍ معه، وإذا لم يحصل الأمر أثبت حسن نيةٍ تجاه كثيرٍ من لبنانيين لم يحسموا موقفهم منه بعد، فضلاً عن إبقاء صورته كقديس قريبةً للغاية. إذا ماذا بعد؟ أعلن الرئيس -الذي لن يكون- ترشحه، ثم أعلن برنامجه، ما هي الخطوة المقبلة؟ هل سيلجأ إلى مناظرات كلامية مع غيره من المرشحين؟ مع جان عبيد مثلاً؟ أو العماد قهوجي؟ فهذان الاسمان هما الأبرز حظاً خلال المرحلة المقبلة، الأول إذا ما وصلت الصراعات إلى أشدها بين الأطراف، إذ يأتي كحلٍ وسطي شبيه بالمرشح الدائم مخايل الضاهر، أما الثاني فهو الحل الأمني، القريب من جميع الأطراف، المتوازن بشكلٍ مفهوم. هو يعرف بأنه لن يناظر أياً منهما، لا لسبب إلا لأنه يعتبر نفسه أكبر وأهم منهما معاً، فهو قديس أولاً عن آخر، ومحارب ثانياً، وقائد منتصر أخيراً. هو يعتقد بأنه يقارن بشخص واحد في لبنان، السيد حسن نصرالله، لماذا؟ كلاهما قائدا مقاومة، كلاهما مكللان بالقدسية، وكلاهما منتصران، كيف يبدو ذلك جلياً؟ رده الدائم على خطابات السيد، حتى ليشعر المتابع بأنه ينتظر خطابات السيد أكثر من محازبي حزب الله ومؤيديه! على ماذا يراهن الدكتور جعجع إذاً؟ هو يراهن على المفاجآت. في البداية راهن على الثورة السورية، وطبّل لها، رغم كرهه للأمر، لكن الثورة تكاد تنتهي والأسد باقٍ، وحزب الله يزداد قوةً؛ راهن على الحركات الإسلامية التكفيرية التي بدت أنها قادرة على ضرب حزب الله في عرينه (الضاحية الجنوبية) ولكن الأمر فشل، راهن على مغامرات غير تقليدية لرئيس المخابرات السعودية المعزول بندر بن سلطان، راهن وراهن، لكنه يعرف أنه في السياسة لا تنتهي المفاجأت. فالمفاجآت التي يحلم بها جعجع يريدها في الداخل الإيراني مثلاً، أو الداخل العراقي مثلاً، فحرب عراقية ـ إيرانية تغيّر شكل المنطقة بأكملها، أو حرب إسرائيلية على المنطقة (لبنان -سوريا) تأتي به كرئيس على الدبابات الإسرائيلية مثلاً؟
هل سيحدث هذا؟ لا، إذ لا يبدو أن أياً من أحلام «الدكتور» قابل للتحقق! وفي غضون ذلك؛ سيبقى هو يحلم بأنه في اللحظة الأخيرة، سيرن الهاتف ليقول له –أي كان-: دكتور جعجع نحن بحاجة إليك، الكرسي بحاجة إليك. أرجوك تعال كي تصبح رئيساً للبنان!
* كاتب فلسطيني