يتزامن عيد المقاومة والتحرير في لبنان، هذا العام، مع انتفاضة الشعب الفلسطيني ومقاومته البطلة ضدّ الاحتلال الصهيوني. وتشكّل هاتان المناسبتان محطّة مضيئة في مسيرة الكفاح والنضال، من أجل التحرّر الوطني والاجتماعي لشعوبنا العربية، فيها ومن خلالها، توحّدت دماء الشهداء، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، في وحدة المصير والمواجهة. فكلّ التحية إلى شهداء هذه المسيرة التي دفع فيها حزبنا ضريبة الدم والتضحيات منذ تأسيسه للحرس الشعبي، وقوات الأنصار، وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمّول»، مروراً بمقاومته لكلّ مشاريع التقسيم والفدرلة. والعهد لكلّ الشهداء على متابعة هذه المسيرة على درب التحرير والتغيير الديموقراطي، درب الخلاص من المنظومة الحاكمة ونظامها السياسي الطائفي، المولّد للأزمات بتبعيته واستغلاله الطبقي، درب تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشرقي من بلدة الغجر، ومنع التوطين وحماية الثروة النفطية، وعدم ترك الشعب الفلسطيني وحيداً في هذه المعركة، وتقديم كلّ الدعم والإمكانيات لمقاومته المنتصرة.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
نعم لقد انتصرت فلسطين بانتفاضة شعبها ومقاومته البطلة التي سطّرت على مدار أحد عشر يوماً صفحة مجيدة من تاريخها المقاوِم ضدّ العدو الصهيوني، وآلة حربه الإجرامية، بحيث حوّل الشعب الفلسطيني الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة إلى نكبة للكيان العنصري الغاشم. لقد كان الثمن باهظاً دماً وشهادةً ودماراً، إنّما «بقدر هذا الحزن الكبير على فقدان المقاومين الأبطال والأطفال والأهل الذين استشهدوا، بقدر ما ستكون فرحة الانتصار النهائي لشعبنا كبيرة»، قالها أحد الرفاق المقاومين في كتائب الشهيد أبو علي مصطفى.
إنّه انتصار للروح الوطنية الفلسطينية، التي تجسّدت بالقرار الموحّد بإطلاق الانتفاضة والمقاومة بكلّ الأشكال السياسية والعسكرية والشعبية والإعلامية، ومن كلّ القوى والفصائل الفلسطينية استجابة لأهالي حي الشيخ جراح والقدس، وهو القرار الذي أعاد الاعتبار لمقاومة الاحتلال في هذه الحرب المفتوحة على كامل أرض فلسطين التاريخية.
إنّه انتصار للوعي الجمعي على صفقة القرن وأوسلو وكلّ مفاعيل التسويات والانقسامات والتنسيق الأمني مع الاحتلال، وعلى استحالة «التعايش» معه، وهو ما أكّدته انتفاضة فلسطينيي عام 1948. كما هو انتصار على مستوى الإقليم ضدّ أنظمة التطبيع العربية وخيانة حكّامها الشركاء في هذا العدوان، حيث تظاهرت شعوبنا العربية تضامناً مع الشعب الفلسطيني ومقاومته، فأسقطت كلّ اتفاقيات التطبيع مع العدو الصهيوني، وأدانت الصمت المخزي لحكّام التطبيع تجاه جرائم العدو وقتله للأطفال الأبرياء والنساء والمدنيين العُزّل.
لقد ضاقت الجماهير الفلسطينية والعربية ذرعاً بسياسات الاستجداء والانتظار والخيانة والتطبيع، فاتّخذت زمام المبادرة وأطلقت ما يشبه الحرب الشعبية الشاملة والمفتوحة التي كانت القدس شرارتها وفلسطين مساحتها من غزّة إلى الضفة إلى النقب والجليل ويافا واللّد وفي كلّ مدينة وقرية. إنجازات سياسية تحقّقت، في هذه المواجهة، في مقدّمها التأكيد على أولوية القضية الفلسطينية كقضية مركزية بأبعادها الوطنية والقومية والأممية، والتي يجب أن تنهي كلّ مفاعيل الاتفاقيات السابقة مع العدو التي تجاوزتها المعركة.
وفوق ذلك، هناك إنجازات مهمّة تحقّقت أيضاً، حيث تمكّنت الانتفاضة الفلسطينية ومقاومتها، من كسب تأييد الرأي العام العالمي، على رغم تضييق وانحياز بعض وسائل التواصل الاجتماعي ضد الانتفاضة والقوى المؤيّدة لمقاومتها، ولا سيما «فايسبوك» الذي أغلق العديد من الصفحات للقوى المؤيّدة للقضية الفلسطينية. لقد نجحت الانتفاضة في كشف طبيعة الكيان الصهيوني على حقيقته أمام الرأي العام العالمي، بصفته كيان احتلال وفصل عنصري، مع رؤيته لجرائمه بالصوت والصورة والمقاطع الإخبارية لمشاهد القصف وأعمال الإبادة الجماعية وتدمير الأبراج والبيوت السكنية على رؤوس المدنيين العُزّل وقتل المتظاهرين في الضفة والقدس وفي سائر المدن المنتفضة. لقد رأى بأمِّ العين عمليات انتشال جثامين الشهداء والأطفال من بين الأنقاض، واستهداف العدو للبنية التحتية في غزّة وضربه لمراكز المؤسّسات الإعلامية لإقفالها ومنعها من نقل الصورة الحقيقية إلى شعوب العالم عمّا يرتكبه من جرائم.
إنجازات عسكرية وميدانية تحقّقت أيضاً، في مقدّمها زيادة القدرات العسكرية للمقاومة التي استمرّت بإطلاق الصواريخ حتى إعلان وقف إطلاق النار، وهي التي نجحت في نقل المعركة إلى عمق الكيان الصهيوني الذي يعيش أزمته الداخلية وانقساماته غير المسبوقة، بينما الشعب الفلسطيني كان موحّداً حول مقاومته وانتفاضته التي غطّت كامل الأرض الفلسطينية، وكانت لديه الإرادة والعزيمة والقدرة على متابعة المعركة حتى النهاية مهما بلغت التضحيات.
لقد نجح المقدسيون في الحفاظ على باب العامود ومدرّجاته كحيّز عام لهم، وكنقطة انطلاق للدفاع عن القدس القديمة وكجسر يربطها بالأحياء المقدسية في الخارج، كما نجحوا في وقف إمرار قرار المحكمة العليا الصهيونية الذي كان من المفترض أن يؤمّن «غطاء قانونياً» لضمّ بيوت المقدسيين في حي الشيخ جراح، لكن المواجهة لم تنتهِ وهي لا تزال مستمرّة مع هجمات الكرّ والفرّ لجيش الاحتلال والمستوطنين عند مداخل حي الشيخ جرّاح وباحة المسجد الأقصى بالرغم من قرار التهدئة ووقف إطلاق النار.
وإذا كان الانتصار مهماً، فالأهم هو المحافظة عليه، وتوظيفه في المعركة السياسية المستمرة، وعدم تبديده بالعودة إلى حال الانقسام، والتفاوض مع العدو وتقديم التنازلات. فالمطلوب اليوم هو البناء على ما تحقّق من إنجازات خاصة في تثبيت الوحدة الوطنية الفلسطينية على أساس المقاومة بأشكالها المختلفة السياسية والشعبية والعسكرية والإعلامية، ودعم الصمود الشعبي والاهتمام بعائلات الشهداء وإيواء من دمّرت منازلهم، وجني ثمار ما تحقّق من نتائج في متابعة العمل لإطلاق المعتقلين والأسرى وحملات الدعم والتضامن العربي والأممي التي يجب أن لا تتوقف من أجل تثبيت هزيمة العدو «وجيشه الذي لا يقهر» والقضاء على المستقبل السياسي لبنيامين نتنياهو، وفي ذلك زيادة في الإرباك والانقسام المجتمعي في الكيان الصهيوني وتعميق لأزمته السياسية الداخلية المتمثلة في عدم قدرته على تشكيل الحكومة للمرة الرابعة لإجراء الانتخابات.
المطلوب إذن: عدم العودة إلى الوراء، والحفاظ على قيمة هذا الانتصار الذي يشكّل عنواناً لإنهاء الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال وإنهاء نظام الفصل العنصري والتطهير والإلغاء عبر متابعة مسيرة المقاومة حتى التحرير الكامل للتراب الوطني الفلسطيني وإقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين.
ونحن على يقين بأنّ هذا الانتصار ستتبعه انتصارات أخرى، تؤدّي بنتائجها إلى فشل المشروع الصهيوني، وسقوط وظيفة هذا الكيان السياسية والعسكرية والاقتصادية، باعتباره قاعدة متقدّمة للسيطرة الإمبريالية الأميركية والغربية على منطقتنا العربية. فبعد مرور أكثر من مئة عام على وعد بلفور باقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه لإحلال الكيان الصهيوني عليها، وبعد كلّ ما قيل ويُقال على لسان غلاة الصهاينة إنّ «كبارهم سيموتون وصغارهم سينسون»، فها هو الشعب الفلسطيني - بكباره وصغاره - ينتفض ويقاوم وبشجاعة قلّ نظيرها، وفي كلّ فلسطين من بحرها إلى نهرها وفي كلّ بلدان الشتات، حاملاً علم فلسطين، متمسّكاً بهويته الوطنية الفلسطينية - جيلاً بعد جيل - ومعه كلّ أشكال التأييد والدعم من أحرار العالم أجمع، الذين عبّروا عن تضامنهم مع قضيّته المُحقّة في تظاهرات شعبية شارك فيها ملايين المواطنين في مختلف بلدان العالم.
أمام كلّ هذه الوقائع والمتغيّرات المهمّة التي تبدو في بداياتها، ستتسارع أكثر فأكثر وتيرة خطوات التقدّم ربطاً بتغيير موازين القوى، وهو الجديد الذي انعكس على الأرض في هذه المعركة وترك تأثيره المباشر عليها باعتبارها حلقة من حلقات الصراع الدائر في الإقليم وعلى المستوى الدولي من أجل قيام نظام عالمي جديد ينهي نظام الهيمنة الإمبريالية الأحادي القطبية للولايات المتحدة الأميركية على العالم.
* افتتاحية العدد الأخير من مجلة «النداء»
* الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني