تعدّدت المواقف العمليّة حول واقع التحرّش الجنسي في الكنيسة، وحاولنا تحليل بعضها في مقالتين [1]، وسنحاول هنا أن نستدل من الفصح الذي عيّد له المسيحيّون منذ فترة وجيزة، الموقف الفصحيّ السليم في مواجهة هذه الحالات الواقعيّة.يعتقد البعض أنّ مواجهة المسؤولين الكنسيّين لحالات التحرّش الجنسي في الكنيسة سيمثّل فضيحة تجاه الطوائف الأخرى، وينطلق هؤلاء من موقف طائفيّ اجتماعيّ صرف للتغطية على جريمة، والدوس على كرامة الإنسان، في قلب الكنيسة التي بذل مؤسّسها نفسه من أجل أن يحيا الناس بكرامة وحرّية وحبّ. إنّ هذا المنطق الذي يفكّر من خلاله كثير من العلمانيين ورجال الدين، يغلّب معطيات ثقافية متخلّفة، على لبّ الإيمان المسيحي، وعلى متطلّبات الإيمان بالقيامة.

بعض آخر، يظنّ نفسه وليّاً على الناس وأعلى مرتبة في الإيمان منهم، فيعلن أنّه «يخاف» أن يهتزّ إيمان بعض المؤمنين بفعل كشف جرائم كهذه، فيقول إنّه يفضّل أن نسكت عن الموضوع «كي لا نشكّك إخوتنا الضعاف». هؤلاء يحرصون على مشاعر بعض المؤمنين، ويخافون أن تُجرَح، ولا يأبهون لمشاعر وكرامة الضحايا، وهذا التناقض يفتضح ضعف هذا المنطق المتناقض. ولا يتنبه هذا البعض، أنّه بموقفه هذا هو لا يعزّز إيمان الناس وإنّما أوهامهم، تلك الأوهام القائمة على أنّ الكنيسة لا تحتوي سوى أناس متحلّين بالفضائل، وبأنّه من الممكن معاملة إنسان حيّ على أنّه قدّيس لمجرّد أنّه ارتدى اللباس الكهنوتي أو الرهباني، وهو وهمٌ يؤدّي إلى ذهنيّة سطحيّة وتعامل سحريّ مع رجال الدين ومع الله نفسه. كما أن هذا البعض لا يتنبه إلىّ أنّه بمحاولته تغطية الجرائم بحجّة «ضعف» إيمان البعض الآخر، يساهم في ترسيخ القهر والدوس على الكرامات، ويعرقل بموقفه هذا محاولة الوقوف إلى جانب الضحايا وردع المعتدين؛ بل يساهم في إضعاف الإيمان لأنّه يحكم على المؤمنين بأن يتعاملوا بشكل غير واقعي مع العالم الذي نعيش فيه.
لا نودّ أن نرى المسؤولين عن تطبيق القوانين الكنسيّة يخونون الفصح

ماذا يقول الفصح لنا بخصوص حالات التحرّش الجنسيّ في الكنيسة؟
توضح رسالة الفصح التي صدرت عن مطرانيّة طرابلس للروم الأرثوذكس بأنّه «كلّما بقينا أمناء على كلمة الله، نذوق حلاوة الفصح، حلاوة قيامة المسيح، بما انّه قد دشّن بقيامته الكون الجديد»، ولكنّ الأمانة لكلمة الله واستباق الكون الجديد يقتضيان بألا تتصالح الكنيسة مع العتاقة، مع الخطيئة، مع الجريمة، بل أن تواجهها جميعاً؛ الأمانة لكلمة الله تقتضي منع التحرّش لا العلم به، والسكوت عنه لعشرات السنين! كون المؤمن المسيحي مؤمن بقيامة يسوع يعني بالضرورة عدم إسكات أصوات الضحايا، ويعني الإصغاء إليهم والوقوف العملي الواقعي إلى جانبهم، بالعمل على مواجهة المرتكبين وكفّ تحرّشهم.
من ناحية أُخرى، توضح رسالة البطريركيّة الأرثوذكسيّة في رسالة الفصح أنّ رسالة أبناء القيامة هي «كلمةٌ فصل بين استكانةٍ لصوت محبةٍ وتسامح، واستكانةٍ لمنطق استباحةٍ ورضوخ»، وهذا يعني أنّ الإنسان الفصحيّ لا يستكين في الكنيسة أمام الشرّ والفسق والاعتداء والعنف الجسديّ واستباحة الكرامات واختصار الآخرين بأجسادهم واستغلالهم، واستغلال المنصب الكنسيّ، وخيانة رسالة المسيح، وهذا كلّه يشكّل لبّ جريمة التحرّش الجنسيّ. معنى رسالة الفصح البطريركيّة أنّ كنيسة يسوع المسيح لا رضوخ فيها أمام هذه كلّها ولا تغطية لها، وإلاّ فقدت معنى كونها كنيسة وغدت مؤسّسة «من» هذا العالم. ورسالة البطريركيّة نفسها تشدّد قائلة «نحن كلمةٌ في وجه منطق الصدام، إلا أن هذا لا يعني أننا كلمةُ رضوخ واستكانة في وجه من يستبيح إنساننا ومقدساتنا»؛ هذا الكلام لا ينطبق فقط على الوضع السوريّ وإنّما على كلّ وضع يسحق الإنسان، المقدّس الحيّ كونه «هيكل الله الحيّ». ومن هنا فإنّ هذا الكلام يعني أنّ الواجب الفصحيّ الكنسيّ هو ألا يرضخ المسيحيّ، أكان علمانيّاً أم كاهناً أم مطراناً أم راهباً، أمام واقع التحرّش الجنسيّ، وألا يستكين في وجه مَنْ استباح الشباب، الذين طلبوا إرشاداً روحياً فلقوا معتدياً جنسيّاً استباح إنسانيّتهم، هم المقدّسون أعضاء جسد المسيح.
في غمرة الفترة الفصحيّة، ومراجعة أحداث التحرّش الجنسيّ في الكنيسة، لا نودّ أن نرى المسؤولين عن تطبيق القوانين الكنسيّة يخونون الفصح. ففي قضايا التحرّش الجنسيّ خان مسيحيّون – علمانيّين وكهنة ومطارنة ورهباناً - المسيحَ ثلاث مرّات. خانه بعض عندما ارتكبوا جريمة التحرّش الجنسيّ بقاصرين وشباب، وخانه بعض الآخر عندما عرفوا بتلك الجرائم وسكتوا عنها، ويخونه حاليّاً بعض الآخر عندما يحاولون أن يغطّوا على تلك الجرائم بعد افتضاح أمرها. فهل تشكّل صرخات الضحايا التي وثّقتها إحدى المطرانيّات صيحةَ يقظة، فعودة إلى فصح متجسّد في الحياة؟
كما أوقظ صياح الديك بطرس من خيانته، نتمنّى أن يَصْحو الذين يخونون، فيعودوا إلى المسيح مدافعين عنه في الضحايا، ويؤسّسوا بُنى حديثة في الكنيسة لمواجة منهجيّة لهذه الحالات في المستقبل، وإلاّ فإنّهم سيتابعون مسيرة يهوذا، مُعطين المسيح قُبلةً غاشّةً أمام الأيقونات، ومُسَلِّمينَه للصلب في الضحايا؟ نتمنّى أن يصحو مَنْ يخْطُر لهم أن يكتموا أصوات الضحايا، وألا يسيروا مسيرةَ قيافا (رئيس الكهنة أيّام يسوع) مفضّلين أن تُصلَبَ ضحيّة بريئة من أن تحدث بلبلة في الشعب.
هل سنرى فصحاً مجيداً؟ هل سنصرخ «حقّاً قام المسيح » في حياة المؤسّسة الكنسيّة؟
* أستاذ جامعي

هوامش:

[1] «التحرّش الجنسيّ في الكنيسة بعيون مؤمن»، «الأخبار»، العدد ٢١٧٣، الأربعاء ١١ كانون الأول ٢٠١٣
و«التحرّش الجنسيّ بين انغلاق الجماعة وعبادة الشخص»، «الأخبار»، العدد ٢٢٦٥، الاثنين ٧ نيسان ٢٠١٤.