تلوح في الأفق السياسي محاولات لإعادة إنتاج نوع من السلام يكاد يشبه ما جرى قبل ثلاثين عاماً في "مؤتمر مدريد"، وما تبعه من مفاوضات سرية في "أوسلو" أفضت إلى دخول القضية الفلسطينية دوامات متعاقبة من "سلام الأوهام".بين العاصمتين الإسبانية والنرويجية جرت مناورات ومساومات وتنازلات جوهرية في صلب القضية الفلسطينية، من دون أن يترتّب عليها أيّ سلام على أيّ أرض، كأنّه "سلام بلا أرض"، بتعبير المفكّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، أو "سلام الأوهام"، بتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
التاريخ لا يعيد إنتاج نفسه، فالدنيا تغيّرت وموازين وحسابات القوى في العالم والإقليم اختلفت، لكن دروسه تدقّ صفارات الإنذار في المكان، حتى لا تتكّرر الخطايا القديمة من جديد.
لم يسفر "مؤتمر مدريد" عن شيء، ولا كان وارداً أن تلتزم إسرائيل بشيء. تحدثت في المباحثات المتعدّدة الأطراف، التي ضمّت الوفود العربية (الأردن وسوريا ولبنان) عن التطبيع والتعاون الاقتصادي الإقليمي، قبل أن تتحدّث في أيّ انسحابات يقتضيها الحديث عن السلام!
لم تعترف أنّ هناك فلسطينيين، أصرّت على أن يمثّلوا ضمن الوفد الأردني وألا يكون من بينهم أحدٌ من بين أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، ومع ذلك طرحت القضية نفسها على الرأي العام العالمي بقوة الحقائق.
خشيت القيادة الفلسطينية في تونس سحب البساط من تحت أقدامها، أو أن تكون هناك قيادة بديلة، فقفزت إلى "أوسلو" من خلف الوفود العربية، وتوصّلت إلى أسوأ اتفاق في التاريخ!
لم يكن ممكناً إجهاض نتائج الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجر، من دون اتفاقية "أوسلو".
شيءٌ مقارب قد يحدث الآن بهدف إجهاض انعطافة ما جرى في الأراضي المحتلّة حيث تأكّدت وحدة الشعب والقضية بالسلاح والاحتجاج والوجدان على مجمل فلسطين التاريخية والشتات.
في أول مقاربة للمستجدات العاصفة، بدت الإدارة الأميركية الجديدة من دون خطة عمل محدّدة، أو أفكار واضحة تقود خطواتها المقبلة.
بدت زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن للمنطقة أقرب إلى "عملية استكشاف" لما يمكن أن تطرحه الولايات المتحدة مستقبلاً لحلحلة أزمة مزمنة تهدّد وتنذر بانفجارات أوسع وأخطر، وقد تلحق بإسرائيل هزيمة استراتيجية لا يمكن تحمّلها.
تضمّنت أفكاره الأولية مفارقات وتناقضات يصعب أن تضمّها خطّة عمل متماسكة تفضي إلى نوع من السلام قابل للحياة. قال إنّه جاء للمساعدة في تثبيت وقف إطلاق النار، وهذا هدف يكاد يكون هناك إجماعٌ دوليٌ وإقليميُ عليه.
وقال إنّ بلاده سوف تعمل على بناء منظومة دولية تحشد المساعدات لإعادة إعمار غزة، التي تعرّضت منازلها وأبراجها وبنيتها التحتية لأوسع عملية هدم وترويع من جرّاء القصف الهمجي الإسرائيلي، من دون إدانة العدوان نفسه، وما ألحقه بالمدنيين العزّل، نساءً وأطفالاً، من تقتيل وتشريد، بحسب تقارير المنظمات الدولية الإنسانية.
كان ذلك تناقضٌ في بنية الكلام الدبلوماسي الأميركي، باسم "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، من دون أن يمتدّ الحق نفسه إلى الضحية المعتدى عليها!
المسألة الإنسانية مهمّة، لكنّ القضية في البدء والمنتهى قضية تحرّر وطني لشعب رازح تحت الاحتلال. ثم كان استبعاد حركة "حماس"، التي تسيطر على قطاع غزّة المحاصر، من جهود الإعمار، إمعاناً في مجافاة الحقائق على الأرض.
لا يمكن تمرير أيّ مساعدات من غير طريقها، كما لا يمكن الحديث عن أيّ سلام من دون أن تكون طرفاً فيه، وإلّا فإنه تحليق جديد في أوهام السياسات والرهانات وانزلاق إلى فشل محتّم.
القيادة الإسرائيلية الحالية لا تقبل بـ"حل الدولتين" ويستحيل عليها تقبل "فكرة الدولة الواحدة"


تتبدّى عند ذلك المنزلق مفارقة مواقف بين الخارجية الأميركية وشركائها الأوروبيين، الذين يدعون إلى صيغة حوار غير مباشر عبر مصر ودول عربية أخرى مع "حماس" يمهّد لما بعده.
الوزير الأميركي لمح إلى المعنى نفسه، من دون أن يذكره بصريح العبارات، عندما دعا إلى إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس حتى يكون ممكناً الحوار مع الفلسطينيين، بينهم "حماس" بالضرورة، من دون حاجة إلى السفارة الأميركية، التي نقلت إلى القدس المحتلّة برعاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
كان ذلك نصف إقرار بما ترتّب على ذلك النقل من تجاوزات قانونية واستراتيجية فادحة، لكن ما حدث قد حدث ولا تراجع أميركياً عنه.
وقف التصعيد في القدس كلام دبلوماسي آخر يفتقر إلى أيّ التزامات تلجم جماعات المستوطنين مدعومين من الأمن الإسرائيلي عن التحرّش بالمسجد الأقصى وممارسة التهجير القسري بحق الفلسطينيين في حي "الشيخ جرّاح".
التحرّش عاد مجدداً عقب توقّف العمليات العسكرية وحملات الاعتقال، التي شملت مئات الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر في المدن العربية، أو المختلطة.
ما تريده إسرائيل هو "تعزيز التطبيع"، هكذا بالحرف تحدث بنيامين نتنياهو أمام بلينكن، في مؤتمر صحافي مشترك، من دون أن يكون مستعدّاً لدفع أيّ استحقاق.
باليقين، فإنّ التطورات العاصفة وجّهت ضربة مزلزلة إلى هرولة التطبيع، فلا إسرائيل اليد الطويلة، التي تتحكّم في مصائر المنطقة - كما ثبت في ميادين المواجهات - ولا هي دولة متماسكة تضمن مستقبلها حيث بدأت ترتفع داخلها تساؤلات عن قدرتها على مواجهة أيّ أزمات أكثر اتساعاً.
الكلام الإسرائيلي عن قدرتها على التصرّف بمفردها لمنع حيازة إيران للسلاح النووي يتجاوز قدرة الدولة العبرية، التي بدت في حالة انكشاف استراتيجي أمام صواريخ المقاومة المسلّحة، رغم فوارق القوة والتسليح والقبة الحديدية، التي عجزت عن الحد من خطورتها.
بصورة أو أخرى، فإنّ حركة الحوادث مرشّحة لإعادة استنساخ "مؤتمر مدريد"، الذي عقد خريف عام 1991، أحاديث عن السلام من دون أن يكون هناك سلام، أو شبه سلام، واستهلاك ما تحقّق في المواجهات الأخيرة داخل سراديب لا تعرف أوّلها من آخرها، من دون آليات تفاوض معلنة وجداول زمنية ملزمة ومرجعيات دولية تحترم.
الأجواء الدولية والإقليمية، التي استبقت "مؤتمر مدريد"، تكاد تتلخص في ثلاثة تطورات جوهرية:
الأول، تصدّع جوهري في بنية النظام العربي بعد اجتياح الكويت وحصار العراق وعزله تمهيداً لضربه وتقسيمه. كان ذلك داعياً - بعد "اتفاقية كامب ديفيد" وخروج مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي - إلى محاولة إنهاء الصراع نفسه بنوع من السلام لا يؤسّس دولة على أرض، أوّلها سيادة على قرار.
الثاني، تصدّع الاتحاد السوفياتي السابق بعد سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية وجناحها العسكري حلف "وارسو" وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي بمفردها. لم يكن للاتحاد السوفياتي، وهو يحتضر، أيّ أدوار باستثناء جلوس ممثليه على منصات المؤتمر!
الثالث، انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في أجواء ما بعد الحرب الباردة، وكان ذلك داعياً إلى محاولة أن تكون هناك مقاربة مماثلة في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
في الأحوال المستجدّة، الولايات المتحدة ليست وحدها، كما كانت الحال في "مدريد". على الأغلب، سوف تُسند إلى الرباعية الدولية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) مهمّة الدعوة إلى حوار يستأنف مباحثات السلام. روسيا الطموحة تحاول أن تتمركز في قلب تفاعلات الشرق الأوسط، والاتحاد الأوروبي يحاول أن يبحث عن أدواره ومصالحه قريباً من الولايات المتحدة لكن ليس داخل عباءتها، والصين المنافس القوي على زعامة النظام الدولي الجديد تنظر إلى ما قد يحدث ودورها فيه.
المعضلة الكبرى في أحاديث السلام المنتظرة أنّ العالم العربي ممزّق - مشرقه النار مشتعلة فيه ومغرّبة منكفئ على نفسه، فيما القلب مصر تحاول ترتيب أولوياتها وقضية سدّ النهضة تضغط على أعصابها.
على الجانب الآخر، فإنّ القيادة الإسرائيلية الحالية لا تقبل بـ"حل الدولتين"، ويستحيل عليها تقبّل "فكرة الدولة الواحدة"، ليست مستعدة لأن تتنازل عن أي شيء.
في "مؤتمر مدريد" كان نتنياهو متحدّثاً رسمياً باسم الوفد الإسرائيلي، الذي لم يكن رئيسه إسحق شامير مستعدّاً لأن يقدّم أدنى تنازل، حتى لو استمر الفلسطينيون في التفاوض عشر سنوات، كما يروي في مذكّراته وزير الخارجية المصري في ذلك الوقت عمرو موسى.
السياسة نفسها سوف تتّبع هذه المرة إذا ما قدر أن يلتئم مؤتمر مماثل. في "مؤتمر مدريد"، اكتسب التمثيل الفلسطيني شرعيته من "منظمة التحرير الفلسطينية"، رغم ما أبدته قيادتها من حساسيات مفرطة لا لزوم لها، هذه المرة قضية الشرعية تطرح نفسها بإلحاح غير مسبوق.
الشرعية تستدعي وحدة سياسية فلسطينية، كما التنبّه إلى عدم الوقوع مجدداً في الفخاخ القديمة.

* كاتب وصحافي مصري