تطالعك بشكل صارخ كل يوم صور القتلى التي يتباهى كل طرف من الأطراف بعرضها عبر مواقع التواصل أو الشاشات أو غير ذلك من وسائل الإعلام. وتدفعك كمية الدم السوري الذي يسفك على الأرض السورية إلى التساؤل عن المبررات المقنعة التي تقف خلف عمليات القتل المتبادل بين جميع مكونات الأزمة المتقاتلة فيما بينها فراداً وجماعات، وباتجاهات متناقضة ومتباينة ولأهداف اختلفت، وتوزعت من الغاية السامية إلى العبثية مروراً بجميع تصنيفات القتل القذرة.
ويفرض عليك البحث عن هذه المبررات أن تكون دقيقاً وتفصيلياً في دراسة جميع تفاصيل وعقد تركيبة النسيج البالغ التعقيد الموجودة على الأرض، وبالتالي يجب عليك تلمس الخيوط مهما بلغت دقتها وشفافيتها ومساحة حضورها وأهميته، ومتابعة هذه الخيوط لمعرفة من يمسك بآخرها ويقرر أو يشارك في صياغة الشكل النهائي لهذا النسيج.
أرقام القتلى والخسائر المادية وإحصاءات الخراب والدمار وعدد المهجرين واللاجئين والمفقودين والمتضررين، وتقديرات التكاليف لإعادة الإعمار واسترجاع البنى التحتية التي دمرت. كل تلك الأرقام وغيرها تجاوزت في السنوات الثلاث للأزمة السورية حصيلة سنين وعقود لجميع الأزمات في المنطقة بل وفي العالم. ويبقى المثل القائل (بالمال ولا بالعيال) مؤشر رضا واستسلام للقضاء والقدر، ويخفف من وطأة الخسائر طالما أنها بقيت بعيدة عن الأرواح والدم، إلا أن الواقع في سوريا أفرغ هذا المثل من محتواه، فحجم الخسارة في العيال طرد التفكير بالمال رغم الخسائر الهائلة في هذا الجانب أيضاً، وما جرى من قتل لما في نفوس «العيال» الأحياء الباقين، أكثر إيلاماً وأثراً سلبياً من قتل النفوس مع الأجساد.
ملايين السوريين هجروا وشردوا داخل سوريا وخارجها، مئات الآلاف من السوريين قتلوا ومثلهم أصيب وأعطب، وهم رغم الأنوف يجتمعون تحت مسمى واحد، هم سوريون ضحايا، وقبل أن نختلف على تسمية الطرف المسؤول عن هؤلاء الضحايا وهذا الدم، دعونا نفكر بالجسد الذي تستنزف منه كل طاقاته ومكوناته ودماء شرايينه، وإلى متى سيبقى هذا الجسد قادراً على الصمود وهو يستنزف بهذه الكثافة والجنون، ومن سيرثه حين يسقط؟ ومن سيحتفل ويقيم طقوسه على الجثمان المسجى على مذبح أُعد له منذ قرون.
الدولة هي المسؤولة
عن أبنائها مهما تطرفوا
في التعاطي معها


هي جريمة بحجم وطن وتاريخه، وحين يكون هذا الوطن هو سوريا بتاريخها تكون الجريمة بحجم التاريخ، وحين نبحث عمن يريد أن يقتل هذا التاريخ لمصلحته ويفرض تاريخه هو، نجد من دون عناء حين نعتمد العقل في محاكمة ما يجري، أن الجهة الوحيدة التي تستفيد من كل مايجري بأقصى درجات الفائدة، وبأيدٍ أغرقت في تغييب عقلها لتسكر من خمر الجهل والتسليم، هي الجهة التي تضمر العداء التاريخي لهذه المنطقة وشعوبها وإرثها الحضاري والديني والإنساني والمعرفي، ويرهبها النور والتعايش والتسامح والتنوع والتحاور. فسعت منذ أمد بعيد إلى تشويه كل المعاني السامية للأديان السماوية الثلاثة، وحرفت النصوص والتفاسير والتاريخ باتجاهات تخدم عنصريتها وانغلاقها ورفضها للآخر بالمطلق، وصنَّعت خلال قرون طويلة سلاحاً لا يضاهيه سلاح في الفتك والبطش وسفك الدماء، سلاح الفتنة والتكفير والتصريح بالقتل بذرائع حق يراد بها باطل، وبنيات طيبة تودي بأصحابها إلى جهنم.
الدولة بمعانيها كافة هي المسؤولة عن أبنائها، مهما تطرفوا في التعاطي معها، ومهما أظهروا من عقوق وإجحاد بحقها، لا يحق لها التخلي عنهم مهما أذوها، مع امتلاكها حق الثواب والعقاب، كل عمل بما يستحق. لكنها تبقى في النهاية هي الحاضن الوحيد لهم جميعاً على اختلاف ما قدموه، ومن يدعي من جميع الأطراف السورية المتنازعة فيما بينها أنه يمثل الشعب السوري، لا يحق له أن يتخلى عن اول وأهم معنى لهذا التمثيل، وهو احتضان الشعب بكل مكوناته ومفرداته بكل مواصفاته الإيجابية والسليبة. ولا يجوز إلغاء أو إقصاء أي منهم مهما بالغ في خروجه عن انتمائه لهذا الوطن. من هنا لا بد من النظر إلى حجم القتل وكمية الدم وعدد الأرواح التي أزهقت ولا تزال تزهق في سوريا ككتلة واحدة هي جزء يهدر من كتلة الكل، وطالما أننا لا نعمل لوقف هذا النزف فمن المؤكد أن سوريا ستكون بعد حين على مذبح أعدائها الذين سيُتمون احتفالهم بتناول الفطيرة المقدسة المعجونة بالدم السوري.
مواسم الاحتفالات بدأت منذ حين، وقُدمت لأجلها فطائر عدة، لكن الانتصار الأخير سيعلن حين تقدم الفطيرة السورية على مائدة المنتظرين الذين يتفاخرون بأدواتهم وسلاحهم، لكنهم يفتقدون الثقة بإعلان انتصارهم هذا...
* إعلامي سوري