لا بدّ أن تكون هناك طريقة ما لكي يصبح هذا العالم، حيث أقضي أيامي، شبيهاً بذاك الذي على الضفة الأخرى للمتوسط. في الحقيقة أنا لم أره يوماً، لكنني أستطيع تخيّله: بيوت بيضاء يعلو أسطحها القرميد الأحمر، شبابيك خشبية زرقاء تُشرع نوافذها للبحر، وكثير من الورد والأزهار يغطي الجزء السفلي من النوافذ، شوارع نظيفة مضاءة وأرصفة صُمّمت للعابرين، وأشياء كثيرة تدخل البهجة على الروح. هناك لا بدّ أن تكون ملاعب أطفال ومتسع من الحشيش الأخضر، ولا بأس ببعض من موسيقى ملائكية تصدح في الأرجاء وبحيرة يجوب فيها البط وصغاره في أمن وسلام، تماماً ككلّ الآخرين الذين ينعمون برضا الإله.
لديّ كلّ ما يلزم لأقيم
عالماً كما ذاك الذي يراودني في أحلامي

لديّ كلّ ما يلزم لأقيم عالماً جميلاً كما ذاك العالم الذي يراودني في أحلامي، فأنا لديّ البحر والشجر والجبل والسهول أيضاً، ولو امتنعت عن قتل الطيور فلربّما استوطنت بحيرات قد أقيمها لتعيش معي أيضاً في أمن وسلام. لكن في الحقيقة لا شيء من هذا، فأنا لم أرث من هذه الدنيا إلا حكاية قابيل وهابيل، ولم يزل التراب لا يعني لي أكثر من حفرة تؤوي جسداً، على أن يكون جسداً مضرّجاً بالدم، ولا مانع من أن يكون مهشماً أو مبتور الأطراف. ما زلت أؤمن بالجسد القربان على مذبح إله يهوى الدم وتثيره رائحة الجثث، ودون أي مقابل في أغلب الأحيان. تعوّد أسلافي تقديم فتاة ذبيحة عذراء على مذبح "مردوخ" في أول فصل الحصاد، ليقابلهم "مردوخ"، إله بابل العظيم، بوفرة في المحصول والكثير الكثير من القمح والتين والأعناب، فتمتلئ عنابرهم وجرارهم بوفرة الخيرات حتى تفيض. أمّا أنا، فأغنامي كلّها نفقت وسهولي احترقت وزيتوني في كساد، فلا أرى من حولي إلا نسائي ذليلات منكسرات يتّشحن بالسواد، وأطفالي يهيمون جوعى ينهشهم حرّ الصيف وبرد الشتاء، في مخيمات ليست جديرة بأن تؤوي بشراً. يجول في بالي مراراً أن أصرخ بأعلى صوتي: إلهي لماذا تركتني؟ لكنّ صوت الكهّان من خلفي يمنعني ويدعوني كي أواصل الترحال في التيه، كي أصل الأرض الموعودة حيث لا تعب ولا موت ولا شقاء.
لقد تعبت يا ربي، وفي بالي تساؤلات سأقولها وبصوت عال ولو قطّعوا أطرافي كأوصال "الحلاّج"، ولو نبشوا قبري وصلبوا جسدي كما فعلوا بـ"زيد بن علي"، ولو أطاحوا رأسي وأهدوه لعاهرة كما يوحنا المعمدان: أأنت يا ربّ أمرت بالذبح والقتل والرجم والجلد ويتم الأطفال؟ أيرضيك أن تشهد على هذه العيون الغائرة في محاجرها وعلى هذه الأجساد التي تتلوى جوعاً وعطشاً كديدان، وبالأمس كانوا أطفالاً؟ هل رأيت يا من يحيط علمه كلّ شيء كيف يبتلع البحر لحوم الصغار الطريّة ويلفظها على رمل شاطىء بحر عاهر لا يأبه لتصاغيهم، والماء المالح يجوب في الرئتين الصغيرتين؟ أشكو إليك يا ربّ،
موج المتوسط يسلب رضيعاً عن ثدي أمه ويلتهمه ككلب مسعور. يا ربّ، كلّ كلاب الأرض اجتمعت على جسدي وأمعنت في نهشي، وأنا أستصرخك أن تأتي، أن ترفعني كما رفعت المصلوب، وأن تنتقم لي كما انتقمت ممن ذبح ناقة نبي من أنبيائك.
أنا أرضى بأن أكون ناقة، أيّ شيء يجعلك تغضب لي. لكن لا تتركني في هذا التيه حيث الكذابون يقتتلون باسمك ويندهون باسمك وأنت البريء من معسكراتهم كبراءة الذئب من دم يعقوب. أنا أفعل أي شيء تريده، لكنني لن أمارس القتل على مذبحك. ما زلت سويّاً كما خلقتني، لا تستهويني الدماء، وتشمئز نفسي من معاشرة الجثث. أعترف يا ربّ الأكوان بأنني أحلم دوماً في أن تجعلني أصنع أشياء جميلة كما على الضفة الأخرى للمتوسط. مُدّني بمعول أحرث فيه التربة، أشتمّ رائحتها وأغمد فيها حبّاً وحُبّاً وأمنحها بركاتك تفيض عليّ بالخيرات، واجعل لي شمساً جميلة وقمراً منيراً ووطناً لا مذاهب فيه ولا مذابح فيه ولا شيء سوى الطواف حول نورك يا نور الأكوان. أنا خائف يا إلهي، فالجنون طوفان والقتلة يقودون السفينة في بحار من الدم، ويريدون إيهامنا بأنك أنت الوجهة. يا ربّ هذا الصليب ثقيل وأنا أنوء بحمله، وقدماي قد أنهكهما طول المسير، والمسامير على معصميّ تؤلمني وأنا أنشدك أن تأتي... أن تحمل بعضاً من بعضي، فليس إلّا أنت، ليس إلّا أنت.
* كاتب لبناني