ثمة صعوبة، حالياً، في ترجيح مَن سيكون رئيس الجمهورية المقبل في لبنان. لكن ليس من الصعب توصيف وضع لبنان حالياً وما يمكن أن يكون عليه في المستقبل المنظور. لبنان في وضع مضطرب، أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. أمنياً، هو في حال خروج متواصل على القانون والنظام العام بتواتر استعمال السلاح في الحياة اليومية، وباللجوء الى العنف الاعمى والإرهاب لأغراض سياسية. سياسياً، هو في حال ضمور للوفاق الوطني نتيجةَ خلافات واختلافات، وصدام أغراض ومصالح، وصراعٍ محموم بين قوى واحزاب سياسية وجماعات مذهبية متنافرة.
اقتصادياً، هو في حال تضخم مطّرد في الدين العام، وتراجع مقلق في الإنتاج الزراعي والصناعي، وانحسار متنامٍ في التبادل الاقتصادي مع دول الجوار، وانكفاء ملحوظ للودائع المصرفية العربية الوافدة.
اجتماعياً، هو في حال استفحال الضائقة المعيشية، وتفاقم التضخم (بمعنى الغلاء)، وتراجع خدمات القطاع العام في الكهرباء والماء والضمانات الصحية والاجتماعية، واضطراب سوق العمل نتيجة نزوح مئات آلاف السوريين.
ازداد وضع لبنان اضطراباً واختلالاً مع تحوّل الصراع في المنطقة حرباً في سوريا وعليها. تشارك فيها، بالوكالة عن دول ومصالح كبرى، جماعاتٌ سلفية محلية وعربية وأجنبية تتسلل عبر حدود دول مجاورة وبمساعدة مكشوفة من سلطاتها. إضافة الى ذلك، فإن أوساطاً وتكتلات محافظة راهنت على فوز قوى المعارضة السورية المسلحة سبيلاً لتعزيز نفوذها السياسي في الداخل اللبناني ولمصلحة قوى اقليمية حليفة، بينما راهنت أوساط المقاومة وقوى وطنية واجتماعية متحالفة معها على فوز الحكم والجيش السوريين في الصراع لحماية وجود المقاومة وفعاليتها في وجه «إسرائيل»، ولتعزيز دورها الإقليمي في المنطقة.
ما يستطيع فعله
اللبنانيون مرهون بظروف قابلة للاحتدام والتبدل


احتدام الصراع انعكس سلباً على استحقاقات سياسية واجتماعية لبنانية ضاغطة. فتأليف حكومة بديلة من حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة استلزم أكثر من عشرة اشهر. واستجابةُ مطالب المعلمين والموظفين والعسكريين والمتعاقدين والأجراء والمتقاعدين، استلزمت اكثر من 25 شهراً، قبل أن يؤجَّل مجدداً البت في سلسلة الرتب والرواتب إلى موعد لاحق متداخل مع المهلة الدستورية المحددة لانتخاب رئيس الجمهورية قبل 25 أيار المقبل. كل ذلك من دون أن تخطو الفعاليات السياسية خطوة واحدة باتجاه صوغ قانون ديمقراطي عادل لانتخابات نيابية متوجبة مع انتهاء ولاية البرلمان الممدة ولايته لغاية مطلع تشرين الثاني المقبل. في وضع يضجّ بالاضطراب الأمني والصراع السياسي والاختلال الاقتصادي والتدهور الاجتماعي والفساد المادي والخلقي، وبترهل الأحزاب المحسوبة عرفاً وتعريفاً على اليسار والإصلاح الراديكالي، يتعذر تفكيراً وتدبيراً صوغ نظام بديل من نظام لبنان الطائفي المركانتيلي الحالي قبل حلول موعدي الاستحقاق الرئاسي والنيابي. هذه المهمة التاريخية المطلوبة من القوى الحية المتميزة داخل احزاب المقاومة واليسار المترهل هي استحقاق برسم المستقبل القريب والبعيد ولا مجال لأن تؤتي أكلها في الحاضر. ما يستطيعه اللبنانيون، مسؤولين ومواطنين فاعلين، في الوقت الحاضر والاشهر السبعة الآتية حيال الاستحقاقين الدستوريين الآنفي الذكر، مرهون بظروف محلية واقليمية قابلة للاحتدام والتبدل. محلياً، ثمة تيار متنام تقوده البطريركية المارونية برعاية ضمنية من الفاتيكان وتأييد فاتر من ادارة اوباما يرفع شعار: بقاء المسيحيين مرهون بجمهورية قوية يترأسها رئيس قوي بشخصه ومبادئه وتحالفاته. قادة هذا التيار لم يسمّوا مرشحاً تتوافر فيه المواصفات الآنفة الذكر، لكن غالبية بين المراقبين المستقلين نسبياً تعتبر ان العماد ميشال عون تتوافر فيه هذه الصفات والمواصفات اكثر من غيره. دون اعتماد العماد عون مرشحاً قوياً متوافَقاً عليه مسيحياً وبالتالي وطنياً معوّقات محلية واخرى اقليمية. المعوّق المحلي الابرز هو كثرة الطامحين الموارنة واعتقاد بعضهم انه اوفر حظاً لاعتماده مرشحاً توافقياً. المعوّق الاقليمي الابرز هو المملكة العربية السعودية التي تربط ما بين الاستحقاق الرئاسي اللبناني ومؤدى الصراع المحتدم في سوريا وعليها. ذلك انها ترى في انتصار أي من طرفي الصراع في سوريا مفاعيل وتداعيات على لبنان خصوصاً وعلى موازين القوى في المنطقة عموماً. الأرجح ان تسويةً نووية بين اميركا وإيران تستتبع تسويةً سياسية بين السعودية وإيران يمكن ان تنتج مفاعيل إيجابية في لبنان، فلا تعارض الرياض بعدها تفاهماً بين قواه السياسية المحلية على مرشح وفاق وتوافق لرئاسة الجمهورية. ظاهر الحال لا يشير الى ان تسوية اقليمية من هذا الطراز تلوح في الافق. بالعكس، إن اصرار السعودية المعلن على ضرورة تغيير ميزان القوى على الارض في سوريا لمصلحة المعارضة المسلحة يفيد بأن الحرب مستمرة، وقد يزداد احتدامها في الاشهر الثلاثة المقبلة ما يجعل التوافق على تسوية بين القوى المحلية المتصارعة في لبنان قبل انتهاء ولاية الرئيس سليمان في 25 ايار احتمالاً بعيداً. في المقابل، فإن احتمال توصل اوروبا واميركا وروسيا الى تسوية بشأن مستقبل اوكرانيا من جهة وتسوية بين اميركا وسائر دول مجموعة 5+1 وإيران من جهة اخرى، متوَّجةً بانسحاب فعلي لقوات اميركا وسائر حلفائها الاطلسيين من افغانستان قبل نهاية العام الحالي، يجعل التسوية الاقليمية بين السعودية وإيران ممكنة وقريبة، ومثلها التسوية الرئاسية في لبنان.
يتحصّل من هذا التحليل ان تحديات صعبة تواجه لبنان واللبنانيين في مرحلة ما قبل تاريخ 25 ايار وخلال الاشهر الثلاثة، وربما اكثر، التي ستعقبه. أبرز هذه التحديات ثلاثة:
أولها، التحدي الامني. إذ ان تواصل الحرب في سوريا سينعكس بالضرورة سلباً على لبنان. ففي حال استمرار وتيرة الكرّ والفرّ فيها، فإن تعاضد طرفي الصراع في لبنان مع طرفي الحرب في سوريا سيخلّف تداعيات امنية وسياسية مؤذية. وفي حال فوز الحكم والجيش السوريين في الحرب وبالتالي اعادة انتخاب بشار الاسد رئيساً، فإن حلفاء سوريا في لبنان سيترسملون على انتصار حليفهم السوري لتصفية النتوءات الامنية للمعارضة السورية وحلفائها المحليين في لبنان، ولترجمة الانتصار الى مكاسب سياسية واقتصادية.
ثانيها، التحدي الاجتماعي. ذلك ان تحالف السلطة والمال العابر للطوائف والأحزاب تمكّن من إحباط مطالب القوى الاجتماعية الحية المكافحة من اجل إقرار مشروع سلسلة الرتب والرواتب، وبالتالي إضعاف هيئة التنسيق النقابية وجمهورها من المعلمين والموظفين والعسكريين والمتعاقدين والمتقاعدين. هذه القوى الاجتماعية المغدورة محكوم عليها بأن تواصل نضالها من اجل نيل حقوقها ما يرشحها للصدام ليس مع حكومة تمام سلام بالضرورة بل مع السلطة الحقيقية، أي الشبكة الحاكمة المكوّنة من متزعمي طوائف، ورجال مال واعمال، وقيادات متنفذة في القوات المسلحة. الصدام المنتظر سيترك تداعيات مؤثرة على الصعيدين الامني والسياسي.
ثالثها، التحدي السياسي. ذلك أن الحرب في سوريا وعليها ستولد مفاعيل وتترك تداعيات على لبنان اياً كان الفائز فيها. فالفائز سيشعر بأنه اكتسب من القدرات المستجدة والمشروعية الشعبية ما يحمله على مباشرة جهود فاعلة لترجمة انتصاره العابر للحدود الى وقائع سياسية على الارض. ولعل الطرف المقاوم وحلفاءه السياسيين سيعتبرون أنهم في وضع اقوى يمكّنهم من فتح باب الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مصراعيه. اذا لم يفعلوا فإن القوى الاجتماعية المتضررة من أفعال تحالف السلطة والمال ستجد نفسها مضطرة الى توسيع ميدان المواجهة لتشمل قوى وتحالفات سياسية كانت تحسبها رديفة او حليفة. يتأسس على هذا الواقع المستجد انهيار تحالفات سياسية قديمة وقيام اصطفافات وتحالفات سياسية جديدة عابرة للطوائف والطائفيين ولمتزعمي الطوائف التقليديين وللمطايا في كل المواسم والعهود.
في غمرة الصراع المتأجج وما يستولده من تغييرات وتجديدات في الدستور والمؤسسات والقيادات والتنظيمات والنقابات واخلاقيات العمل الوطني والسياسي ومعاييره، يصبح اللبنانيون واللبنانيات، مسؤولين ومواطنين، في وضع أفضل لتقرير أيِّ رئيس أفضل للبنان، لبنان الدولة المدنية الديمقراطية، المراد بناؤها على أسس حكم القانون والعدالة والتنمية.
* محامٍ ـــ نائب ووزير سابق