إنَّ الهيمنة تعبيرٌ عن جنوحٍ مفرط نحو معايشة طبع غرائزي، تتدفق في عروقه الأنانيات الفردانية التي تصنع حولها سياجاً من قداسة تسدُّ فراغاً شخصياً أو هيماناً تائهاً يتوهّم صاحبه أنه يسيطر على توازناته النفسية، بقدر ما يتحكّم بالآخرين ويمارس عليهم سلطة أبوية ذكورية ومرجعية تقوم أركانها على الاستحواذ والسيطرة.من بين أشكال ممارسات الهيمنة الذكورية، النضال من أجل الحفاظ على مكتسبات وامتيازات تتلطّى خلف عناوين متنوعة، تعبر من خلالها إلى تكريس حس سلطوي ونزعة نحو تأكيد الوجاهات وتالياً الفروقات على اختلافها.
فيما المطلوب إعادة ربط الناس بأصالة قيمهم الدينية والإنسانية، عبر تقديم النموذج الحي من قبل رجال الدين والسياسة لجهة مقاومتهم للظلم والفساد وحمايتهم لوعي الناس، عبر تربيتهم على حقوقهم وأهمية احترام وعيهم وذاكرتهم وعدم تهميش دورهم ومصادرة قراراتهم. عندما تُسقط وعي الناس وتصادره فإنك تخسر الواقع كله وتفسح بالمجال أمام المتآمرين وأدوات الاستعمار الداخلي من التحكم أكثر بالمصير على حساب التحرر الجدي في ممارسة القرار، بعبارة أخرى من يُسقط وعي الناس ويستخفّ بهم فهو من أعوان المستعمرين وعملائهم بامتياز، فليست العمالة تعاملاً مع المعتدي والمحتل، إنها بالمعنى الأعم مشاركة في العدوان على الوعي والعقول والإرادات وحرفها عن مسارها الطبيعي، وهو ما جرى ويجري مع شعوب وبيئات متنوعة تاريخياً.
من بين الأمور الملحّة اليوم إعادة النظر في عمل هذه المنظومات وهيكليتها والتثبت من عدم نخر الفساد والمفسدين لها ومحاولة الدفع نحو وصول عناصر جادين ومخلصين وتقوائيين نسبياً يعيدون ترميم ما فسد وانحرف.
قديماً كانت من صور الهيمنة الذكورية الملكية للأراضي الزراعية، ومن ثم التجارة والأسواق والتحكم بالثروات وإدارتها، ومن ثم المركز الوظيفي الذي يمنح صاحبه قوة وأماناً، والآن بات الاستحواذ على العقول والتلاعب بها وتعمية البصائر ونشر الأباطيل وتغييب الوعي ومحاصرة الضمائر وبثّ السموم في الأذهان وتسليع الإنسان وشيطنة عنصره عبر تأكيد التكبّر في سلوكه ووعيه، حتى أضحى مشيطناً لكل شيء وبوجه خاص في السياسة، حيث تبرز تمظهرات ذلك بقوة، يقول القديس يوحنا السلمي: "إن الكبرياء النجس لا يمنعنا من التقدم فقط، بل يسقطنا أيضاً من علو الفضائل ! لأن المتكبر لا يحتاج إلى شيطان لإسقاطه، لأنه قد صار شيطاناً وعدواً لذاته. فكما أن الظلام غريب عن النور، فإن المتكبر غريب عن الفضيلة. ففي قلوب المتكبرين تنشأ أقوال التجديف بينما في نفوس المتّضعين تأملات سماوية".
إنه فعل أناني بامتياز يهدم القيم ويفنيها لصالح حب الذات ولو فني العالم بأسره كما في جنون بعض الأشخاص المتفرعنين واستكبارية سياسات دول كبرى.
إننا أحوج ما نكون إليه اليوم هو ترجمة التعاون والانفتاح بين كل المرجعيات الإسلامية والمسيحية الفاعلة في العالم، كما جرى في زيارة البابا الأخيرة إلى العراق بشكل جدي ومدروس بمنأى عن التأطير والهوى السياسي الضيق، وألا تنتهي مفاعيل هذا الانفتاح في لحظاته العاطفية القصيرة والعمل من كل المكوّنات والجهات على تجديد أدوات خطابها وبرامجها وأساليبها السياسية ومقارباتها الاجتماعية والفكرية الحكيمة واعتماد الديناميكية في التعاطي المسؤول مع الأوضاع العامة للناس، من خلال رفض الانغماس في زواريب السياسة وتفاصيلها الضيقة التي تُتعب الواقع وتقوي سيطرة الذاتيات والمصالح الفئوية على حساب جوع الناس وأمنهم وترفع من شأن النوادي الطبقية باسم أحزاب هنا وعائلات هناك.
ناهيك بوقفة شجاعة والبدء بتفكير تحويل تجديد الخطاب الديني والسياسي من الشعارات الفضفاضة، كالتعايش المشترك والسلام والتسامح والأخوّة والوحدة والحوار إلى مرحلة وضع الإستراتيجيات البنّاءة من متابعة من يتصدون للكلام وتصدير المواقف ويضعون أنفسهم في مواقع المسؤولية عن الناس إلى التثبت من أهليتهم الأخلاقية والعلمية وقدرتهم الذاتية، ومستوى وعيهم سعةً وضيقاً على صعيد تلمّس أعماق الناس وهمومهم الوجدانية والفكرية من أجل الوقوف بقوة أمام كل مشاريع التقسيم والسيطرة وتفريغ الذات من قيمها وتدمير الذاكرة الجماعية التي تؤلّف ولا تفرّق، وللوقوف أمام كل محاولات انتهاك حرمة العقول وتلويث الفطرة بأشياء مستهلكة لا عمق معرفياً لها يؤدي بهم إلى التسطيح بدل النهوض والإنتاج الحر.
إن التحديات كبيرة جداً وتعصف بواقعنا وتستهدف بنيتنا الجهادية والوطنية والقومية، فلا بد من حماية هذه البنية من قبل الأحزاب والمنظمات القائمة من إسلامية وعلمانية وغيرهما والتنبه لكل خطوة وموقف ومراجعة الحال والطروحات ومكامن التقصير والارتفاع إلى مستوى المسؤوليات الجسام والترفّع عن الانجرار إلى زواريب السياسة المحلية اليومية الضيقة.
إننا ندعو إلى ضرورة العمل على خلق تجديد في البنيان - ممن يعدُّ نفسه جهادياً وحركياً وقومياً وحتى علمانياً - عبر تقديم أشخاص وكوادر أكثر مرونة ووعياً وانفتاحاً والتخلي عن فكرة الحرس القديم سياسياً وثقافياً، فكم من أشخاص إسلاميين ومسيحيين لا يزالون هم أنفسهم منذ عشرات السنين في الموقع القيادي أو المنصب أو المركز ذاته دينياً وسياسياً وتمثيلياً، والذي لم يعد مقبولاً ومتناسباً مع الواقع المضطرب في كل شيء! فلماذا نلعن سلفية الغير فكراً وممارسة وكثيرُنا يتَّبع الأسلوب ذاته ويحمل الذهنية ذاتها؟!
إن التخلص من سطوة أنّ بعض أحزابنا وحركاتنا لا تخطئ وأنها وليدة القداسة من الخطورة بمكان، إذ يشكل هذا ضرباً من الجهل والقصور المعرفي ويزيد من تكريس الخدر المعرفي الجمعي لصالح تأكيد الرهاب من التنفس في الفضاء المعرفي العام والمفتوح، فنحن بشر غير معصومين فلا بدّ من دفع هذه الجزئية إلى حياتنا ووعينا ونرفع تالياً إدمان البعض لقداسة تأويلات تضعك أحياناً أمام جدران مقفلة وهو ما يعيق عملية التقدم ويزيد من أمد التقهقر المرضي على كل الجبهات، يقول علي عزت بيغوفيتش: "هناك أشخاص يظنون أن انتماءهم الديني يمنعهم من فريضة التفكير".
فالقضاء على رهاب التحرر من الذات واستدراكها قبل فوات الأوان ضروري من أجل بناء ذات حزبية تخطو بمبادئها وأفكارها نحو فضاء جديد وآفاق متحولة في المقاربة والطرح والتعامليات والخطابات.
إننا نريد أتباعاً يفكرون وينتقدون ويحللون، وليس أتباعاً بلا فائدة وجدوى يتلقّون كل شيء بلا أدنى نقاش وتفكير، يسجنون أنفسهم في غياهب العجز والاستكانة.
نحن بحاجة إلى شعب يخرج من عباءة المذهبية والطائفية إلى آفاق الوعي، متسلحاً بعزيمة لا تلين تعيد إليه شيئاً من حقوقه المهدورة ومن كرامته المداسة. فلا خير في شعب قد استنسخه حكامه الفاسدون على شاكلتهم ولا أمل يرجى منه ليواكب الركب الحضاري ويسجل مواقفه المشرفة على جبين الزمن.
ما لم نطور جميعُنا ممارساتنا السياسية وأنماطنا الإيمانية ونخرج من مذهبة السياسة والإمعان في الغيبوبة الطائفية سنتجمّد ونحيا ضمن سياج عال من نمط عقيدي يموت شيئاً فشيئاً، ما سيترك أثراً سيئاً على الواقع ككل ويجعل منه مساحة نسجل فيها غفلتنا القاتلة وهذا ما حصل ويحصل.
إن التجديد والتطوير سمتان ضروريتان لأية حركة فاعلة تنشيطية تدفع الناس إلى الأمام، فمشكلة أحزابنا وحركاتنا إسلامية وغيرها أنها تجمّدت في مكانها وباتت تتوجس من هكذا تطوير وتجديد خوفاً من خسارة مكتسبات شكلية وظرفية لها، وهذا جهل بحد ذاته يجعل من المجتمع وعاءً لتفريغ الذات من كل شيء واغتيالها من أية قابلية للحياة الكريمة.
إنَّ الحقيقة تحيا في نزعات إنسانية تعيش همَّ الأمة والجماعة وتتواصل مع تاريخها بجدارة، تبني مفردات ذاكرتها بعيداً عن إقصاء الآخر تبعاً لانتمائه المكاني الجغرافي والاجتماعي، وتغييب دوره تبعاً لحضوره المعرفي واختلافه بالرأي مع المألوف بعيداً عن صراع النفوذ والتكتل حول حواضر علمية أو حول شخص أو حول منهج تفكير من أخباري وعقلي أصولي أو عرفاني.
فلا تعد جغرافية مرجعية جبل عامل أو قم أو النجف أو مشهد أو الأزهر والزيتونة وغيرها على امتداد العالم الإسلامي مهمة أمام حركة مرجعية أممية تبحث عن خلاص الأمة وما تحتاج إليه من علاجات شافية تتخطى كل الحسابات والمقيّدات وتحاول التماهي بجدة وأصالة مع هوية الأمة، كما حدّد مواصفاتها كتاب الله في كثير من آياته.
إننا نريد مرجعيات عاملة لا تأسرها الضوضاء الدعائية ولا الدوغمائية العمياء، متفهّمة لدقة المرحلة وتحدياتها تُبرز الفقه في بعده المعاملاتي والأخلاقي الواسع وتلبي توق النفس إلى حقيقةٍ تعي ماهية الهوية وخصائصها الأصيلة التي لا بد من استحضارها وتمثلها بعيداً عن المنطق التبريري وتقديم الذرائع الجاهزة المستجيبة للجانب السكوني الجامد للجماعة، فيما المعطى الهوياتي للفرد والجماعة لا بد وأن يكون ديناميكياً حركياً متفجراً في كل آن قلقاً متناغماً مع ذاته وتراثه، وهذا للأسف لم يحصل في شرقنا الذي يعاني هروباً من المعطى الهوياتي وتوتراً غير مفهوم وصولاً إلى تقديم كثير من التنازلات على اختلافها واستسلاماً لترهّلٍ مصطنع.
إن هذا ما نتعلمه من سيرتَي محمد والمسيح عليهما السلام، فقد مارسا العاطفة والمسؤولية بلا تصنّع واصطناع وبلا تراتبيات واختلاق هوات ومراكز قوى وبلا تكريس للشخصنة، فكانا يمشيان في الأسواق، يتحدثان بلا انقطاع مع الصغير والكبير ومع النساء، يجلسان بتواضع حيث ينتهي بهما المجلس والأهم أنهما رفضا كل تقديس لشخص أو رأي وطالبا بحرية النقد والنقاش وطلبا النصح في كثير من الأمور كي يُعلما الناس حب المشاركة وتحسس المسؤولية في المساهمة الاجتماعية العامة، وتالياً علّما أتباعهما أن المؤسسة الدينية الناجحة هي مؤسسة الإنسان المنفتح، حيث رجل الدين يستمد قوته وحضوره من تتبعه لمشاكل عصره وانفتاحه على استشارة الخبراء والمتخصصين في كل شؤون الحياة، وتالياً لا يكون الزعيم الروحي أنموذجاً صارخاً لهيمنة ذكورية مريضة تعوِّد بانحرافها النفسي أتباعها على التعلق والهيمان بشخوصهم بدل التعلق بنهجهم وانعتاقهم من الذات.
إنّ الزعامة الروحية والسياسية تستمد شرعيتها من مقدار التزام الحق ودفع الباطل ونفي الذات فقط وليس من أي اعتبار آخر، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى عليّ بِذِي قَارٍ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي: مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ فَقُلْتُ: لَا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ عليه السلام : وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً...".
ليس النظام الديني الإسلامي كما المسيحي انعكاساً لنظام قاس وصارم من التعليمات والأحكام والوصايا، بل هو في الأصل صورة صادقة وصافية عن منظومة معرفية تصاعدية وتكاملية ترفع من مستوى الناس وتحاول ردم كل هوة أو تجميع كل قوى في مواجهة التشتت والانكسار من خلال المتابعة والمحاسبة والإصلاح والتذكير بالمسؤوليات على مستوى الفرد والجماعة في كل الميادين بلا ملل وانقطاع؛ وهذا يتطلب أيضا وضع رؤية متكاملة ومنهجية عمل واضحة لخلق جيل معرفي حيوي يحمل صفات الابتكار والنقد والمتابعة والإبداع ، ويحمل مؤهلات ولوج المجتمع المعرفي الخلّاق وليس خلق جيل فارغ من كل هذه الخصائص اعتاد الإنصات والتباهي بتجميع المعلومات وتراكمها بلا تدبر ووعي وتدقيق، حتى أضحى بلا تأثير بل أصبح أكثر عبئاً على الحياة ومسيرة الإنسان. فليست القضية هينة إذ بتنا نحيا في زمن صخب نظام التفاهة في كل شيء شكلاً ومضموناً وأسلوباً، حيث البيروقراطية المقيتة والرجعية والطمع والجشع وسيطرة رأس المال والتافهين والفاسدين حتى على الرفاه الشعوري على حدّ تعبير الدكتور آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة".
وثانياً: نجد اضمحلالاً كبيراً في كلمات وخطب بعض من يقومون على أمر الدين وتوجيه الناس بما يتعلق بالتركيز على أهمية وعي الرعية لحقوقها ومسؤولياتها تجاه تصويب الحاكم وتسديده فقهياً كان أو سياسياً بما يؤكد تنويرية الدين الملتصقة بروحه تاريخياً، وليس المساهمة في تأكيد ما يحاول الغرب السياسي من وصمه للإسلام على أنه يفتقر إلى ذلك كتعبير عن أسلوب نمطي قديم يمارسه بلحاظ تفوق تنويرية الثقافة الغربية برأيه.
إننا نريد اليوم اشتراكية توحيدية حيث تعود الرعية إلى التمركز حول الله بدل الأشخاص وحول المناهج بدل العواطف وحول المحاسبة بدل الغياب والضياع والاستسلام، اشتراكية توحيدية تلغي الشكل ورهابة المؤسسة الدينية، تنطلق لخلق جو عفوي وطبيعي بين المسوؤل والرعية في أي مركز كان حيث تُحترم كرامة الإنسان ولا تُهدر هنا وهناك أمام بوابة زعيم ورهبة رجل دين وسلطة محاكم تختفي في كهوفها الحقوق وتستباح المحظورات، فلا مجال للمحبة والرحمة اللتين تلتقيان لخدمة العالم والحياة على حساب إفناء الذاتيات التي تخفي هيمنة ذكورية تسلطية وأنانية مفرطة تحت عباءة دينية وعناوين استهلاكية تبتعد عن قاموس الله.
لا نريد فقيهاً أو كهنوتياً بلاطياً أو سلطانياً يتماهى مع ألعبان السياسيين ومصالح الجهات والدول حتى بات موظفاً بأبشع الأدوار بلا حياء يفتي ويعظ في تكفير الآخر وقطيعته في الانزواء عنه وتحليل التعدي على حقوقه وحياته في تقاطع مع سياسة المستكبرين من الدول التي دعمت التطرف وخوّفت من الأصولية ودفعت نحو التطبيع مع المحتل وخلقت من الآخر شيطاناً من أجل تمرير مشاريعها التوسعية وحفظ نفوذها وأطماعها.
ما دام أتباع كل دين يعيشون في دوائر من الخوف من الآخر ويختنقون في عصبياتهم المذهبية والمناطقية والطائفية، فلا فرصة حقيقية للتغيير ما لم يغيروا ما بدواخلهم من روح انهزامية وتبريرية واستبدالها بروح ثورية تجديدية، عنوانها الرصد والمحاسبة ورفض الخطابات المعلّبة والإسقاطية والمستحضرة من بطون التاريخ، فعندما انكفأ الأفراد وتراجعت الجماعات عن ممارسة دورها ومسؤولياتها وغيبت وعيها واستسلمت لغفلتها، وعربد من تعربد وتباهى بأقسى صور هيمنته الذكورية المقيته وكأنه إله فما أكثر الآلهة اليوم!
إنّ الآلهة ليست صنماً أو حجراً فهي أيضاً منهج وذهنية وأسلوب تصرف عند كثيرين من أفراد وجماعات وحتى دول... إن أحوج ما تحتاج إليه البشرية اليوم وبوجه خاص في منطقتنا المليئة بالمشاحنات والمنازعات هو من يمسك بيدها ويوجهها عملاً لا قولاً نحو تأسيس روح المحبة والرحمة ونبذ الغفلة والعنصرية والتطرف وممارسة فعل الطاعات تقارباً واجتماعاً على الحق ورفضاً للباطل والمماحكات.
فليس الدين سوى شيء يدفع نحو إبداع وتجدد وتحدّ لتعقيدات الحياة من داخلها، فلم يكن يوماً مجرّد قوانين جامدة ومراسيم فقهية وعقيدية فارغة من أجل خدمة فلان أو فلان من بني البشر.
نقول إنه كلما كان الفقيه والكهنوتي والسياسي قريباً من آمال الناس ومتحسساً لآلامهم وعاملاً على خدمة قضاياهم وحفظ كراماتهم وحقوقهم كان مبتعداً عن ذكورية سلطوية مهيمنة تكون وبالاً عليه في زمن الله الأبدي. هذا ما يستدعي اليوم خطوات جدية وعملية ممن هم في مواقع ثقافية وإعلامية وعمالية ودينية ومدنية وسياسية وتحريك نبض الشارع أكثر والمشاركة بأنفسهم في تحركات واعتصامات ومسيرات شعبية ضاغطة باتجاه التأثير الجدي على صناعة القرار السياسي وتوجيهه الوجهة السليمة، فنحن نشهد على مؤامرة وسكوت وعجز من الجميع وتفرج على انهيار العباد والبلاد بلا رحمة من الجميع وكأن التاريخ يكرر مشاهده المهينة والمذلة لجهة بيع الناس أرضاً في الجنة وليصبروا قليلاً وليتخلوا عن حقوقهم وكراماتهم فيما ثروات البعض ونفوذهم وسيطرتهم تكبر وباتوا متخمين على حساب جوع الناس وآلامهم، فعن أية عزة وكرامة نتحدث؟! فحفظ عزة الناس وكراماتهم تبدأ من حفظ حقهم في الخبز ولقمة العيش كي لا يهرقوا ماء وجوههم هنا وهناك، وحفظ حقهم في طبابة تؤمن لهم حبة الدواء فالجميع أذكياء في شحن العقول والنفوس حزبياً ومذهبياً وطائفياً، ولكنّ الجميع فاشلون في إيجاد أرضية متينة تصنع مؤسسات ناجحة عنوانها وطني وإنساني يعيد للدولة حضورها وفاعليتها. وكأن الدولة أضحت مفردة تسبح في الغيب والفضاء ليس لنا حق حتى أن نحلم بها، فالجميع يتكلم يومياً عن ضرورة بناء الدولة والجميع يتناتشون مؤسساتها ويُغيبون الفرصة لقيامها إذ يخافون من ذلك.
لم تعد تنفع البيانات والخطب والمواعظ وانتهاج الحيادية، وكأنّ الناس في وادٍ ومن يدعون التصدي للدفاع عن الحقوق في واد آخر، فمنذ متى كانت هذه الحواجز المصطنعة! كما لا بد من تحسس جوع الناس والعمل بأقصى طاقة ممكنة من قبل كل المرجعيات من أجل إطلاق حملات شفافة وعادلة للتكافل المادي والعيني من دون استنسابية ومن دون المرور عبر طرق لا تحفظ الكرامات، كثير من الناس متعفّفون-وليسوا متسولين- فمن لهؤلاء! ، فمحاربة الفقر والفاسدين لا تقلّ أهمية عند الله من محاربة المحتل.
إنه بقدر ما نتمثل الفقه واللاهوت خوضاً عملياً في قلب الصراع في الحياة، فإننا نقترب من لغة الأنبياء ومسالكهم، وإن لم نفعل فنحن نردد مع الخائضين الذين يريدون للفقه والمعرفة أن يكونا بعيديْن عن معترك الحياة بلا فرق كما فعلت قريش وأحلافها مع محمد، وكما فعل اليهود وزبانيتهم مع المسيح...

*أكاديمي وحوزوي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا