إلى جانب التاريخ والحضارة التي يملكها لبنان منذ القدم ولا تزال آثارها واضحة في بيروت وصيدا وصور وبعلبك وجبيل وتحت كل حجر وشجرة سنديان وأرزة وفي كل مكان، والتي تضرب جذورها عميقاً في تاريخ هذا الشعب العظيم وكل بلاد الشام وغيرها من حضارات الشرق والغرب، يملك لبنان قوة الفكر والعلم والثقافة والعقول في الأدب والفن.وهي قوة أعطت لبنان على الدوام مكانة خاصة لدى العرب والعالم عامة، وجعلته أيقونة الشرق وأنموذجاً يلجأ إليه العرب عندما يبحثون عن نسمة حرية يفتقدونها في أوطانهم، أو عن مساحة جمال لا يجدونه في صحاريهم المجدبة، لكنهم يلتمّسونه في جمال الطبيعة بين البحر والجبل، بين زرقة البحر واخضرار الجبال والسهول، وفي توهّج الفكر ودوران المطابع وتوقّد الفكر وحرية الصحافة والأديان والإنسان.
اليوم، بكل أسف، نتباكى على الأطلال، ولبنان التاريخ والحضارة ينهار سياسياً واقتصادياً أمام أعين العرب والعالم وعملته تنهار. وفيما يتوقّع لبنان حلاً لمشاكله الاقتصادية التي تطحن الإنسان، تتنافس القيادات على الحصص ونصيب كل طائفة من هذه المصيبة والأغلبية الساحقة من هذا الشعب العظيم تكتوي بصراعات هذه الطوائف بانتظار انفراج ينبثق من الداخل أو حل يأتي من الخارج!
مع الأسف، يحدث هذا ليس في لبنان فقط، بل في اليمن أيضاً، وبعض الدول العربية التي ارتبط حكامها وأحزابها وقياداتها بالخارج وبمن يدفع أكثر!
لبنان ليس فقيراً، فعنده الثروة من البترول والغاز اللذين لم يستثمرا بعد، ولكنه أكثر من ذلك يملك العقول البشرية، في الداخل والخارج، في شتى التخصصات، أولئك الذين يذهلون العالم بما يحققونه من نجاحات تجعل اللبناني مضرب المثل، وهم الذين يحوّلون الأموال إلى لبنان من أجل استقراره وأمنه ومعيشة أبنائه وأبناء هذا الشعب في المهجر منذ مئات السنين، شيّدوا حضارات في أميركا اللاتينية وفي أفريقيا وغيرها من دول العالم ونشروا الفكر والثقافة وأسّسوا الصحافة في مصر وغيرها من بلدان العالم كالأهرام وغيرها...
لبنان الفن والثقافة والشعر والشعراء والرحالة، وأبرزهم أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وفيروز والرحابنة ووديع الصافي وغيرهم الكثير...
وكان لبنان منارة المشرق وعُرف بحرية الصحافة والرأي والرأي الآخر، إلى درجة كما علمتُ أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يقرأ الصحف اللبنانية التي تأتي من لبنان مباشرة إلى مطار القاهرة، لأنه كان يجد فيها الرأي والرأي الآخر، بما في ذلك النقد لمصر ولجمال عبد الناصر نفسه.
ألم يحن الوقت لكي تقف هذه القيادات أمام مسؤولياتها التاريخية؟! وأما آن للأشقاء والأصدقاء أن يتوقفوا عن تدخلهم الخارجي في شؤون لبنان كدولة ذات سيادة معترفٍ بها في الأمم المتحدة والجامعة العربية وغيرهما من المنظمات.
وأنا هنا لا أتدخل في الشأن اللبناني، ولكني أقول ذلك من محبتي للبنان، وما يجري عندهم يجري في بلادنا التي تعاني من الحروب والصراعات بسبب التدخل الخارجي لعشرات السنين وليس من بداية حرب 2015، ما أدى إلى انهيار الدولة والاقتصاد والجيش والأمن والعملة. رغم كل مشاكل لبنان، الشيء الذي لم ينهر فيه، رغم كل المحاولات التي جرت منذ السبعينيات وما قبلها حتى اليوم، هو أن الدولة ومؤسساتها باقية رغم كل الصراعات والحروب التي مر بها لبنان، وخاصة في السبعينيات والثمانينيات حتى اليوم.
لقد مرّت على هذا الشعب فترات عصيبة وحرب أهلية استمرت لأكثر من 15 عاماً كادت أن تؤدي إلى تقسيم لبنان أرضاً وشعباً يعيش في أرض لا تزيد على عشرة آلاف كيلومتر، لكن قوة هذا الشعب ليست في مساحة الأرض بل قوته في تاريخه وحضارته ووعي شعبه الذي كان وما زال عصيّاً على التقسيم السياسي والطائفي الداخلي والخارجي، بالرغم مما نراه من انهيار للعملة والاقتصاد والسياحة وتوقف النشاط التجاري والعقاري وهبوط الإيجارات واختفاء الأدوية والعملة الصعبة التي في البنوك، وتوقف السحب بالدولار عبر الصراف الآلي وارتفاع أسعار الوقود والسلع الغذائية، بل اختفاء الكثير منها، إضافة إلى تفجير ميناء بيروت وانتشار مرض كورونا وغير ذلك... بالرغم من كل ذلك ما زال هذا الشعب صامداً صامداً صامداً، ولكن للصمود حدود كما للصبر حدود. وما يميّز لبنان اليوم أن الدولة رغم أنها مشلولة لكنها باقية لم تنهر كما يحدث في اليمن وليبيا والصومال والسودان وغيرها من الدول. وما يميّز لبنان أنه يمتلك مؤسسات وقوانين يستطيع الاحتكام إليها بإعادة الحياة لها، ولن ينقذ لبنان من الانهيار إلا أبناؤه.
والشيء الممتاز أن الأمن لم ينهر وأن الدولة باقية، وبوسع هذا البلد أن يستعيد عافيته وقوته باستعادة مؤسساته الدستورية، فقد عانى هذا الشعب من الحروب والصراعات وتعلّمنا منها بل وتألّمنا لها، ولا يرغب أن يكررها ولن يكون ذلك إلا أن يحتكم إلى لغة الحوار بدلاً من لغة السلاح التي أكلت الأخضر واليابس.
نأمل أن يجتمع حكماء هذا البلد في مؤسساته الدستورية والشرعية لحل خلافاتهم، وفي المقدمة الرؤساء الثلاثة، فمن يبقى هو الشعب اللبناني العظيم المتعدد الديانات التي كانت تتعايش قبل التدخل الخارجي العربي والأجنبي.
نناشد الدول الصديقة والشقيقة أن تهب لنجدة لبنان بالدعم التنموي وحده وكفى تدخلاً في شؤون لبنان والقضية الفلسطينية واليمن وسوريا والعراق وليبيا والسودان والصومال وغيرها من شؤون الدول والشعوب التي فرقتها الحروب.
لن يشهد العالم الأمن والاستقرار إلا باستقرار هذه الدول، فالسلام لا يتجزأ كما أن العدل لا يتجزأ.
نتمنى للشعب اللبناني الشقيق أن يتجاوز هذه الأزمات التي يمر بها كما عودنا عبر تاريخه على تجاوز الأزمات والصراعات والحروب.

* الرئيس الأسبق لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا