في مقالته الحادية عشرة والأخيرة، من سلسلة المقالات التي نشرها أسعد أبو خليل في جريدة الأخبار اللبنانية، تحت عنوان السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج "مقاومة"، أتى الكاتب على ذِكر رَجُلِ دينٍ من دون الذمّ به، وذلك حين ذكر مقولة السيد فضل الله عن قتال حركة أمل ضد الفلسطينيين في حرب المخيّمات، ووقوف حزب الله في صف الفلسطينيين، بأنّ السيد فضل الله قال له إنّها «حرب الإخوة»، ولم يكن ليستشهد بالسيد فضل الله لولا أنّه أراد التصويب على حركة أمل. ما يهمّنا من سلسلة أبو خليل، هو مرحلة اتفاق السابع عشر من أيار 1983، وكيف أُسقط هذا الاتفاق. فالقاصي والداني يعرف ما قام به السيد فضل الله الذي كان أول من تحرك لرفض هذا الاتفاق. وكان ركيزة أساس لإسقاطه، مع ما رافق هذا التحرك في مسجد بئر العبد الذي تحوّل إلى محور للحركة المقاومة، ومدرسة لرفض الذل في زمن الخنوع، من قمع من قوى السلطة آنذاك وسقط حينها الشهيد محمد نجدي. وقد عبّر السيّد عن هذا بالقول: «إنَّ المؤمنين لم يرفضوا اتّفاق 17 أيّار استنادًا إلى موادَّ قانونيّة، بل لرفضهم أساس وجود إسرائيل ورفض إعطائها الشّرعيَّة، وأنّ تحرّكهم ضدّ هذا الاتّفاق، جعل الآخرين يدركون أنَّ هناك وعيًا جديدًا وقوّةً جديدة قد انطلقا في الساحة».
وشرّع السيد فضل الله بمواقفه في تلك اللحظة التاريخية مشروع المواجهة الجهادية الشعبية. وأدّى هذا الحدث إلى تغيير الصورة تمامًا لاحقًا، وجاءت بعدها المقاومة المسلحة التي أكملت إسقاط هذا الاتفاق ومن وراءه، بعد انتفاضة السادس من شباط 1984، وتبدّل الموقف السياسي الذي انتهى إلى إلغاء هذه الاتفاقية. وقد عبّر السيد فضل الله بعدها «إنّ هذا الواقع الجديد نحن صنعناه».
إنّ إغفال هذا الأمر من قبل كاتب المقالات ليس من قبيل المصادفة أو سهو القلم، إذ لا يخفى على أحد موقف أسعد أبو خليل النقدي من الفكر الديني، وكلّ ما يمتّ إليه بصِلة، فهو لم يغفل أيّ خطأ لرجل دين إلا وضعه تحت المجهر، من قبيل التركيز على موقف الشيخ شمس الدين والشيخ عبد الأمير قبلان المناصر لنظام أمين الجميل حينها، بحسب زعمه، متعاميًا عن ذكر أي موقف مقاوم لأيّ رجل دين إلى أي طائفة انتمى.
يهمّنا تذكير الكاتب بأنّ واقع حركات المقاومة يحتّم ارتكازها على عقيدة إيمانيّة راسخة للصمود والانتصار، أيًّا تكن هذه العقيدة. ومسار حركة المقاومة في لبنان منذ الاجتياح الإسرائيلي وما قبله وإلى الآن يثبت هذا. تحتاج المقاومة إلى ركائز عقائدية و/ أو إيمانية، ولعل فقدان القوة الروحية يعني الهزيمة... صحيح أنّ بعضَ النصر قد يتحقّق في مرحلة، بأعمال شبه فردية، لكن يصعب الاستمرار. ومن أراد التعمّق في مفردة القوة الروحية فليراجع كتاب «الإسلام ومنطق القوة» الذي كتبه السيد فضل الله قبل عقود.
إنّ هدف كتابة أسعد أبو خليل لمقالاته هو للردّ على كتاب أمين الجميل والذي يعتبره الكاتب تزويرًا للتاريخ. لذا كنّا نتمنّى ألا يقع للحظة في خطأ الرئيس الجميل نفسه، فيبخس المجاهدين حقوقهم. هؤلاء الذين كانوا في طليعة المتصدّين للاجتياح، والمتعاملين معه في تلك الحقبة. لا يمكن أن نتعامل مع التاريخ تحت وطأة الأهواء، بل علينا أن نتحلّى بالموضوعيّة والحياد. فهو يعرف قبل غيره أنّ التجرّد من أهم صفات الكاتب الناقد الذي يشتغل على التاريخ، ويفترض النهج العلمي أن يعرض الوقائع من دون تحيّز أو مواقف معادية، ناهيك بأنّ هذه الوقائع في منتهى الوضوح، ويصعب التعامي عنها.
إنّ العقيدة والتاريخ الناصع من الركائز التي لا يمكننا التساهل في التعامل معها، ولا سيّما أنّ دماء شرفاء من هذا الوطن روتها، وهامات صمدت رغم العواصف والزلازل، ولم تتزحزح عن هذه الثوابت. ولا يمكن أن نسمح بتزوير التاريخ على مرأى من عيوننا وتسليم من عقولنا، أو نتغاضى عن محاولات طمس الحقائق مهما كانت المبررات أو الدوافع والأسباب، وأيًّا يكن القائل. فميزاننا «لا تعرف الحقَّ بالرجال، اعرف الحقَّ تعرف أهله»، الحقُّ جليٌّ واضح، ولا يطمسه باطل مهما جاء بأوْجه ومسمّيات... فإنّ الحقّ سيدمغه على الدوام.

* مدير التحرير في المركز الإسلامي الثقافي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا