عاش الأطبّاء في العصور القديمة معاناة كبيرة، فكانوا يواجهون الأمراض والخرافات في الوقت نفسه، حيث اعتبر الناس الأمراض نوعاً من اللعنة فلجأوا إلى السحر والخرافة عوضاً عن زيارة الطبي0ب. فى فرنسا، كان مرض الجدري يصيب ثمانين في المئة من السّكان حتى نهاية القرن الثامن عشر (تاريخ اكتشاف اللقاح)، ورغم ذلك تخوّف الفرنسيون من تناول لقاح الجدري وانتشرت الخرافة في المجتمع، فقام الإمبراطور نابليون بونابرت بتلقيح ابنه ليشجع بذلك الفرنسيين الذين أقبلوا على تلقي اللّقاح، فاستطاع نابليون بالتأثير الذي يملكه تحقيق ما لم يتمكن العلم من تحقيقه، حيث لم يكن للعلم في تلك المرحلة سطوة وكان الناس أقرب في تفكيرهم إلى المثالية، فكانوا يقدّسون الملوك ورجال الدين وكل من يمتلك السلطة ويرون فيهم مصدراً موثوقاً للمعلومات ولتحديد ما هو الصواب. وبالرغم من أنّ هذا اللّقاح حقّق النتائج المرجوّة، لكنّه لم ينهِ المواقف المتطرفة تجاه اللقاحات الّتي ظهرت لاحقاً، فالذهنية البشرية حافظت على بعض أنماط التفكير بالرغم من التطوّر والتقدّم في الزمن. الأمر الّذي يدفعنا إلى التساؤل حول سبب لجوء الإنسان إلى الخرافة في القرن الواحد والعشرين.أظهرت أرقام استطلاع للرأي أجرته «الدّولية للمعلومات» أنّ اللبنانيين منقسمون تجاه لقاح كورونا، فـ 38% يرفضونه، 31% يريدونه و31% لم يحدّدوا موقفهم بعد. والأسباب الّتي تقف وراء انخفاض نسبة مريدي اللّقاح عديدة، منها الخوف ممّا هو جديد وهذا أمر مشروع طالما أنّ القضية مرتبطة بصحّة الفرد، ومنها عدم القدرة على الحصول على المعلومات الموثوقة في ظلّ الفوضى الحاصلة والتغيّر المستمر في المعلومات حول هذا الفيروس. لكنّ السبّبب الأكبر بحسب الملاحظة ومتابعة الآراء يعود إلى انتشار الخرافة في المجتمعات - بوصفها أقوالاً غير منطقية قائمة على مجرد تخيلات دون وجود سبب عقلي مبني على العلم والمعرفة- من قبيل القول بأنّ اللّقاح قد يحدث تغيّرات في الجسم أو يحوّل الإنسان إلى مسخ، وهي الفكرة الّتي لم يخجل الرئيس البرازيلي غايير بولسونارو من طرحها حين شنّ هجوماً على اللقاحات المضادة لكوفيد-19 مؤكداً أن لقاح فايزر يمكن أن ينبت لحىً للنساء وأن يحوّل شخصاً إلى تمساح؛ والبعض ذهب أبعد من ذلك متأثراً بنظرية المؤامرة ليبني عليها موقفه القائل بأنّ الهدف من اللّقاح هو زرع رقاقات إلكترونية في أجسام البشر بهدف التحكّم بهم عن بعد.
انتشرت الخرافة في حياة الإنسان القديم كنوع بدائي من التفكير الساعي للحصول على المعرفة والإجابة على الأسئلة الوجودية والمعرفية في محاولة لتفسير العالم أو فهمه؛ إنّها محاولة الخيال في التعويض عن النّقص المعرفي والأسئلة العالقة بدون إجابات عن طريق خلق عالم مثالي نمتلك فيه كل مفاتيح المعرفة، فكان الناس على سبيل المثال يفسرون المرض بأنّه نوع من السّحر بسبب عجزهم عن فهم أسبابه، ولتفسير الظواهر الطبيعية كانوا يقولون بوجود قوى خارقة تتحكّم بالطبيعة، ففسروا الكسوف بأنّ تنيناً يبتلع الشمس؛ بهذا وجدوا إجابات على أسئلتهم المقلقة اعتقدوا أنّها نهائية. هذا النمط في التفكير لم يندثر بشكل نهائي مع نشوء العلم ورواج المذهب التجريبي، بل ظلّ العقل البشري يميل في بعض الأحيان للانعتاق من قيود العلم وأنظمته بتحريض من خياله الراغب في الجموح، لذلك نجد أنّ أنصار الخرافة يسعون إلى إظهار النّقص في العلم والبحث عن إجابات حاسمة وقطعية وإن لم تكن مدعومة بالأدلة والبراهين، بل غالباً ما يستقون معلوماتهم من محيطهم، فيكون الجيران والأقارب قادةً للرأي، ويتأثّرون كذلك بالمعلومات الخاطئة والمفبركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الأحكام المسبقة يعبّر عنها إيمانويل كانط بأنّها «تقف عائقاً بين الإنسان وعقله»، وقد حدّد الفيلسوف الألماني مفهومه لفكرة التنوير بالقول: «هو خروج المرء من القصور الذي فرضه هو بنفسه على نفسه». ويضيف موضحاً بأن القصور هذا هو «عدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون إرشاد الغير، حيث علّته في غياب التصميم وغياب الجرأة على استخدام الفهم من دون إرشاد»، هذا الكلام لكانط هو توصيف للكيفية التي يتفاعل بها معظم الأفراد في المجتمعات مع المعطيات - خاصة الجديدة منها- وفي حين يحاول البعض قهر المخاوف المتعلّقة بعدم التماهي مع الجماعة والانجراف مع تيار المعتقدات السائدة، يفضل آخرون تصديق الآراء الشائعة الّتي تشعرهم بنوع من التناغم مع البيئة المحيطة. وبالنسبة إلى كانط، من أهم نتائج التنوير سقوط الخرافات والسرديّات الواهمة. وحول هذا الأمر يقول رادين تايلور إنّ الشخص العادي يشعر بالرضا لوجود العالم، ولتتابع الأحداث فيه، لكن لتفسيرات هذه الأحداث أهمية ثانوية، فهو مستعد لتقبّل التفسير الأول الذي يأتيه عَرَضاً، ولا يكترث البتة بأية تفسيرات عميقة، بل ينزع إلى تفسير في مقابل تفسير آخر. وإذا ما ربطنا هذه النظرية بالواقع الحالي نجد أنّ الآراء التي تكوّنت على المستوى الشعبي تجاه لقاح كورونا ضمن تلك الفئة الرافضة للقاح، تنزع دائماً إلى مواجهة التفسير العلمي بتفسيرات اعتباطية بهدف تفنيده ودحضه، مدافعة عن موقفها الأوّل.
ليس الخلاف حول اللقاحات بجديد، وهناك جماعات مناوئة لها في الدول المتقدمة، ويدعي بعضهم أنّ الأمراض كانت على وشك الاختفاء قبل ظهور اللقاحات


اللافت في السّجال الدائر حول جدوى اللّقاح والمعلومات المتداولة بين النّاس بشأن كورونا هو أنّنا سنجد بين متبنّي الأفكار الّتي تحمل طابعاً خرافياً أو غير منطقي وتلك الأفكار الّتي لا تحمل طابعاً علمياً مبنياً على المقدّمات والنتائج، أشخاصاً يحملون صفات علمية منها طبية وأكاديمية...، في هذا الموضع يصبح تفهّم الموقف أكثر صعوبةً، وربما يكون الدافع لتبني مثل هذه المواقف من قبل هؤلاء، الرّغبة في إظهار التفوّق من خلال التفرّد في المواقف، أو هي رغبة العقل في التحرر من قيود التفكير وبالتالي النّظر بطريقة مختلفة إلى العالم تحمل نوعاً من إثارة اللامعقول، لذلك يعتبر أرنست كاسيير أنّ «الخرافة بدائية وحديثة بحيث لم تعد القوى العقلانية الّتي تقاوم صعود المفاهيم الخرافية القديمة واثقة من نفسها، وفي هذه اللّحظات حلّ زمن الخرافة مرّة أخرى». فمن الواضح أنّه ليس بمقدور المرء أحياناً- مهما ارتقى في المعرفة العلميّة - أن يتحرّر من جميع أحكامه المسبقة، الثقافيّة منها والمعرفيّة، فبعضها ثابت في ثقافة مجتمعه، وما زال الموروث الخرافي في ذهنية المتعلّم يؤثر بشكل فعّال في مواقفه، خصوصاً في الأزمات غير المتوقّعة حيث يصبح على استعداد لتصديق الخرافة فيتساوى المتعلّم وغير المتعلّم، ومن ثمّ فإنّه يحتاج إلى بذل مجهود أكبر من أجل التخلّص منها بحيث لا يكفيه العلم.
ليس الخلاف حول اللّقاحات بالأمر الجديد بل هو أمر قديم، وقد تشكّلت جماعات مناوئة للقاحات في أكثر الدّول تقدماً يرفض أفرادها إعطاء اللقاحات لأبنائهم، وقد شهدت الولايات المتحدة وهي المعقل الأكبر للحركات المناهضة للتلقيح ارتفاعاً في تفشي الحصبة وارتفاع نسب الوفيات بهذا المرض في الأعوام المنصرمة بسبب انتشار الخرافات التي تزعم أنّ اللقاح يسبب التوحّد وأنّ الجهاز المناعي للأطفال لا يتحمل اللقاحات الكثيرة، فيما يعتقد آخرون أنّ الأمراض كانت على وشك الاختفاء قبل ظهور اللّقاحات! واليوم تظهر هذه المشكلة كعائق أمام مواجهة كورونا في الوقت الّذي حصد فيه هذا الوباء أكثر من مليونَي حالة وفاة حتّى لحظة كتابة هذا المقال. وفي موازاة انطلاق حملات التلقيح في العالم، يُلحَظ تراجعٌ في بعض المواقف المناوئة للّقاح مع انتشار حملات التوعية، فهل تكون الغلبة للعقل في مواجهة الخرافة؟

* صحافية وباحثة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا