انهيار سعر الصرف في لبنان بهذه الوتيرة القياسية يُغري بعقد مقارنات مع النموذج السوري، الذي تنهار عملته أيضاً، ولكن ليس بالقدر نفسه ولا بالسرعة نفسها، نظراً إلى وجود كوابح غير متوفِّرة في النموذج اللبناني. الفارق الأساسي بين النموذجين، بالإضافة إلى طبيعة الاقتصاد والنموّ في العملية الإنتاجية من عدمه، هو في المعيار الخاصّ بميزان المدفوعات. والحال أنه يشهد، في سوريا فائضاً كبيراً (ليس ثمّة قياس دقيق له بسبب عدم مرور التحويلات من الخارج في قنوات رسمية) بسبب بداية تشكُّل «نموذج ريعي» قوامُه تحويلات المهاجرين من دول اللجوء الأوروبية، في حين يسجِّل الميزان نفسه في الحالة اللبنانية عجزاً قياسياً، كان بالإضافة إلى أزمة انحباس الودائع وشحّ الدولار في أساس الانهيار الحاصل منذ أواخر عام 2019.
النموذج اللبناني
المقارنة تبدأ من اللحظة التي بدأ فيها سعر الصرف بالتراجع في لبنان، بعد عقود من الاستقرار كنتيجة لسياسة التثبيت التي قادها مصرف لبنان منذ عام 1992. في هذه الفترة كان سعر صرف الليرة السورية قد تضاعَفَ عشر مرات تقريباً (من 50 ليرة مقابل الدولار إلى 500) بسبب الأجزاء التي فُقِدت من الناتج المحلّي الإجمالي خلال الحرب، ولكن ليس بما يكفي ليجعل من هذا التراجع انهياراً كما حصل لاحقاً إثر التوأمة مع الأزمة اللبنانية. يمكن القول أيضاً إن الأزمة في سوريا لم تكن مصرفية كما في لبنان، أو لنَقُل، لم تبدأ من القطاع المصرفي، لتنتقل بعدها إلى الاقتصاد الحقيقي، وإنما كان محورها منذ البداية العملية الإنتاجية التي هي مركز صناعة الثروة. في الحالة اللبنانية التي سبقت الانهيار يحصل العكس إذ تنتقل الثروة من الخارج على شكل تدفّقات نقدية، ليتولّى القطاع المصرفي إدارتها من خلال أسعار الفائدة. وهذا فارق أساسي بين التجربتين، حيث لا يحظى القطاع المصرفي هنا بدور كبير في توزيع الدخل وخصوصاً مع تراجع جاذبيته كمحفظة للادخار إثر التدهور الحادّ الذي أصاب الليرة منذ بداية الحرب، وبالتالي انعدام جدوى الائتمان بالعملة المحلّية.

لوحة لفنان الفونسي فرنان ليجيه بعنوان «المدينة» (1920)، أكواريل على ورق مقوّى، 22,2x29 سنتم

الاختلاف هنا نابع من بنية الاقتصاد اللبناني الذي لا يحتلّ الإنتاج فيه مكاناً متقدماً، مقارنةً بقنوات التوزيع، وعلى رأسها المصارف وهذا يجعل الأزمة حين تقع تصيب هذه القنوات، لأنها بخلاف الإنتاج محور العملية الاقتصادية. ثمّ بعد ذلك تنتقل إلى الهياكل الأكثر فاعلية في الاقتصاد اللبناني والمرتبطة مباشرةً بالإدارة الريعية المصرفية للاقتصاد وعلى رأسها قطاعات الخدمات والتجارة والسياحة، لتصل أخيراً إلى الإنتاج بما يمثّله على مستوى العمالة والوظائف والدخل و..الخ. وهو ما حصل بالفعل بعد الانفجار الكبير في تشرين الأول من عام 2019، إذ لم تنعكس الأزمة على سعر الصرف إلا بعد أشهر من انحباس الودائع ليتبيّن عندها أنها ليست مجرّد أزمة سيولة بالدولار أو دين عام متراكم ، بقدر ما هي أزمة نموذج في الاقتصاد، لم يعد قادراً على الاستمرار. ومن هنا بدأنا نرى ليس فقط انهيار سعر الصرف، بل أيضاً تأثيره المباشر على القطاعات الاقتصادية الأساسية التي بدأت تفقد القدرة حتى على مجرّد الصمود في السوق بسبب جفاف السيولة بالدولار، وبالتالي انقطاع شريان الاستيراد الذي من دونه يفقد النموذج علّة وجوده، أي تمويل الإنفاق بالدولار عبر التدفُّقات من الخارج. كلُّ ذلك لا يصنع الاختلاف بين الانهيارين فحسب، بل أيضاً يضعهما على طرفَي نقيض، لجهة الأسباب الفعلية لما حصل قبل أن يتقاطعا لاحقاً عند مفترق انهيار سعر الصرف.

النموذج السوري
بهذا المعنى، تبدو الأزمة هنا محصورة في القطاعات المنتِجة التي كانت تعاني أصلاً من تراجع في إنتاجها، ليس فقط بسبب تعثُّر تبادلاتها مع الخارج، بل أيضاً بسبب منعها من الحصول على المواد الأولية اللازمة للصناعة. على أنّ التراجع في الإنتاج لم يتسبَّب أقلّه حتى منتصف الأزمة بحصول شحّ أو نُدرة في عرض المنتجات، لأنّ التنوّع الذي تتسم به هياكل الإنتاج في سوريا يتيح لها قدراً أكبر من التكيّف مع التحدّيات المختلفة، بما في ذلك نظام العقوبات وهو ما لا يتوافر بالقدر نفسه لنظيرتها في لبنان. هكذا بقيت هذه الهياكل تعمل وتلبّي حاجات السوريين الأساسية، ولكن بمعروض يتحكّم به التجار أولاً وسعر الصرف ثانياً. هذا، جَعَل عملية التبادل التجاري هنا تنكشف تماماً على الأزمة اللبنانية، إذ بمجرّد انحباس الودائع في القطاع المصرفي هناك، ومن ضمنها ودائع السوريين المتواجدين في لبنان، انتقل الطلب على الدولار من السوق اللبنانية إلى نظيرتها السورية، أو لنقل حصل تزامُنٌ في الطلب بين السوقين وبالتالي بدأ الانهيار في سعر الصرف يحدث بوتيرة قياسية. مع هذا الانهيار القياسي ازداد التضخّم أيضاً بمعدّلات قياسية فتضاعفت أسعار السلع والمنتجات على نحو لم يحدث منذ بداية الحرب، إذ شهد هذان العامان فقط ارتفاعاً في الأسعار يعادل كلّ ما استغرقته رحلة التضخّم خلال السنوات العشر الفائتة وأكثر. وهو ما جعل من الاستمرارية التي تتّسم بها عملية الإنتاج أقلّه بغرض تحقيق الاكتفاء الذاتي عبثيةً إلى حدّ ما، إذ تسبَّبَ التضخّم بانقطاع السلسلة التي تربطها بالتبادل والاستهلاك وبالتالي لم يعد المعروض من المنتجات مهما كانت وفرتُه في متناول الأكثرية التي تكافح من أجل البقاء في الداخل.

دور الحلقات الوسيطة
في ذلك الوقت، كانت الحرب لا تزال مستعرة ولم تكن السلطة عبر أدواتها الاقتصادية في وارد التدخّل في عملية التبادل، وبالتالي كان لا بدّ من تدخّل طرف ما لتسهيل حصول الناس على السلع الأساسية التي لم يعد بإمكانهم شراؤها. وهنا تم الاتفاق على قيام الجمعيات بهذا الدور بعد تزايد حضورها المرتبط بالنشاط الأممي الإغاثي وحتى التسووي في البلاد، فحصل تنظيم لنشاطها بالاتفاق مع أجهزة الدولة لمعاودة ربط السلسلة التي انقطعت مع حصول التضخّم. وقد استمرّ هذا الأمر لفترة، حيث كانت تتولّى تأمين المنتجات الأساسية للناس ولكن ليس من دون مقابل تماماً، فنشاطها في الداخل اكتسب شرعية من هذا الجهد الإغاثي، تمهيداً لأدوار لاحقة مختلفة عن السياق الحالي. على أنّ المهمّ هنا، وفي الإطار المتصل بدورها الذي يتوسّط الحلقة الإنتاجية للخروج جزئياً من نفق التضخّم، هو عملها الميداني، وقد بدا بالفعل أساسياً قبل الانتقال إلى الحلقات الأخرى في توفير الدعم التي تولّتها السلطة والمجموعات المهاجرة تباعاً. هكذا، وبعد انتهاء العمليات العسكرية على معظم الأراضي السورية باستثناء إدلب انحسر الاهتمام الدولي بالقضية السورية وباتت الفاعلية محصورة بالمثلّث الروسي التركي الإيراني الذي تولّى قيادة الجهد السياسي والميداني عبر منصّتَي آستانا وسوتشي. ومع هذا الانحسار بدأت الجمعيات بالانسحاب من النشاط الإغاثي نتيجةً لشحّ التمويل، وكان لا بدّ من الحفاظ على المُنجَز الذي تحقَّق بفعل نشاطها، أقله لكي لا يُترَك الناس نهباً للتضخّم ونهم التجار إلى الربح مرّة أخرى.

استعادة سياسات الدعم
والحال أنها كانت مناسَبةً لاستعادة الملفّ الاقتصادي رسمياً، ولكن بجدّية أكبر هذه المرّة بعد الانتهاء من العمليات العسكرية الفعلية، فأُنشِئَت «مؤسسة التجارة» بمرسوم في عام 2016 لمحاولة الحدّ من نهم القطاع الخاص التجاري إلى الربح. الدور الذي لعبته المؤسّسة لاحقاً كان جيداً في توفير الدعم لسلع أساسية، عبر استيرادها مباشرةً من المصدر المورِّد وبيعها للمستهلكين في منافذها التجارية وبأسعار أقلّ من التسعيرة السوقية. وهذا يُعتبر بمثابة استعادة ولو محدودة وفي إطار عدم ترك الطبقات الشعبية تنهار تماماً لتقليد الدعم الذي كان مُتّبعاً في الحقبة الاشتراكية، قبل التخلّي عنه لاحقاً لمصلحة السياسات النيوليبرالية التي أتت على كلّ شيء، بما في ذلك قطاع الإنتاج. ولكن أيضاً وفي غياب إنتاج فعلي يحافظ على حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي، أي على التناسب بين الأجور والأسعار، تصبح سياسات الدعم نفسها عُرضةً للتآكل، وتبدو في غياب أيّ حلّ لأزمة التضخم المستمرّة محكومةً بتقلّبات سعر الصرف، وهذا يعني حُكماً خسارة المعركة مع التجّار والسوق السوداء للدولار. وهو ما يفضي بالضرورة إلى العجز عن توفير منصّة ثابتة أو دائمة لاستهلاك هذه السلع، شعبياً، وبالتالي يصبح مفهوماً لجوء الناس إمّا إلى الادّخار بالدولار والذهب وإمّا إلى الإنفاق من التحويلات التي تأتي من المهاجرين بسعر الصرف غير النظامي، بوصفهما المخرج الوحيد المُتاح للحفاظ على القدرة الشرائية في ظلّ انهيارها تماماً بالسعر الرسمي، أو بالدخل بالليرة.

* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا