لم يعد التعليم وحده كفيلاً بتكوين الشخصية النهائية للإنسان، فالكثير من الدراسات والإحصاءات يشير إلى تفوّق الإعلام على التعليم في معظم الأمور والقضايا الأساسية في الحياة، إذ قبل أزمة كورونا كان يقضي الطفل العادي نحو 900 ساعة سنوياً في المدرسة ومتابعاتها، في مقابل أكثر من 3000 ساعة بين التلفاز (1500 ساعة) ووسائل التواصل الاجتماعي (1600 ساعة)، وهذا يعني أنه بحلول وقت تخرّجه من المدرسة الثانوية، يكون قد أمضى نحو 36000 ساعة، مقابل 11000 ساعة تدريسية في الفصل الدراسي. في ظل انتشار وباء كورونا، سُجّلت، وبالتحديد بعد أواسط العام الفائت، زيادة كبيرة في استخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي؛ مشاهدة التلفاز 56 في المئة عن السابق، استخدام فيسبوك، تويتر، انستغرام، سناب وغيرها بنسبة 43 في المئة، مشاهدة التغطيات المباشرة على الإنترنيت 36 في المئة، مشاهدة المسلسلات والأفلام عن طريق Netflix وغيرها 27 في المئة، استخدام ألعاب الفيديو والكمبيوتر 18في المئة... هذه النسب رفعت بشكلٍ متضاعف ساعات مشاهدة التلفاز واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في مقابل انخفاض مستوى التعليم المدرسي بأشكاله المتنوعة كمّاً ونوعاً، ضمن أزمة تعليمٍ عالمية... هذا التلقّي الواسع والمتكرر جعل نسبة تلقّي مخرجات الإعلام ووسائل التواصل ومنتجاته متفوّقة بدرجة لا تقارن مع نسبة مخرجات المدرسة والتعليم الكلاسيكي...
وهذا ما شكل ويشكل تحديات تربوية مستجدة يجب الالتفات إليها وتداركها؛ فعلماً أنه في لبنان لا يوجد أي تنظيم قانوني للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بخلاف عددٍ من البلدان مثل السويد (1) ـــ مع أنها تراجعت أمام ضربات أصحاب رؤوس الأموال ـــ إلا أنها حافظت على بعض القوانين. فعلى مدار السنين كان الصراع جارياً ولا يزال بين الإعلام والقيم، كما هو اليوم بين الصحة والاقتصاد! ولا داعي لأن نخبركم من الذي انتصر!
ولأن المسألة مرتبطة بأخلاقيات كل إذاعة ومجلة، فكل ما يمكن أن يجذب المشاهدين بأرخص الأثمان سيكون هو ملاذ أي وسيلة إعلامية (خاصة في الظروف التي يمر بها القطاع الإعلامي) إذ لا تتردد غالبية الشبكات في إظهار سلوكيات وحالات اجتماعية شاذة ( غير مألوفة اجتماعياً، أفعال جنسية صارخة وإيحاءات غير مسؤولة، أعمال عنف...) وذلك مرارًا وتكرارًا خلال موادها الإعلامية والإعلانية من برامج وغيرها، وبعضها أصلاً يعتاش على مثل هذه المشاهد والنماذج الاجتماعية غير المتعارفة أو المقبولة.
وحيث لا توجد دراسات في لبنان حول مثل هذه المسائل، إلا أن الدراسات العالمية تشير إلى تضاعف الإشارات والإيحاءات الجسدية واللفظية الجنسية، وقد تجاوزت نسبتها 270 في المئة ـــ أي أكثر من ضعفين ـــ في القرن الحادي والعشرين! أضف إليها الأفلام التي تعرض على مواقع التلفاز وشاشاته، وهي تكون بالعادة أكثر وضوحاً في المشاهد الإباحية والخيانات. وتشير الإحصائيات في هذا السياق إلى أن الجنس بين الشركاء غير المتزوجين بات 24 مرة أكثر في الأفلام والمسلسلات من الجنس بين الزوجين... وهذه الأفلام منتشرة في العالم، ويحضرها الكثير من المراهقين والناشئة عبر منصات مختلفة!
في موازاة ذلك، تقع الأعمال العنفية التي تشمل الاغتصاب، وغيره، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الطفل العادي يشاهد 12 ألف عمل عنيف على شاشات التلفزيون سنوياً، بما في ذلك العديد من صور القتل والاغتصاب، وأن عدد الجرائم التي يشاهدها الأطفال ما دون الثالثة عشرة يقارب 8 آلاف جريمة..
هذان نموذجان، من كثير من النماذج... لكن الأسوأ أن التلفاز والمواقع المختلفة تعرض تلك السلوكيات بطرقٍ تصور مثل هذه الأعمال على أنها طبيعية، وترسل رسالة مفادها أن هذه السلوكيات متكررة، فيتلطى أصحابها تحت عبارة «الكل يفعلها» (2).
هذه المشاهد وغيرها، لو أجرينا عليها حسابات بسيطه مع ضرب النسب المئوية للزيادات الحاصلة، في ظل الأزمة، لاكتشفنا كم صار حجمها في أذهان الناشئة وأفكارهم، وهذا يعني وجود حجم كبير من المدخلات الخطيرة لجيلٍ بأكمله! ولا تخفى آثار مثل تلك المشاهدات على الناشئة. فقد حذر عدد كبير من الدراسات (أكثر من 2880 دراسة) من أن مشاهد العنف في التلفاز هي العامل الطبيعي للعنف الواقعي ولكثير من الجرائم وعمليات السرقة التي تحصل في عالمنا الحالي، وأن الإيحاءات والمشاهد الجنسية لها آثار عديدة؛ منها ما هو مرتبط بالمعتقدات المتعلقة بنظرة الرجل إلى المرأة وتعامله معها، والمعتقدات الجنسية للطرفين، والمعتقدات المتعلقة بالخيانات الزوجية، والاستقرار العائلي، ومعايير الجمال... وتطول القائمة التي يضيق المجال عن ذكرها هنا.
واقعاً، الكثير من هذه الدراسات يعكس أرقاماً وعناوين خطيرة: تأثير التلفاز على تغذية الطفل، تغييب دور الأهل، تعاطي التدخين والمخدرات، المفاهيم الجنسية، زيادة نسب التوحد، زيادة حالات الانتحار... ويمكن مراجعة بعض تلك الدراسات والمقالات ضمن منشورات «أوكسفورد يونيفرسيتي برس» (3).

* كاتب وباحث في المجال التربوي

الهوامش
(1) في عام 1970، بعد إلغاء البرلمان السويدي القانون القديم بحظر المواد الإباحية، بدأت المواد الإباحية المنتجة بكميات كبيرة بالظهور في السويد. أدّت حملة واسعة النطاق ضد المواد الإباحية إلى إقرار قانون في عام 1980 يحظر استغلال الأطفال في المواد الإباحية.
(2) Greenberg BS, Stanley C, Siemicki M, et al. Sex Content on Soaps and Prime Time Televisions Series Viewed by Adolescents Project CAST (Children and Sex on Television), Report no 2. East Lansing: Michigan State University Department of Telecommunication; 1986. [Google Scholar] [Ref list]
(3) Articles from Paediatrics & Child Health are provided here courtesy of Oxford University Press

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا