ليس جديداً كل هذا النقاش حول المقاومة، لأن مجمل العناوين والطروحات التي يُفصح عنها، تعود في نهاية المطاف إلى سلاح المقاومة وقدراتها العسكرية وغير العسكرية، التي تؤرق إسرائيل، وتُزعج حلفاءها، لأنها – أي تلك القدرات – استطاعت أن تكبّل يد إسرائيل، وتحدّ من حركتها في لبنان، بل وتؤثر عليها في المنطقة أيضاً.سوف أتجاوز الحديث حول أولوية هذا الموضوع في ظلّ ما يشهده لبنان من أزمة اقتصادية واجتماعية قاسية. إذ إنّ ترتيب الأولويات قد يقود الى ضرورة الاهتمام الحالي بتلك الأزمة من قبل الجميع؛ بمن فيهم المؤسسات الدينية المعنية بالشأن العام الوطني؛ لكن من زاوية الإسهام في تلك القضايا التي أثيرت حول المقاومة؛ كان لا بدَّ من هذه المقالة فيها.
وهنا ينبغي القول إنّ قضية المقاومة هي قضية وطنية وقومية، وهو أمر صحي أن يشارك الجميع في النقاش فيها، بمن فيهم المؤسسات الدينية على أساس من القيم الدينية التي تدور حول العدالة والإنصاف، والمصلحة الوطنية، والأمن القومي اللبناني، بعيداً عن أية مؤثرات طائفية أو خارجية قد تحاول أن تمارس دورها في هذا السياق، حيث قد يتداخل الديني بالطائفي، ويتلوّث القيمي بالسياسي، ويمتزج الوطني بالخارجي، وهو ما يحول دون مقاربة هذه القضية بشكل علمي وموضوعي، ويُفسد أي مسعى للتوافق والحوار. وهو -للأسف- ما تعاني منه الحالة اللبنانية في مجمل ميادينها.
وما يجب التأكيد عليه هو أنّ الشرط الأساس لنجاح أي حوار أو نقاش، هو تحديد مرتكزات ذلك الحوار والاتفاق عليها؛ وإلا سوف يكون ذلك الحوار فعلاً عبثياً، لن يوصل إلى مقصد أو نتيجة.
وإنّ من أهم تلك المرتكزات الاتفاق على مكمن المشكلة، وطبيعتها – تحرير محل النزاع بتعبير الفقهاء –، وتالياً الذهاب إلى الحلول المتصوَّرة لها، لأنه إذا لم يكن من اتفاق على تحديد طبيعة المشكلة، فسوف تتباين عندها كل الطروحات ذات الصلة، ولن تتلاقى على مشترك جامع.
وهنا، فليسمح لنا مجمل الذين يقاربون قضية المقاومة من خلال تلك العناوين على اختلافها – تدويل، مؤتمر دولي، حياد...- أن نقول بأن خللاً أساسياً يتبدّى في مقاربة العديد منهم لقضية المقاومة، وهو أنّ ما يظهر من مجمل كلامهم، أنهم يعتقدون أن جوهر المشكلة يكمن في المقاومة وقدراتها العسكرية، وما تفرضه ظروف المواجهة من خصوصية لبِنية المقاومة ودورها؛ وليس في الأسباب والظروف التي أنتجتها.
وهو ما يجب العمل على تصويبه وتصحيحه، قبل أي شيء آخر، لأن من يعتقد أن المشكلة في المقاومة، لن يكون لديه من هدف وغاية إلا التخلّص منها، والتصويب عليها، وهو ما لا يُسعف فعل الحوار وإنجاحه. في حين أن من يعتقد أن المشكلة تكمن في الأسباب التي أدّت إلى استيلاد المقاومة وتهيئة ظروفها، فسوف تكون مقاربته مختلفة بشكل جذري.
قد يصحّ القول إن المشكلة في مجملها تكمن في أسباب خمسة:
1- عنصرية الكيان الإسرائيلي واستعلائيته في المنطقة؛ وقد لا نحتاج إلى العودة إلى التاريخ في هذا الشأن، يكفي أن نعاين سلوك هذا النظام مع الشعب الفلسطيني اليوم، وعلى كلّ المستويات، حتى نصل إلى هذه النتيجة، فضلاً عن تجربتنا المريرة في لبنان مع هذا الكيان.
2- توسعية ذلك الكيان وعدوانيته؛ وهو ما يترتّب على ما تقدّم. لكن نحتاج إلى إفراده في عنوان مستقل لأهميته في بحثنا. وهو أمر قد لا يحتاج إلى مزيد نقاش، لأن هذا الكيان قام على الاحتلال، والظلم، والإفساد، والتهجير، والعدوان، وارتكاب المجازر. ولا يزال إلى الآن يمارس موبقاته تلك، ويعتدي على سيادة الدول، وينتهك حقوق الإنسان، ويدير ظهره لجميع القرارات والمواثيق الدولية، دون حسيب أو رقيب من أحد. بل هو يلقى الدعم من حليفته الولايات المتحدة الأميركية في كلّ ذلك.
3- فائض القوة لديه، وقدراته العدوانية: لن نتحدث في القدرات النووية والسلاح النووي المفترض لدى هذا الكيان، بل سنقتصر على السلاح التقليدي لديه، حيث كان – ولا يزال – يمتلك قدرات عسكرية متقدمة جداً، وإمكانات كبيرة، استخدمها - ولا يزال يفعل - في احتلال الكثير من الأراضي العربية، وهزيمة العديد من الجيوش العربية، مدعوماً في كل ذلك بما تقدّمه له الولايات المتحدة الأميركية من إمكانات ومساعدات، ومن التزام بالحفاظ على أمنه وتفوقه العسكري في المنطقة.
4- ضعف الدولة اللبنانية في مواجهة ذلك الكيان؛ لن نتحدث عن الضعف الاقتصادي أو السياسي... بل عن الضعف الأمني والعسكري في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وقدراته، ومجمل قواه الأمنية والعسكرية، والذي هو تعبير عن ضعف بنيوي تعاني منه الدولة في لبنان. هذا فضلاً عن أنّ قراراً متخذاً بالإبقاء على القوى العسكرية والأمنية اللبنانية تحت سقف الحفاظ على التفوّق الإسرائيلي في المنطقة، وعدم حصول تلك القوى العسكرية والأمنية على أية قدرة، من شأنها أن تشكل تهديداً لذلك الكيان، أو رادعاً له، عن ممارسة الهيمنة، والعدوان، والتعدّي.
ولعلّه من الواضح للجميع أنّ الدولة اللبنانية – ولأسباب متعددة – غير قادرة –أقلّه في المدى المنظور- على امتلاك جميع عناصر القوة العسكرية والأمنية، التي تردع الكيان الإسرائيلي، وتواجه اعتداءاته واحتلاله؛ وتجربة أكثر من سبعين عاماً كافية لإثبات ذلك، هذا فضلاً عن مجمل الظروف والأوضاع التي يمرّ بها لبنان حالياً.
5-سياسات الإهمال والتهميش من قبل الدولة اللبنانية للجنوب – بل مجمل الأطراف، عدا المركز وجبل لبنان -؛ هذه السياسات التي امتدت لسنوات طويلة منذ نشأة الكيان اللبناني، تركت الجنوب – بل وغيره من المناطق اللبنانية – فريسة للأطماع الإسرائيلية والعدوان الإسرائيلي؛ وهذا الأمر قد يرقى ليكون بمثابة عقيدة سياسية لدى البعض، بأن جبل لبنان هو المركز، وأنّ العديد من المناطق الأخرى هي بمثابة ملحق، وأنّ مواطنيها لا يتمتعون بالحقوق نفسها التي لمواطني المركز؛ وإلا كيف نفهم سياسات التهميش والإهمال الممنهجة للجنوب اللبناني من قبل الدولة اللبنانية في تلك الفترة التاريخية ، حتى في مراحل الازدهار النسبي للاقتصاد والاستقرار السياسي، وهو ما استدعى أن يطلق الإمام الصدر صرخته المدوّية: «لا نقبل أن يبتسم لبنان، ويبقى جنوبه متألماً».
إنّ الدولة اللبنانية لم يكن في حساباتها ومن أولوياتها ردع إسرائيل، وحماية أرضها وإنسانها من الاعتداءات الإسرائيلية، منذ نشأة الكيان الإسرائيلي ولعقود طويلة. هذا فضلاً عن عوامل أخرى تتصل بالسياسات الأميركية والغربية الداعمة لإسرائيل على مجمل الصعد، وسياسات العديد من الأنظمة العربية التي نحتْ نحو التعاون والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، حيث لم يكن لدى مجمل الدول العربية -إلا ما ندر- من دور فارق وجوهري في دعم مواجهة لبنان لذلك العدوان وردعه، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالبعد العسكري والأمني.
وبناءً على ما تقدّم، لم يكن من خيار أمام المجتمع اللبناني، إلا أن يبادر بنفسه لحماية وجوده، وحدوده، وحياته، ورزقه، وعرضه، وأمنه؛ فكانت المقاومة بمثابة نتيجة لتلك الأسباب التي ذُكرت، ومبادرة وطنية للتعامل مع تلك المشكلة وعناصرها، وردّة فعل منطقية تمارسها الشعوب على اختلافها، عندما تتعرض للظروف والأسباب نفسها.
لقد كانت المقاومة – وما زالت – بمثابة نهجٍ لا بديل واقعياً عنه للتعامل مع تلك المشكلة، وخيارٍ اجترحه المجتمع اللبناني لمعالجة جميع تلك الأسباب، والعوامل التي أوصلته إلى وضع يعيش فيه تهديداً لوجوده، وأمنه، وجميع ما لديه. فلم يكن من مناص أمام المواطنين، وتلك الفئة من اللبنانيين؛ إلّا اللجوء إلى اعتماد هذا الخيار للتعامل مع الأسباب التي ذُكرت.
إذن، المعادلة الصحيحة هي أنّ المقاومة هي بمثابة العلاج الشعبي للمشكلة، والحلّ المتاح في مواجهة التهديد والعدوان، وهي النتيجة لتلك الأسباب؛ وإنّ أي مسعى لقلب هذه المعادلة، وتصوير النتيجة على أنّها السبب، وتظهير المقاومة على أنها المشكلة؛ هو افتئات على الحقيقة، وهو مسعى خاطئ، لا يفضي إلى نتائج منطقية، وإلى التأسيس لمشتركات وطنية.
وعليه، سوف يكون السؤال جداً بديهياً، وهو: عندما يكون إلى جوارنا كيان عنصري عدواني، يمارس الاحتلال والعدوان، ويمتلك فائضاً من القوة يمكّنه من التّغوّل الدائم على لبنان وشعبه وثرواته، ويلقى الدعم اللامحدود من حليفته الولايات المتحدة الأميركية، ولا يأبه للقوانين والقرارات الدولية، مع هذا الضعف البنيوي الذي تعاني منه الدولة، وعدم قدرتها على امتلاك جميع عناصر القوة لردعه؛ فهنا، هل سوف يكون أمراً عقلائياً، ووطنياً، وأخلاقياً، ودينياً..، التخلّي عن عامل القوة الأساس الذي نملك – وهو المقاومة – والذي أثبت قدرته وجدوائيته في مواجهة هذا الكيان وردعه، وذلك بعد سنواتٍ طوال وتجارب مريرة، جُبلت بالدماء، والتضحيات الجسام؟
وهل من بديل لدى هؤلاء عن المقاومة؛ بديل تثبته التجربة، ويعضده التاريخ، ويرتضيه العقل، وتصدق مفاصله بالدليل والبرهان؟
إنّ البديل عن المقاومة أمر من اثنين: إمّا أن لا يبقى كيان عدواني اسمه إسرائيل – وهو النموذج الغربي في التعامل مع النظام النازي في ألمانيا -؛ وإمّا أن يصار إلى معالجة مجمل تلك الأسباب المذكورة، والتي منها الذهاب إلى بناء دولة عادلة وقوية على جميع الصعد، بما يمكنها من حماية نفسها، وحقوقها، ومصالحها، وأمنها القومي، وردع أي عدوان أو تهديد يمكن أن تتعرّض له؛ دولة تملك قرارها السيادي المتحرّر من أية مؤثرات خارجية، أو داخلية؛ تنحو إلى إهمال حقوق المواطنين في هذا السياق، وتكبيل واجب الدولة نحوهم، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن نفسها، وحقوقها، ومصالحها، وأمنها القومي، ودفع أية تهديدات محتملة.
الشرط الأساس لنجاح أي حوار أو نقاش هو تحديد مرتكزاته والاتفاق عليها، وإلا سيكون فعلاً عبثياً لن يوصل إلى نتيجة


وإلّا، هل من وطني يقبل أن يفقد لبنان قدرته على ردع إسرائيل؟ هل من ملتزم بدين العدالة وعدالة الدين، يرتضي أن يجعل وطنه عارياً أمام الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية؟ هل من حريص على الدولة وقيامة لبنان، يسعى إلى أن يعيد الأمور إلى وضع، تستطيع فيه إسرائيل أن تعتدي على لبنان، متى شاءت، وتحتل أراضيه متى أرادت، وتفرض عليه مصالحها متى رغبت في ذلك؟
إنّ من يسعى إلى تصوير الأمور وكأن المقاومة هي المشكلة، إما أنه لا يرى في إسرائيل عدواً عنصرياً وتوسعياً، أو أنه يرى أنّ لبنان الرسمي قادر من دون المقاومة على ردع إسرائيل ومواجهتها، أو أنّ لديه خياراً آخر يمكن أن يهدينا إليه لمعالجة أسباب المشكلة وعناصرها؛ إذ إنّ المقاومة لم تُستولد من رحم الواقع نتيجة لخيار إيديولوجي، وإنّما نتيجة لأسباب وظروف اجتماعية وتاريخية، منطقية وطبيعية جداً. وعندما تُعالج تلك الأسباب، وتنتفي تلك الظروف، لا يبقى من مبرر موضوعي لوجود المقاومة.
وأمّا أن يقال إنّ إسرائيل هي العدو، وأنّ لبنان الرسمي غير قادر على ردعها ومواجهتها؛ ويُعمل في المقابل على تصوير المعادلة وكأنّ المقاومة هي المشكلة؛ فهو ما يجعلنا نعتقد أنّ هذه المقاربة تفتقد إلى العلمية والموضوعية، لأنّ لقولنا إنّ إسرائيل هي العدوّ، وإنّها التهديد الشامل والدائم للدولة في لبنان؛ دلالات ونتائج بعيدة عن الاستراتيجية الوطنية، بما فيها الدفاعية منها.
ولذلك، لن تكون غير ذات فائدة الإشارة إلى أنه لا يوجد في لبنان جيشان، بل جيش واحد هو الجيش اللبناني، ومقاومة وطنية، كانت – وما زالت – بمثابة بديلٍ اضطراري عن عدم قدرة القوى العسكرية الرسمية على مواجهة إسرائيل؛ وليس في لبنان دويلة اسمها المقاومة، وإنما في لبنان دولة ضعيفة وعاجزة عن القيام بأقدس مهامّها، وهو الدفاع عن شعبها، ؛ وفي داخل تلك الدولة نمت أهم وأشرف ظاهرة وطنية في تاريخ لبنان، وهي ظاهرة المقاومة، حيث استطاعت أن تحقق أهم إنجاز تاريخي في تاريخ لبنان المعاصر، وهو تحرير الأسرى ومعظم الأراضي اللبنانية، وحماية لبنان وإنسانه وثرواته من العدوان الإسرائيلي.
وهي في كل هذا تعطي الوطن من دماء أبنائها ومالها وجهدها، ما أوجد أهم الظروف والشروط الموضوعية لقيامة الدولة، لأنّه لا يمكن أن تقوم للدولة قائمة، إن كانت عرضة للاحتلال والتهديد، ولم تكن لديها القدرة على حماية أمنها، وإنسانها، واقتصادها، وسيادتها، وثرواتها. أي إنّ وجود المقاومة واستمرارها في ظل الظروف القائمة، هما الشرط لقيامة الدولة في لبنان؛ في حين أنّ البعض يحاول أن يوهم اللبنانيين بمعادلة مقلوبة ومغلوطة، وهي أن وجود المقاومة هو السبب لعدم قيامة الدولة في لبنان. وهذا بمثابة تزوير للتاريخ، واستخفاف بالعقول، وتضليل للرأي العام، لأنه متى كانت حماية الوطن سبباً لعدم قيامة الدولة؟ ومتى كان ردع العدوّ سبباً لعدم نهوضها؟
ومن كان يضيره أن تكون الدولة عاجزة عن القيام بدورها في هذا الشأن، ما أدّى –إضافة إلى بقية الأسباب المذكورة- إلى وجود ثنائية الدولة الرسمية والمقاومة، فليعمل على معالجة تلك الأسباب التي أفضت إلى هذا الوضع، حتى يمكن أن يُقنع الآخرين أن مقاربته وطنية، تحمل في أحشائها الحرص على حماية الوطن والمواطن، وأنّ ما يزعجه العدوان على الوطن، وليس وجود مقاومة تحميه إلى جانب مجمل القوى العسكرية والأمنية في لبنان.
إنّه لم يكن أضرّ بالدولة في لبنان من تلك الطائفيات على اختلافها - بمن فيها من يتحدث اليوم باسم الدولة، والحرص عليها- التي تكاتفت عليها، وأوصلتها إلى أن تكون دولة غير قادرة على القيام بواجباتها، وفي قلبها الدفاع عن شعبها وأمنها وإنسانها، وذلك نتيجة لتغوّل العصبيّات الطائفية، التي شوّهت الوعي الوطني، وتغلّبت على القيم الدينية، وعطّلت فعل التعقّل والعقلانية.
ليس من نافل القول إنّ جهات عديدة كانت -وما زالت- بنهجها الطائفي، ومقارباتها الطائفية، تُسهم بقوّة في القضاء على الركيزة الأساس لقيامة الدولة ونهوضها في لبنان، وهي سيادة ثقافة وطنية مجتمعية عابرة وجامعة، تقوم على الإنصاف والعدالة، بعيداً عن الفئوية والطائفية، وكلّ ذلك الضّخ الإعلامي، الذي لا يُفضي إلّا إلى تعزيز الانقسام والتوتير ومناخ الفتنة، والذي لن يصل إلى مبتغاه في إضعاف المقاومة، وإيمان شعبها بها.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا