مؤتمر«متحدون ضدّ التطبيع» الذي نظّمته منظّمات عربية عدّة خلال الشهر الماضي، لمواجهة تداعيات خطوات التطبيع القائمة، مبادرة مهمّة تثير بعض الأسئلة النقدية. فقد طرح توجّه المؤتمر العديد من الإشكاليات لناحية المشهديّة والرسائل.بدايةً، لا بدّ من التأكيد على أهمية الدعوة لتوحيد الجهود في مواجهة المشاريع الاستعمارية بكلّ أشكالها وأوجهها، بما فيها مشروع «التطويع» والتبعية والخضوع لسياسات القوى الإمبريالية في حملاتها المتواصلة والدؤوبة لتصفية القضية الفلسطينية وفرض هيمنتها على شعوب المنطقة والسيطرة على مقدّراتها. وبالتأكيد، فإنّ ذلك لن يتمّ دون الحفاظ على الكيان الصهيوني كقاعدة متقدّمة للقوى الاستعمارية، وهي الغاية الأساسية من اصطناع هذا الكيان لوضع اليد على المنطقة بحكم أهميّة موقعها الاستراتيجي، ولتشكيل عائق مادّي ومعنوي في وجه وحدة شعوب المنطقة واستقلالها وسعيها إلى حريّتها. من هنا، تبرز الحاجة إلى تحديد نظرتنا كشعوبٍ وقوى إلى هذا الكيان وإلى دوره وطبيعة العلاقة معه. فالكيان الصهيوني هو عنوان الحرب الوجودية التي تُخاض ضدّ الشعب الفلسطيني، وضدّ الأمة العربية جمعاء، وبالتالي، فإنّ رفض وجوده ليس مجرّد موقف مبدئيّ، بل هو الخيار الوحيد لشعوبنا لكي تستطيع الصمود والمواجهة في حرب الإبادة المُعلنة ضدّها.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نتفهّم دور بعض القوى المُخلصة والداعية لهذا المؤتمر، لكن ألا يحقّ لنا - كشعبٍ عربيّ وفلسطينيّ بالأخصّ - أن نسأل ونتساءل عن مغزى وجود بعض الوجوه التي أطلّت مشارِكةً ومُحاضرةً بضرورة التصدّي للمطبّعين، وهي الوجوه نفسها التي أقدمت على جريمة الاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب، وتعتاش على التنسيق الأمني مع العدو بهدف منع أي عمل مقاوم ضدّه.
كيف تستقيم الأمور في وجود هذه المعادلة؟ وماذا يعني وجود هذه الشخصيات وإفساح المجال لها ضمن هذا المؤتمر وتقديمها لجمهور الأمة تحت عناوين محقّة، لا بل وفرضها على الجمهور كأمرٍ واقع؟ ألا يعدّ هذا نوعاً من التطبيع بحدّ ذاته؟ أي، علينا نحن أن نتقبّل ظهور هؤلاء الذين ارتكبوا جريمة الاعتراف بالكيان الصهيوني وساهموا بشكلٍ كبير بفتح المجال أمام دول عديدة للإقدام على نفس الخطوة. وعلينا أن «نتناسى» جرائمهم المتنوّعة بحقّ قضيّتنا الفلسطينية تحت شعار «الوحدة الوطنية»؟ أليسوا هم من كانوا يدعون جهاراً إلى التطبيع من خلال زيارة الأراضي المحتلّة تحت شعار «زيارة السجين ليست زيارة للسجّان». ونذكر جميعاً معزوفة «لن نكون ملكيين أكثر من الملك» التي انبرى عدد من الأنظمة العربية الرجعية لاستغلالها تحت شعار «نحن نقبل ما تقرّره القيادة الفلسطينية»، والمقصود هنا هي القيادة التي ارتكبت جريمة الاعتراف بالكيان الغاصب وارتضت أن تلعب دور الذيل الأمني للاحتلال في فلسطين. ومن هنا، تزداد الحاجة لرفع الصوت ضدّ كلّ نهج استسلامي - أيّاً كان مصدره - ساهم وما زال يساهم في إعطاء العدو أوراق قوّة على حساب حقوق ووجود الشعب الفلسطيني. فلا شرعيّة لكيانٍ استعماريّ إحلاليّ قام على المذابح والتهجير والسيطرة على الأرض والإنسان. ومهما اشتدّ الحصار والضغط، فإنّ على شعبنا الفلسطيني التمسّك أكثر بالخيار الأساسي، وهو خيار الثورة والمقاومة الشعبية المسلّحة ومواصلة الطريق والنضال مهما بلغت التضحيات. وخيار المقاومة المسلّحة هو الخيار الأوجب لشعبٍ يتعرّض لحربٍ وجوديّة تستهدف إبادته.
لهذا، فإنّ من المستغرَب، لا بل من المستهجَن، أن يُسمَح بكيّ الوعي الفلسطيني والعربي عبر منابر وطنيّة من خلال «تطبيع» وجود من يسعى ليلاً نهاراً لاعتقال المناضلين والمقاومين في الضفة الغربية، ومن يرى في «إسرائيل» شريكاً وراعياً. والقضيّة هنا ليست قضيّة أشخاص، إنّما قضيّة مبدأ. فالشعوب التي لا تضع حدوداً لمفاهيم الوطنية والخيانة يصعب عليها تحويل تضحياتها إلى انتصاراتٍ سياسية، ذلك لأنّ الغارقين في الوحل الأميركي والمساهمين في تمييع المفاهيم لن يكونوا جزءاً من جبهة النضال ضدّ استعمارٍ إحلاليّ في حرب وجوديّة.
لهذا، لا بدّ أن نصوّب شعار «متّحدون ضدّ التطبيع» إلى «متّحدون ضدّ التطبيع والاعتراف»، فنحن لا نعترف بمن يعترف بالكيان الصهيوني.

* كاتب فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا