تركيا التي ذبحت الشعبين الأرمني والسرياني وعلّقت المشانق للبنانيين والسوريين وفرضت حصاراً جائراً على لبنان في الحرب العالمية الأولى فمات ثلث سكانه من الجوع، وقضت على آمال الشعب الكردي في الحرية والاستقلال في القرن العشرين وغزت قبرص عام 1974، تعود اليوم من بوابة بلدة كسب الأرمنية الوديعة المسالمة في شمال سوريا إمعاناً في مزيد من القتل والتدمير والأذيّة بحق جيرانها.
الدولة الأكثر مشاغبة

ليست المهزلة أنّ تركيا هذه قد وعدت بسياسة «صفر مشاكل» مع جيرانها قبل عشر سنوات فكذبت، بل إنّها ذهبت بعيداً في سلوكها السلبي والعدائي ضد كل جيرانها، لتكون هي ضحيّة شر أعمالها. فكيفما نظرت ترى أنّ تركيا تعتدي من دون حياء.
تتحّكم برؤوس الطغمة الحاكمة في أنقرة أضغاث أحلام امبراطورية غابرة في إعادة المجد العثماني والسحابة الطورانية السوداء لتغطي المنطقة. ولكن الحقيقة أنّ الحكومة التركية ومن لفّ لفها من منظرّين أمثال وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، إنّما يستفيدون من الدور الذي رسمته لهم الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كلاعب صغير في حلف شمال الأطلسي على حدود روسيا الجنوبية، ما سمح لهم بتنغيص العيش على جاري تركيا العربيين سوريا والعراق.
انتفخت تركيا زهواً مزيفاً بأنّها جبار إقليمي لتهدّد سوريا مراراً بالغزو في الخمسينيات، ودعمت إسرائيل – ولا تزال – ضد حقوق الشعب الفلسطيني، وغزت شمال قبرص عام 1974 واحتلته حتى اليوم، وضمرت العداء لليونان جارتها الإغريقية التي هي أيضاً عضو في «الناتو». كذلك اقتحمت تركيا شمال العراق مراراً بعدما ضعفت حكومته المركزية منذ 1980، فباتت الطائرات التركية تغير على هواها على مناطق الأكراد شمال بغداد كما فعلت إسرائيل في جنوب لبنان. وقامت تركيا ظلماً وعدواناً باستغلال مياه الفرات وحجبتها عن العراق بنسب لا تراعي القانون الدولي حول الأنهر العابرة للبلدان. فعانى أهل العراق من شح المياه. وأنقرة تحاول منذ صيف 2011 تدمير الدولة السورية وإسقاط حكومة دمشق، مستعملة ميليشيات هي الأكثر ابتعاداً عن الديمقراطية. وأقامت قواعد عسكرية وتموينية لتنظيمات إرهابية كـ«القاعدة» وأخواتها ومشتقات متعددة لجماعة «الإخوان المسلمين». ولماذا لا تفعل تركيا ذلك وفي أنقرة يحكم فرع لمنظومة الإخوان العالمية منذ عشرين سنة، أولاً تحت اسم «حزب الرفاه» (انتخابات 1994) ثم تحت اسم «حزب العدالة والتنمية» (2001). ولم تختلف شعارات هذا الحزب عن مقولات حسن البنا عندما أنشد اردوغان: «مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، وهذا الجيش المقدس يحرس ديننا». إذ ثمّة دلالة في «موضة» اعتماد الحركات الدينية المتطرفة لمسميّات توحي أنّها مدنية وهي عكس ذلك، فتكسب الانتخابات بالنفاق وبادعاء الديمقراطية ثم تكشف نواياها كما حصل في مصر.
أتى حكم الإخوان في تركيا في مطلع التسعينيات حتى اليوم، بعدما أشبعت تركيا القاصي والداني منذ أيام كمال أتاتورك أنّها دولة علمانية. ومَن كان يفكّر أنّ الفكر الديني الظلامي لا بد أن ينحسر عن تركيا وأنّ التيار المدني العلماني لا بد أن يعود، ليتمعّن كيف ربح حزب أردوغان الانتخابات البلدية في آذار الماضي.

500 عام من الانحطاط

عام 1995 حضر إلى كندا أستاذ أردني (أتحفّظ على ذكر اسمه) كان رئيس «جامعة مؤتة» ومتخصص في الإسلام واللغة التركية. وألقى محاضرة في جامعة أوتاوا الكندية، وسط استهجان الحضور ذي الغالبية اللبنانية، لأنّ هذا الاستاذ مدح الحقبة العثمانية بالتبجيل والتجميل. وفي الحقيقة أنّ الحكم التركي للبلاد العربية كان الفترة الأكثر ظلاماً وانحطاطاً في تاريخهم (1516 إلى 1918). لا بل إنّ الحكم التركي كان أسوأ من الغزو المغولي ومن الحملات الصليبية.
صحيح أنّ الغزو المغولي دمّر بغداد وحضارتها وقتل سكانها عام 1258، ولكن المغول ذهبوا كما حضروا كالرياح العابرة ولم يتركوا أثراً. وصحيح أنّ الحملات الصليبية نجحت في إقامة ممالك، إلا أنّ هذه الممالك اقتصرت على شريط الساحل السوري ـ اللبناني ـ الفلسطيني، ولم تدخل في عمق البلاد. وبقيت حواضر دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة حتى زالت الممالك الصليبية.
أمّا الحكم التركي فقد كان طويل الأمد (400 عام) قضى على الحضارة العربية واللغة العربية ومنع المال والدعم عن العلوم والثقافة، بعكس ما كان يفعل خلفاء العرب وأمراؤهم. حتى عُرفت فترة الحكم العثماني بـ«عصر الانحطاط». والأسوأ أنّ الأتراك نهبوا كنوز دمشق وبغداد ومدن عربية أخرى من ثروات وكتب وتحف رائعة، واقتادوا خيرة علماء العرب وأدبائهم وباحثيهم إلى اسطنبول عاصمتهم التي كانوا قد اغتصبوها عام 1453 تحت شعار الفتح الإسلامي ومحوا اسمها الأصلي القنسطنطينية (Constantiople)، أي مدينة قنسطنطين، وحوّلوا كنائسها العريقة إلى مساجد.
فماذا كانت نتيجة نقل ثروات العرب الفكرية والأكاديمية وكبار مفكريهم إلى اسطنبول؟ لم تصبح اسطنبول بغداد ثانية أو قرطبة ثانية، ولم يتبنَّ الأتراك اللغة العربية ولم يبدعوا فيها رغم أنّها أعطت العصر الذهبي للإسلام الذي اعتنقه الأتراك. ومرّت قرون صامتة من الحكم التركي في العالم العربي ملؤها الجهل والتخلّف. ولذلك لم تكن «الدولة العليّة» فخراً للعرب والأرمن والأكراد والأقليات الأخرى، بل كانت كابوساً طال أمده وهو اليوم ذكرى مؤلمة.

أنقرة وطواحين الهواء الدونكيشوتية

لم تتغيّر تركيا اليوم عن قرون الجهل السابقة. فهي تقمع الحريات فتارة تقفل فايسبوك وطوراً تحجب تويتر أو تؤذي الصحافيين وتهدّد بالعقاب لمن يخالفها. وهي تفشل منذ 50 عاماً في تطبيق شروط الاتحاد الأوروبي لأنّها تقمع الأكراد وتتجّه إلى مذهبة النظام في بلد يمثّل العلويون الكرد والأتراك والعرب أقلية كبرى.
فماذا تظن تركيا نفسها، عائدة بردائي الدين (ومن مذهب معيّن) والقومية التركية وبوعد أمجاد مزيفة لامبراطورية سهل على بريطانيا وفرنسا القضاء عليها وتأليب شعوبها ضدها في الحرب العالمية الأولى؟
نفسية حكام أنقرة تقارب رواية من الأدب الإسباني الرائع للكاتب ميغيل سرفنتس في «دون كيشوط دو لا مانشا»، وهي عن شخص متقاعد يهوى قراءة قصص الفروسية والبطولة والانتصارات الغابرة، حتى غلبت هذه القراءات ملكته الذهنية وعاش في أوهامها، يحارب طواحين الهواء ويطلب من صاحب خان أن يعمّده فارساً ويشتبك مع مكاري بغل على أساس أنّه فارس غريمه، إلخ.
وهكذا، فالغرور أعمى قلوب أعضاء حكومة أردوغان بأنّ تركيا ستقود تحت لوائها المنطقة العربية بإيحاء أميركي، ومن هنا كانت تدخّلاتها الفاشلة الخالية من الاستراتيجية ومن بعد النظر.
منذ بدأ ما عُرف بـ«الربيع العربي» (وهو في الحقيقة «شتاء إسلامي») أخذ أردوغان وداوود أوغلو ورجال تركيا يجولون ويصولون في البلدان العربية. فما إن وصل «الإخوان» إلى الحكم في مصر حتى جاء الأتراك وكأنّ أرض الكنانة قد عادت لهم، فصدّهم المصريون وردّوهم إلى غير رجعة. ثم حاولت تركيا أن تُظهّر صعود الإسلاميين في تونس وليبيا وكأنّه نصر لها، في وقت بدأ الإعلام الغربي يردّد في 2011 و2012 أنّ «النموذج التركي» للإسلام المعتدل هو الأصلح لحكم البلدان العربية وأنّ «زمن الإخوان قد بدأ». ولكن أين هي تركيا اليوم من تطورات هذين البلدين؟
خسائر تركيا الاقتصادية كبيرة جراء أحلام اليقظة الامبراطورية، فقد أضاعت حقبة واعدة من الانفتاح على الجوار وتدهورت هوية الشعب العلمانية. ثم وصلت إلى درك بائس هو خوض حرب صغيرة وزائفة على بلدة كسب في زواية صغيرة من سورية يصعب رؤيتها على الخريطة، فلم تحقّق شيئاً ملموساً على الأرض وأصبحت تنيناً من ورق.
كم ذكّرتنا مقاومة بلدة كسب السورية للأتراك بفشل الجيش الذي لا يقهر في التقدّم في قرية مارون الراس اللبنانية في حرب تموز 2006!
* أستاذ جامعي ــ كندا