لا يزال الحديثُ هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». ويعترض الجميّل على عبد الحليم خدّام لأنه لم ينجح في «إعادة المعارضة إلى بيت الطاعة» (ص. ٢٢٩). لم يتغيّر أمين الجميّل رغم كلّ هذه السنوات. لا تزال أحقاده كما كانت في سنوات الرئاسة: يرفض «العنيد» أن يعترف بأنّ المعارضة اللبنانيّة العارمة ضدّ حكمه لم تكن مجرّد أداة بيد النظام السوري. هذه كانت معارضة حقيقيّة وشعبيّة وعريضة: تراوحت بين «أمل» والتقدمي في الجهة الطائفيّة إلى أحزاب يساريّة وقوميّة متنوّعة وزعامات تقليديّة إسلاميّة ومسيحيّة. ألم يقتنع الجميّل بعد أن المعارضة كانت لها أسباب وجيهة تتعلّق أولاً برفض اتفاقيّة ١٧ أيّار الشنيعة، كما أنها شكّلت تمرّداً ضدّ فرض حكم بوليسي في كلّ المناطق التي كانت خاضعة لحكمه ولحكم جيشه الفئوي الانعزالي ـــ والذي كان منذ أولى المعارك في ١٩٧٥ طرفاً في الحرب الأهليّة يخوضها من دون تقيّة. وسيرة ميشال عون في الحرب الأهليّة (قبل أن يصبح قائد جيش في عهد الجميّل) هي مثال: سخّرَ عون، الذي عمل بجانب بشير الجميّل، خبرته العسكريّة في المدفعيّة لدكّ المخيّمات والمناطق الخاضعة لسيطرة الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة. وكما أن هناك اليوم من يرفض أن يرى أن لحزب الله أجندته الداخليّة الخاصّة به، وغير الخاضعة لتسيير من قِبل النظام الإيراني، فإنّ حزب الكتائب لم يعترف يوماً أنه كانت لخصومه في لبنان أجندتهم الداخليّة الخاصة وغير المرتبطة بأجندات خارجيّة، بصرف النظر عن تحالفات الخصوم.
(هيثم الموسوي)

ويذكر الجميّل عرَضاً إنشاء «مكتب ارتباط لبناني ـــ إسرائيلي» في صيف ١٩٨٢. والمقيت أن الجميّل يذكر ذلك عرَضاً، ومن دون أن يلاحظ أن إنشاء المكتب كان قبل بدء مفاوضات ١٧ أيّار. وهو من دون أن يدري يفضح تواطؤ رئاسته مع سلطات العدوّ عند فتح المكتب إذ تجده يزهو بأنه «أصرّ» على أن ينتقل المكتب من مركزه الأوّل في اليرزة إلى بلدة ضبيّة في المتن. لم يتوقّف الجميّل عند المفارقة أن يتمّ إنشاء مكتب اتّصال إسرائيلي ـــ لبناني قرب أنقاض مخيّم فلسطيني لم يعُد يذكره أحد، أي مخيّم ضبيّة والذي قُتل فيه نحو ستين ضحيّة على يد ميليشيات القوّات اللبنانيّة (وبمشاركة من بشير الجميّل حسب شهادة واحد من الناجين). لكن مجزرة مخيّم ضبيّة تثبت أن وحشية الانعزاليّين في لبنان لا تفرّق بين طائفة وطائفة، إذ أن غالبيّة سكّان مخيّم ضبيّة كانوا من المسيحيّين. والجميّل يقول إنه لم يُرِد أن يكون مكتب الارتباط الإسرائيلي بقرب القصر الجمهوري، كأنّ إصدار الأوامر من المكتب إلى السلطة السياسيّة في لبنان وإلى قيادة الجيش في حينه يختلف بين مكان ومكان. هل «إصرار» الجميّل على نقل المكتب التنسيقي مع العدوّ من اليرزة إلى ضبيّة هو نموذج عن روح «المقاومة» التي أسبغها الجميّل على نفسه في عنوان الكتاب؟ ويستفيض الجميّل، بوقاحة، في سرد منافع مكتب إسرائيلي رسمي على أرض لبنان (وبرعاية رئاسة الجمهوريّة) ويقول إن المكتب شكّل «إطاراً مفيداً لمعالجة القضايا العاديّة المتعلّقة بوجود جيش احتلال أجنبي على أرضنا». هذه هي نظريّات حزب الكتائب في التعامل مع جيش احتلال أجنبي: أن تقوم السلطة القائمة بتشريع إقامة مكتب تنسيق وخيانة بين رئاسة الجمهوريّة وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي. لا، ويقول الجميّل عن منافع إنشاء المكتب أنه شمل «لمّ شمل العائلات، وإدارة تنقّل الأشخاص والسلع بين المناطق اللبنانيّة». (ص. ٢٢٩). هذا عن جيش احتلال كان يخطف في أنحاء لبنان ويقتل. يريد الجميّل أن ينسب إلى جيش الاحتلال فضيلة لم شمل عائلات لبنانيّة، إلّا إذا قصد بـ«لمّ الشمل» قتل أفراد عائلة ودفنهم سويّةً. وأي تنقّل للبضائع عمل جيش الاحتلال عليه وهو الذي كان يمنع القوت عن بيروت الغربيّة؟ ولا يذكر الجميّل مهام أخرى للمكتب، ألا وهي إصدار الأوامر والتعليمات للقيادة السياسية والعسكريّة وتبادل المعلومات حول المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة والتنسيق في عمليّة مطاردة الوطنيّين ممن رفضوا القبول بالاحتلال ونتائجه.
ولا يزال الجميّل ـــ «المقاوِم» كي لا ننسى ـــ حانقاً من إغلاق المكتب. لعلّه يعتبر ذلك من إنجازات عهده النادرة. ويزعم أن النظام السوري كان يطالب بإغلاقه كأنه لم يكن هناك لبنانيّون رافضون لوجود المكتب من أساسه. والذي أعلن إغلاق المكتب لم يكن الجميّل بل رشيد كرامي في ٢٦ أيّار ١٩٨٤. وردّ مدير الـ«موساد» على إقفال المكتب بالتهديد: «إقفال مكتب الارتباط سيُوجِّه حتماً ضربة قاضية إلى أيّ التزام محتمل للحكومة اللبنانيّة في الجنوب، وسيلغي أي نفوذ قد تمارسه في المنطقة. إذا أُقفل المكتب، فستضطرّ إسرائيل، لغياب الاتصالات المباشرة، إلى اتخاذ تدابير أحاديّة الجانب في الجنوب». وينسى الكثير من اللبنانيّين تلك الحقبة، وينسون أيضاً الحدّ الذي جاهر فيه العدوّ بالسيطرة على لبنان. والأكيد أن الذي ردع العدوّ مذّاك، هو ليس جان قهوجي أو جوزيف عون، بل المقاومة اللبنانيّة الذي علّمت العدوّ الدرس الذي لم يتعلّمه منذ عام ١٩٤٨، ثم علّمته أبلغ درس في حرب تمّوز عندما حاول أن يتقدَّم على أرض لبنان. ومكتب ضبيّة (واليرزة قبل ذلك) لا يثير أي ذكريات في لبنان، ولا يثير أيّ استفظاع. هذا المكتب كان «عنجر»، قبل «عنجر»، لكنه خلافاً لـ«عنجر» امّحى عن الذاكرة السياسيّة وليس هناك من يشير له. كأنه لم يكن هناك مكتب للتنسيق والارتباط والتوفيق والتعاون بين لبنان وإسرائيل. هل جرى تحقيق في هوية السياسيّين الذين كانوا يتقاطرون إليه من أنحاء مختلفة في لبنان ويقفون على أعتابه؟ وهذا المكتب هو غير مقرّ الـ«موساد» الذي تولّى بشير الجميّل تشييده خصيصاً للـ«موساد» في بيروت الشرقية في زمن الحرب. أي إن مركز الـ«موساد» كان للتنسيق غير الرسمي فيما كان مكتب الارتباط، الذي لا يزال الجميّل يشيد به، متخصّصاً في التنسيق الرسمي بين رئاسة الجمهوريّة وحكومة العدوّ. ويزعم الجميّل أن الوزراء اللبنانيّين «خصوصاً المتحدّرين من الجنوب أو الجبل» ماطلوا في موضوع إغلاق المكتب هذا. وهذا يجوز لأن حكومة الجميّل كانت تضمّ متخاذلين ومتعاونين.
أن تشرّع السلطة إقامة مكتب تنسيق وخيانة بين رئاسة الجمهوريّة وجيش الاحتلال: تلك سياسة حزب الكتائب في التعامل مع إسرائيل


وحتى عندما كان ثلاثة من أعضاء «مكتب الارتباط» الإسرائيلي يتجولون في شمال بيروت (متنكرين كسيّاح)، لا يرى الجميّل غضاضة في ذلك. وقد أسر الجنود السوريّون يومها هؤلاء الإسرائيليّين الثلاثة، لكن الجميّل يعترض على أسرهم. ويتأسف الجميل أيضاً على إغلاق المكتب ويقول إن الإغلاق النهائي أدّى إلى إنزال العقوبة «بنا في الجنوب» ـــ تكاد تظن أن حزب الكتائب والجميّل شخصيّاً حملا معاناة وعذاب أهل الجنوب. وكأن جيش الاحتلال كان سيتعامل مع لبنان برفق وحنان مقابل إبقاء المكتب مفتوحاً. ثم: ما حجم المفارقة أن الرئيس الذي يتغنّى بالسيادة لا يزال بعد كل هذه السنوات يتمسّك بهذا المكتب الذي يصلح عنواناً لعهده برمّته. وينقل الجميّل عن «رئيس غرفة الأوضاع ـــ أي أوضاع؟ ـــ في القصر الجمهوري، العقيد منير رحيّم» تهديداً من قبل ديفيد كمحي نقله له «صديقه» ــــ أي صديق الرحيّم اللبناني الجنسيّة ـــ في مكتب الارتباط الإسرائيلي. وهل يحدّثنا الجميّل باستفاضة ضرورية وقانونيّة عن هذه الصداقة التي ربطت بين رئيس «الأوضاع» في القصر الجمهوري السيادي وبين عضو في مكتب الارتباط الإسرائيلي؟ أم أن هذه التفاصيل ترِد في مدوّنات الجميّل الشخصيّة (والمملّة) ولا تصلح للنشر في كتابه؟ وانسحب العدوّ من دون تنسيق. وهناك من لا يزال يتأسّف عن أن العدوّ انسحب من الجبل ومن الجنوب من دون «تنسيق». وقد انسحب العدوّ من الجنوب في عام ٢٠٠٠ بسبب إذلاله في عمليات مقاومة لم تنتهِ، وكان أجمل ما في هذا الانسحاب الذليل أنه تمَّ من دون تنسيق. التنسيق يكون عادة لترتيب أوضاع عملاء العدوّ قبل انسحاب الجيش الذي يرعاهم. هل هذا ما يتأسّف عليه الجميل؟ لكن الواقعة الكبرى كانت عندما أرسل له سفيره في واشنطن، عبد الله أبو حبيب، يُعلمه عن عدم رضى أميركا عن إغلاق المكتب. هذه كانت كارثة عند الرئيس السيادي الذي علّق على الخبر بالقول: «هكذا، وقع المحظور الذي كنتُ قد سعيتُ جاهداً إلى تداركه» (ص. ٢٣٠). وينقل الجميّل حواراً جرى بين عبد الحليم خدّام ووليد جنبلاط من حزيران ١٩٨٤ يظهر فيه عمق الموضوع الاستراتيجي والأيديولوجي الذي حكم العلاقة بين الطرفين، إذ يقول جنبلاط لخدّام: «نريد بيع السلاح الموجود عندنا. طفِرنا». فيردّ خدام: «نجد لك زبوناً. ما هي العمولة؟» فيرد جنبلاط: «مقدار ما تريد. لم ندفع في الأساس ثمن السلاح». هذا كان نمط العلاقة الاستراتيجيّة. ويتبيّن في الأحاديث المنقولة في الكتاب عن عام ١٩٨٤ كم أن خلق جهاز «أمن الدولة» كان لأسباب طائفيّة محضة (لمراضاة الشيعة آنذاك). ويظهر أن جنبلاط كان مؤيّداً لترشيح إميل لحوّد قائداً للجيش، في مقابل الأسماء الانعزاليّة التي أصرَّ عليها الجميّل (تمسّك الجميّل بترشيح ميشال عون). إميل لحّود هذا كان أوّل وآخر زارع عقيدة وطنيّة مقاوِمة للجيش والذي لم ينجح الفاسدون (مثل رفيق الحريري، المُفسِد الأكبر في تاريخ الجمهوريّة) في إغرائه أو جذبه بالمال. لكن غازي كنعان زكّى ترشيح ميشال عون (تاريخ لبنان الحديث يحتاج لكتابة سيرة لغازي كنعان. وسرديّة إيلي الفرزلي عنه لا تفي لأن الفرزلي كان شديد القرب ـــ غير المتكافئ ـــ منه). وإذا كان هناك من يستشهد بأنبياء وقدّيسين في طلب المشورة قبل اتخاذ خطوة في الحياة، فإن أمين عندما يخلو إلى نفسه يسألها: «ماذا كان ليفعل الشيخ بيار لو كان مكاني؟» (ص. ٢٣٣). ويرسم أمين صورة خياليّة لأبيه بيار فيجعل منه بطلاً في مقاومة الاستعمار الفرنسي فيما كان ذلك عبارة عن المشاركة في متظاهرة متأخرة جداً بعد أن حرّك الاستعمار البريطاني أدواته في لبنان ضد فرنسا. لا، ويزعم أمين الجميّل أن بيار «تصدّى منذ ١٩٦٩ للفلسطينيّين والإسرائيليّين». لكن متى تصدّى بيار للإسرائيليّين؟ هل في ذلك الاجتماع الذي حضره أرييل شارون ورواه في مذكراته عندما طفق بيار (السيادي) ينتحب وهو يستجدي المساعدة الإسرائيلية إلى درجة أن كميل شمعون الجالس بقربه لكزه وقال «ما تبكي»؟ هل كان يتصدّى للإسرائيليّين وهو يبكي أمام وزير الدفاع الإسرائيلي؟ إن تعريف حزب الكتائب للتصدّي لا يختلف عن تعريفه للسيادة أو المقاومة (كما في عنوان الكتاب). ويزعم الجميّل أن منزل العائلة كان يستضيف «أمثال صائب سلام وكمال جنبلاط ورشيد كرامي». الذي أذكره في سنوات طفولتي وصباي (أي الستينيات والسبعينيّات) أن الثلاثة ــــ بما فيهم سلام ــــ كانوا على خصومة مع بيار الجميّل في معظم تلك السنوات. ويشيد الجميل بنزاهة والده لكنه لا يصنّف التمويل الإسرائيلي السرّي لحزب الكتائب اللبنانيّة.
لكن الجميّل يتطرّف أكثر عندما يُسبغ على الشيخ بيار لقب «أبا الأمّة» اللبنانيّة (ص. ٢٣٤). كيف يمكن أن يُسبغ أمين الجميّل على زعيم حزب طائفي عنصري فئوي لقب أبي الأمة؟ عن أي أمّة يتحدّث أمين هنا؟ هل الأمة هي أمة الكتائب؟ أم أن تعريفه للبنان منزوع الطوائف والأحزاب والأفراد الذين يختلفون مع الحزب؟ هذا الحزب لم يكن له أن ينشأ من دون غطاء من الاستعمار الفرنسي (الذي كان يحارب الشيوعيّين فيما كان أفراد الكتائب يتجوّلون في عرّاضات شبه عسكريّة) وتلقّى دعماً خارجيّاً وأوامرَ في كل سنواته قبل وصوله إلى رئاسة الجمهوريّة عبر الارتهان لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
ويعترف الجميّل على مضض أن انهيار العملة والاقتصاد بدأ في عهده لكنه كعادته يتنصّل من المسؤوليّة ويرميها على غيره. يشكو من قلّة الدعم الخارجي ومن تقهقر سمعة «نظامنا المالي» (ص. ٢٣٦). لكن لماذا تقهقرت هذه السمعة؟ أليس سبب الفساد المستشري في عهده؟ أليس بسبب تسخيره الدولة اللبنانيّة لصالح زعامته وتسلّط حزبه الطائفي؟ صحيح أن منظمة التحرير الفلسطينيّة سحبت أموالاً طائلة من لبنان (وهذه الأموال تعرّضت للسرقة فيما بعد من قبل شخص ائتمنه ياسر عرفات على كل مال منظمة كانت تعبّر عن تطلّعات الشعب الفلسطيني) لكن حكم الجميّل ساهم في تهجير أموال الشعب الفلسطيني. لقد مارس حكم الكتائب (قبل الانتفاضة عليه في عام ١٩٨٤) أبشع أنواع العنصريّة ضد كل أفراد الشعب الفلسطيني ما دفع بالكثيرين منهم إلى ترك لبنان. ومرة استقبل الجميّل في القصر الجمهور مدير «البنك العربي» بعد أن تعرّض للمهانة من قبل عناصر للجيش اللبناني. كانت إهانة الشعب الفلسطيني عادة يوميّة في حكم الجميّل. يريد الجميّل أن يضع الشعب الفلسطيني ثروته في مصارف لبنان فيما كان جيش الجميّل وعناصره الأمنيّة يُمعنون في إهانة كل فرد فلسطيني. أما لوم الفساد اللبناني أو لوم ميزانيّة الجيش الضخمة فهذا عند الجميّل من «السخف أيضاً». يسوِّغ قضيّة تسليح الجيش في زمن افتقار الدولة إلى موارد بالقول إن التسليح هذا كان «بأقساط طويلة الأجل» (ص. ٢٣٧) ـــ أي أن تحميل أجيال قادمة أعباء نفقات حروب الجميّل الداخليّة لا يزعج الجميّل. (هناك مَن روى لي نقلاً عن شهادة لكريم بقرادوني أن السفارة الأميركيّة كانت تقدّم للجميّل فواتير عن حمم القذائق التي كانت البوارج الحربيّة الأميركيّة تطلقها ضد خصوم الجميّل في الضاحية والجبل).
ويظهر من نشر محاضر (حسب الجميّل) لاجتماعاته مع حافظ الأسد كم كان الجميّل يهابه. يظنّ القارئ أننا أمام جلسة بين معلّم وتلميذ. لكن الجميّل لم يذهب إلى دمشق إلا بعد أن خسر بالكامل رهانه السابق على الخيار الأميركي-الإسرائيلي. لم يبقَ عنده إلا الانصياع إلى الخيار السوري، ما أضعف موقعه التفاوضي ووضعه رهينة لمعارضيه اللبنانيّين (المتحالفين مع النظام السوري). والجميّل لم يتفاوض مع النظام السوري في أوّل عهده عندما كان يحظى ببعض الدعم الشعبي والدولي، بل انتظر حتى خسارته كل أوراقه. ويسخر الجميّل من المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي عندما يقول عنها إنها ليست إلا حليفة النظام السوري «تحت مسمّى المقاومة». الجميّل، الرئيس المقاوِم، يصنّف ويخوِّن المقاومين الحقيقيّين لا المزيّفين. يضع الجميّل المقاومة تحت خانة «توتير» الجنوب لخدمة مصالح النظام السوري، كأن الذين ضحّوا بحياتهم ورزقهم في مقاومة إسرائيل فعلوا ذلك خدمة لجهة خارجيّة، سوريا أو إيران. والاستعانة بطرف خارجي من قبل أي مقاومة لا ينزع عنها صفة المقاومة. وهل هناك من مقاومة لم تستعِن بطرف خارجي؟ إن حرب استقلال البيض (الميسورين) ضد الاستعمار البريطاني في أميركا اعتمدت على دعم فرنسي لا تزال الجهوريّة هنا تحفظ جميلَه. الجميّل يذهب أبعد من ذلك ويتهم المقاومة اللبنانيّة في الجنوب (على اختلافها آنذاك، يساريّة وقوميّة وإسلاميّة) بأنها كانت «تقاتل بالنيابة» عن حافظ الأسد. هذه الإهانة لشهداء من الجنوب تصبّ في خانة السرديّة الإسرائيليّة عن المقاومة الحقيقيّة، والتي يعتنقها الجميل بحذافيرها. واليوم، الجميل وحلفاؤه يتهمون الذين يقاومون إسرائيل بأنهم يقاتلون بالنيابة عن إيران، وفي زمن الاتحاد السوفياتي كانوا يقولون إن اليسار اللبناني يقاتل بالنيابة عن الشيوعيّة العالميّة ـــ هذا كان خطاب بيار الجميّل عشيّة الحرب. يتعنّت الحزب في طائفيّته وتزمّته الفاشي: الآخر هو خائن، والوطني هو الانعزالي فقط. ويأخذ على حافظ الأسد أنه لم يرد «عرقلة المقاومة في الجنوب». أي أن الجميّل يعترف وبصريح العبارة أن عرقلة المقاومة كانت في صلب أجندته. وكان يريد توكيل الجيش اللبناني (تماماً كما الأجندة الأميركيّة اليوم) تولّي عمليّة عرقلة عمل المقاومة لصالح إسرائيل وأميركا. وكان الجميّل يرد استخدام الجيش من أجل الحصول على رضى جيش الاحتلال الإسرائيلي وذلك للقيام بمهام إسرائيل من ناحية منع أعمال مقاومة ضد الاحتلال. وهذا تماماً كان الدور الذي أوكلته أميركا وإسرائيل إلى الجيش بعد حرب تمّوز للحد من قوة مقاومة إسرائيل. صحيح أنه كان لحافظ الأسد أجندته الخاصة بالنظام لكن أسباب اندلاع المقاومة وتوسّعها كانت داخليّة. (وينسى الجميّل أن العلاقة بين النظام السوري ومخابراته في لبنان من جهة، وبين حزب الله كانت سيئة للغاية. ينسى الجميّل تدشين غازي كنعان والنظام السوري لدخول بيروت الغربيّة بمجزرة «ثكنة فتح الله»).
(يتبع حلقة أخيرة)
*كاتب عربي. حسابه على تويتر asadabukhalil@

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا