كانت الأزمة الليبية، بين أزمات المنطقة المتفجّرة (سوريا واليمن)، من أكثرها عقداً للمؤتمرات واللقاءات التي تنتج اتفاقات لا تُنفذ، كما حصل في الصخيرات (ديسمبر 2015) والضاحية الباريسية سان كلو (يوليو 2017) وباريس (مايو 2018) وباليرمو (نوفمبر 2018) وأبوظبي (فبراير 2019).على ما يبدو أن هذا المسلسل للاتفاقات الفاشلة قد انتهى في يوم21 أغسطس 2020 عندما صدر في ذلك اليوم إعلانان متزامنان عن وقف إطلاق النار من قبل فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي والحكومة المنبثقة عن اتفاق الصخيرات في طرابلس الغرب، وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب المنتخب عام2014 والذي مقره في الشرق. أعقب ما حصل بذلك اليوم محادثات بوزنيقة في المغرب (11سبتمبر) بين وفدين من مجلس النواب ومن مجلس الدولة المنبثق عن اتفاق الصخيرات، وهو ما تبعه إعلان عن اتفاق دائم لوقف إطلاق النار في عموم ليبيا (23 أوكتوبر)، ثم انعقد منتدى الحوار الليبي الذي ضم إطاراً واسعاً من القوى السياسية والمجتمعية برعاية الأمم المتحدة في تونس (9 نوفمبر). في 5 فبراير بجنيف قام 74 من أعضاء منتدى الحوار الليبي بانتخاب السلطة التنفيذية، الممثلة في أعضاء ثلاثة لمجلس رئاسي يمثل أقاليم ليبيا الثلاثة، طرابلس وبرقة وفزان، ورئيساً لهذا المجلس، ثم رئيساً للحكومة، على أن تقود هذه السلطة التنفيذية ليبيا في مرحلة انتقالية تنتهي في 24ديسمبر2021 بانتخابات عقب صياغة دستور. كل الأطراف المتصارعة في ليبيا داخلياً (السراج - خليفة حفتر) وخارجيّاً (مصر – السعودية – الإمارات - فرنسا من جهة، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة – إيطاليا -الجزائر) رحّبت بما جرى في جنيف بيوم 5 فبراير.
يوحي ما جرى منذ يوم 21 أغسطس 2020 بأن هناك عوامل تدفع باتجاه التسوية الليبية قد بدأت محرّكاتها بالدوران، فيما لم تكن تلك العوامل موجودة قبل ذلك التاريخ.

ما الذي جرى؟
كان الصراع الليبي الداخلي المنفجر منذ صيف 2014 يتغذّى من أطراف خارجية داعمة (مصر والإمارات والسعودية وفرنسا لقوى الشرق الليبي بزعامة خليفة حفتر) وفي جانب آخر الجزائر وتركيا وإيطاليا لقوى الغرب الليبي، مع حياد للولايات المتحدة. دخلت روسيا لاحقاً على خط دعم حفتر من خلال أشكال غير رسمية، أحدها قوات فاغنر. لم يكن الصراع الليبي مقلقاً للجو الدولي والإقليمي، بل كان مفيداً له، من حيث إنه ميدان لتصفية حسابات، أو تثبيت توازنات قائمة، كما أنه لبعض الدول (مثل الإمارات) مفيد من حيث منع نشوء مركز بديل لدبي، قريب من أوروبا يضم نفطاً وغازاً وبنكاً وعنصراً يُفتقد في الخليج وهو اقتصاد المعرفة (الموجود في الرأس وليس في الذراع) عند المواطن وليس الوافد، يمكن أن يعطي عاصمة اقتصادية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط.
دخل عنصر جديد إلى الأزمة الليبية في يوم 28 نوفمبر 2019 عندما تم توقيع اتفاقية الحدود البحرية التركية- الليبية التي تُعتبر تلك الحدود ممتدة بينهما من خلال الممر البحري الفاصل بين جزيرتَي قبرص وكريت. أشعل هذا الأضواءَ الحمراء في أثينا ونيقوسيا وباريس والقاهرة. رافق ذلك الاتفاق بين إردوغان والسراج اتفاق تعاون عسكري- أمني، على إثره ظهر واضحاً مدى الحضور العسكري التركي في الغرب الليبي. منذ ذلك اليوم عادت التوترات البحرية بين اليونان وتركيا والتي كانت نائمة منذ سبعينيات الأزمة القبرصية، ودخلت فرنسا على خط التوتير العسكري عبر القطع البحرية الحربية مع أنقرة، فيما الرئيس المصري السيسي لم يفكر فقط في وصول الأتراك إلى المجال الغربي للأمن القومي المصري بل أساساً في إخوانية إردوغان الذي إن سيطر على ليبيا سيفكر في قلب وإنهاء ما فعله انقلاب السيسي على الإخوان عام 2013 من خلال النافذة الليبية وصولاً إلى القاهرة. بالترافق مع هذا التوتير زاد التدخل الروسي مستغلاً تلك الشقوق ومقترباً من حلفاء واشنطن، أي مصر والإمارات والسعودية وفرنسا واليونان وقبرص، التي كانت في حالة استياء وغضب مكتوميْن من الأميركيين الذين لم يظهروا موقفاً سلبياً مما جرى بين إردوغان والسراج ولم يكونوا منزعجين من الحضور العسكري التركي في ليبيا. في الوقت نفسه، أعرب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن أن طرابلس الغرب هي «خط أحمر» في يوم 5 يناير 2020 عندما كانت قوات حفتر على أبواب العاصمة الليبية في تعبير عن الهواجس الجزائرية من أن يصبح حفتر المدعوم من المصريين مسيطراً على عموم ليبيا.
خلال شهرَي مايو ويونيو 2020 انقلب المشهد العسكري عندما استطاعت قوات الغرب الليبي إبعاد قوات حفتر عن العاصمة وعن عموم الغرب الليبي حتى مدينة سرت التي هي بوابة الوسط الليبي من جهة الغرب كما أجدابيا بوابة الوسط الشرقية. في يوم 20 يونيو أعلن السيسي أن «خط سرت هو خط أحمر» سيقود تجاوزه إلى دخول القوات المصرية إلى ليبيا. كان هناك شبح حصول حرب تركية- مصرية في ليبيا، بكل ما تعنيه من تشابكات وتدخلات واشتراكات، بالترافق مع توترات بحرية يونانية - فرنسية مع الأتراك.
توقفت المعارك ولم يجتز أحد خط سرت، مع أنه كان ممكناً حصول ذلك مع تقهقر وانهيار قوات حفتر في الغرب والوسط. كان لافتاً تصريح السفير الأميركي في ليبيا (المقيم في طرابلس الغرب) ريتشارد نورلاند في 22 يونيو عندما دعا «الجهات الخارجية للتوقف عن تأجيج الصراع محذراً من أن العنف يزيد من انقسام البلد لمصلحة الأطراف الأجنبية». على الأرجح أن نورلاند كان يفكر أثناء تصريحه بموسكو التي أصبحت وقتها قوات فاغنر موجودة في قاعدة الجفرة جنوب سرت، وليس بأنقرة، وكان يفكر بأن امتداد الروس إلى جنوب المتوسط قريباً من حدود حلف الأطلسي (الناتو) الجنوبية هو خط أحمر أميركي، فيما هذا الخط الأحمر الأميركي لم يكن موجوداً عند أوباما عام 2015 عند الدخول العسكري الروسي إلى سورية.
يمكن لتصريح نورلاند أن يكون مفتاحاً لما جرى من السراج وعقيلة صالح في 21 أغسطس، وليس من حفتر، عند إعلان وقف إطلاق النار. على ما يبدو أن واشنطن قد قرّرت إطفاء محركات الصراع الليبي لمّا أحست بأن هذا الصراع سيكون منفذاً لموسكو إلى شمال أفريقيا لتواجد عسكري، شبيه بما جرى في السبعينيات في أنغولا وإثيوبيا عندما تواجد الكرملين والكوبيون في قلب القارة السمراء عبر صراعات محلية أخذت بعداً إقليمياً – دولياً. العامل الثاني وراء إطفاء المحركات هو حروب بين أعضاء الناتو بسبب ليبيا (تركيا ضد اليونان وفرنسا) وحرب إقليمية خطرة التأثير بين القاهرة وأنقرة على الأرض الليبية لا يمكن للجزائر أن تكون خارجها.

هنا، يمكن أن تكون ليبيا مثالاً لدراسة تشكل عوامل التسوية في أزمة مشتعلة، أطرافها الداخلية لها امتدادات خارجية كثيرة. في أزمتَي ناميبيا وأنغولا، كان تشكّل عامل التسوية فيهما، على التوالي عامي 1988 و1991، متعلقاً بهزيمة الكرملين أمام البيت الأبيض في الحرب الباردة واتجاه واشنطن إثر ذلك للتخلي، مع انتفاء مصلحة الاستخدام، عن نظام الأبارتهيد في جنوب أفريقيا التي كانت مسيطرة منذ عام 1915 على ناميبيا وتدعم حركة يونيتا الأنغولية المعادية للحركة الشعبية الموالية للسوفيات والمسنودة بقوات كوبية. الأزمة السورية الآن تشبه ليبيا (2014 - 28 نوفمبر 2019). يمكن الآن للأزمة اليمنية أن تُحل مع التقارب الأميركي- الإيراني في عهد بايدن إذا دخلت كعنصر مكمّل أو ممهّد في موضوع الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران. خلافات بايدن مع الرياض في موضوع الحوثيين توحي إلى أن الأمور هناك تتجه نحو مسار يمني جديد غير الذي كان منذ 26 مارس 2015.

*كاتب سوري