تُعتبر حرية التفكير والتعبير، الحق في الوصول إلى المعلومات، حقوق الموظفين وكاشفي الفساد بالحماية، من الحقوق الأساسية اللصيقة بالإنسان، وهي مكرّسة في الدساتير، الشرع والمواثيق، لا يجوز تقييدها، بصرف النظر عن أي قطبٍ مُخَفاة في أيةِ نصوص وضعية، ما لم تثبت السلطة مصلحة عامة عليا من التقييد مشروعة ومبرّرة، فعدم إساءة استعمال الحقوق هو القيد العام المشروع الذي يسري على جميع الحقوق والحريات.إن مفهوم النظام العام يتطلب في مجتمع ديمقراطي ضمان أوسع توزيع ممكن للأفكار والآراء، وكذلك أوسع فرصة لوصول المجتمع برمّته إلى المعلومات، ذلك أن حرية التعبير هي حجر الزاوية الذي يقوم عليه وجود المجتمع الديمقراطي نفسه.
إن حرية التعبير كقاعدة مكرّسة للموظف، كما لأي مواطن لبناني، بمقتضى المادة 13 من الدستور اللبناني، التي نصّت على أن حرية إبداء الرأي قولًا وكتابةً، وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون.
ترتبط حرية التعبير، أي إبداء الرأي بحرية الاعتقاد المكرّسة في المادة التاسعة من الدستور اللبناني، فحرية التفكير تعني أن يفكر الإنسان بحرية، وحرية التعبير تعني أن يعبّر الانسان عن أفكاره بحرية.
إن حرية الرأي والتعبير هي الصورة الحقيقية العاكسة لشخصية الإنسان وهي تسمح له باتخاذ موقف معين ذاتي أو موضوعي إزاء أي شأن من الشؤون.
لا توجد جزر فاصلة بين المفاهيم والمرتكزات، بل صلة مترابطة، كما بين مفاهيم الولاء وحرية التعبير عن الرأي. هنا تأتي قيم الامتناع عن كل ما من شأنه الإساءة إلى الإدارة العامة، وقيم المبادرة أي القيام بكل ما تفرضه الخدمة العامة، وأحياناً تنقلب الحرية بالتعبير من حق إلى موجب يفرضه على الموظف ولاؤه المطلق للوظيفة العامة. إن مقاومة مخالفة القوانين ليست حقاً، وإنما موجب والتزام.
إن تصديق لبنان على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وعلى الاتفاقيات الدولية المتصلة بحرية الرأي كالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، يجعله ملزماً بتطبيق أحكام هذه الاتفاقيات كجزء من القانون الداخلي. من المهم التمسك بروح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان القائمة على أن النظام نفسه يخضع لحقوق الإنسان، ولا يخضع الإنسان لمشيئة النظام.
تشكّل حرية التعبير عن الرأي، وهي مكرّسة في الشرع والمواثيق العالمية، إحدى الركائز الرئيسية في الديمقراطيات الحديثة، وأحد الشروط الأساسية لتقدّم وتطور المجتمع، إلا أنها ليست مطلقة، ويجب أن لا تخرج عن إطار عدم المسّ بالمصلحة الضرورية للدولة. تُعتبر حرية الرأي للموظف العمومي من المبادئ الدستورية العامة التي يعمل القضاء على كشفها وإعلان إلزاميتها، بحيث يتعين على الإدارة احترامها وعدم الخروج عليها، فإذا عملت الإدارة على مخالفة تلك المبادئ لسبب لا يتعلق حصراً بالمصلحة العامة، كان عملها انتهاكاً لمبدأ المشروعية واعتُبر تصرفها غير مشروع.
تتباين الأنظمة حول حرية الرأي للموظف العمومي حسب قيمة حرية الرأي في المجتمع نفسه


إن حرية الرأي والتعبير معترف بها لكل موظف شخصياً، باعتباره مواطناً، وله بهذه الصفة ممارسة حقوقه المضمونة في الدستور على ألا تتعارض ممارسة الحق في الحرية مع التزام الخدمة العامة. إن حرية الرأي وحرية التعبير حريتان متلازمتان تكمل إحداهما الأخرى، فلا قيمة لأي رأي أو فكر أو معتقد بدون التعبير عنه، ولا تعبير بدون وجود فكر سابق تصوره أو اعتقده الإنسان.
يرى الفقه الفرنسي بأن للموظفين العموميين الحق في التعبير عن آرائهم بأي طريقة وبأي وسيلة طبقاً للنظام المعمول به، ولهم الحق في المشاركة السياسية في البلاد، وفي انتقاد الحكومة في طريقة عملها أو في خطتها الاجتماعية أو الاقتصادية، شرط التقيّد بموجب التحفظ في حالات محددة حصراً في القانون أو التنظيم. يرد على حرية الرأي والتعبير للموظف العمومي المكرّسة في الدستور والمواثيق العالمية، بوصفه مواطناً قيدان، الحياد والتحفظ.
ينبع مبدأ حياد الموظف العمومي من قاعدة حيادية المرافق العمومية التي يجب أن تتعامل مع جميع أبناء المجتمع، دون تمييز بين مواطن وآخر، ما يعني أن المرافق العمومية يجب أن تقدّم خدماتها فقط وفقاً للمصلحة العامة، وتالياً عدم إجراء أي تمييز بين مستخدمي المرافق العمومية. من موجبات مبدأ التحفظ أن الموظف أثناء تعبيره عن آرائه يجب أن يتصرف بحكمة واعتدال، وأن يلتزم بكتمان سر المهنة أو أسرار الأشخاص.
لا تزال مسألة حدود حرية التعبير عن الرأي من قبل الموظفين العموميين تتأرجح وتصطدم في الغالب بموجب التحفّظ والسرية المهنية الملقى على عاتق الموظف العمومي، من هنا التزام الموظف العمومي، لدى التعبير عن رأيه، حدود الاعتدال في التعبير، بما لا يسيء إلى المرفق العام أو ينتج عنه إفشاء لأسرار الإدارة أو خصوصيات الأفراد. مع الانتقال من إدارة صامتة إلى إدارة موصلة للمعلومات، فاقت أهمية حرية التعبير أهمية موجب التحفظ والتزام السر المهني، وإذا كان هذا الموجب لا يزال قائماً ومطلوباً، فذلك حيث تدعو الحاجة، وفقط حيث تدعو الحاجة.
كرّس الاجتهاد الإداري المصري قاعدة يحتذى بها، مفادها أن المعوّل عليه في مدى اعتبار قيام الموظف العمومي بالنشر مشروعاً عن عدمه، هو أن لا يتضمن النشر ما ينطوي على مخالفة الدستور أو القانون أو المصلحة العامة أو إساءة استعمال الحق، وأن للموظف حقاً على الإدارة بحماية حرية التعبير عن رأيه وأدائه لموجباته. وارتكز في ذلك إلى أن الدساتير المصرية المتعاقبة حرصت على كفالة حرية الرأي للمواطنين، ولا شك في أن الموظف العام بوصفه مواطناً يسري عليه ما يسري على بقية المواطنين، وأن الوظائف العامة، كما هي حق للمواطنين، هي تكليف للقائمين بها لخدمة الشعب.
إن حرية الرأي لدى الموظف تمثل انعكاساً لحرية الرأي في المجتمع ككل، لذلك كان من الطبيعي أن تتباين الأنظمة المختلفة حول حرية الرأي للموظف العمومي، وفقاً لقيمة حرية الرأي في المجتمع نفسه.
تُعتبر حرية الرأي للموظف العمومي من الحريات الأساسية اللصيقة بالإنسان، تالياً للموظف بوصفه مواطناً، تُقرّها المبادئ الدستورية العامة، كما النصوص والمواثيق الدولية. فالوظيفة العامة لا تنزع عن الموظف صفة المواطن بل تجعله أكثر التصاقاً بها، باعتبار الوظيفة العامة خدمة عامة، وإذا كانت حرية الرأي للموظف تندرج في إطار المصلحة العامة، وتدخل ضمن توصيف كشف الفساد والمفسدين والفاسدين، فيجب على الإدارة تأمين وحماية هذه الحرية بالرغم من أية نصوص، وضعت أصلاً لتكفل وتضمن حمايتها، فالدستور والمواثيق ذات الصلة نصّت على أن يؤمّن التشريع حماية حرية التعبير بما لا يمسّ بالمصلحة العامة، وليس قمعها. هذه هي الإرادة الحقيقية للمشرّع الدستوري، ولواضعي النصوص والمواثيق، هذه الإرادة تتعاظم اليوم في ظل الأزمة المالية والصحية والاقتصادية القائمة، وهي جزء لا يتجزأ من إرادة مكافحة الفساد وحماية كاشفيه، وأي تيار اجتهادي يصير في عكس الاتجاه لن يستمر ولن يستقر.
إن النصوص الدولية ذات الصلة بحرية الرأي، كما النص الدستوري، تبقى السند القانوني لهذه الحرية حتى تُعدل التشريعات وتُنقى من القطب المُخفاة، فتُنظّم هذه الحرية بشكل يجعل منها القاعدة، ومن حظرها الاستثناء المرتبط دائماً بالمصلحة العامة، ولا بد من نصوص صريحة تعتبر تقييد هذه الحرية خارج إطار مبرّراتها جريمة تعدٍّ على الحريات من نوع خاص لها عقوبتها الخاصة.

* المدير العام لإدارة المناقصات

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا